زنقة 20

لم يكد المجتمع المغربي يتعايش مع معاناة "الأمهات العازبات"، وصرختهن ضد رجال فضلوا التخلي عنهن وتركهن لوحدهن يتحملن مسؤولية تربية الأطفال، حتى طفت على السطح ظاهرة أخرى تثير الاستغراب تدعى"آباء عازبون".

عشيقتي دارتها بيا

جواد، شاب في الثلاثينات من عمره، يعمل نادلا في أحد الفنادق الضخمة، ربطته علاقة غرام بفتاة شابة، لم يتصور يوما أنه سيصبح أبا أعزب، معاقرته للخمر جعلته عنيفا مع عشيقته التي لم تكن حينذاك تتعدى الثامنة عشرة من عمرها، بعدما أنجبت، قايضته بأن تتنازل له عن الطفلة مقابل أن تنصرف هي عنه، ليجد نفسه بين يوم وليلة أبا بدون تخطيط. لكن سرعان ما استوعب بأنه قد أصبح أبا أعزب، مسؤولا عن رضيعة صغيرة تحتاج كل رعاية.
يحكي جواد عن تجربته بنوع من المرارة: "لم أتخيل أن تتنازل عشيقتي عن ابنتنا، لاسيما أنها كانت رضيعة، في البداية استغربت موقفها، فقد كانت حازمة في اتخاذ قرارها ومصرة على تنفيذه. بعد مرور الأيام، اكتشفت أن والدة ابنتي ارتبطت برجل آخر، وعرفت السبب الحقيقي وراء تنازلها عن ابنتها الصغيرة".
كرس جواد كل حياته لابنته "هبة"، فقد كانت تقطن معه في شقته المتواضعة، يقول بنبرة هادئة: "كنت أخاف عليها كثيرا، لم أكن أحب أن أراها تبكي أو أن ينقصها شيء. صحيح كنت فاشلا في تعليمها أصول التربية، لكنني أعتقد أنني كنت أبا صالحا" ـ يضيف جواد: "بلغت "هبة" الثانية عشرة من عمرها، أحس بالفخر كلما كبرت، وفي كل مرة أراها سعيدة، أحمد الله عليها، وأقول في قرارة نفسي إن هذه الفتاة هدية من الله.. والله يسمح لأمها".

أب بالإكراه

أما عادل، فهو شاب لم يتجاوز عمره السابعة والعشرين، ينحدر من أسرة محافظة من أكادير، عاصمة الجنوب، فضل العمل بنكيا بالدار البيضاء، ليستقل عن أسرته الصغيرة، التي تتكون من أب وأم، وشقيقة يكبرها بعشر سنوات. عادل لم يكن ضمن مخططاته أن يصبح أبا أعزب وهو لم يتجاوز العشرين. لكن بمجرد أن وطأت قدم الشاب الوسيم أرض الدار البيضاء، حتى أحس بنوع من نسمات الحرية تهب عليه، وبدأ يلاحظ أن مدينة بحجم العاصمة الاقتصادية للمملكة تسمح بأكثر مما كان مسموحا به في مسقط رأسه .
وهكذا جرب عادل كل أنواع النساء، فالشاب الذي يتمتع بقدر كبير من الوسامة، كان يتباهى بعدد الصداقات التي كانت تربطه مع الجنس اللطيف، خاصة وأنه كان يقطن لوحده بشقة صغيرة وسط حي راق بالمدينة. يقول بنبرة هادئة وواثقة: "لم أتصور يوما أنني سأكون أبا لطفل تخلت عنه والدته بعد علاقة عاطفية دامت خمس سنوات"، يواصل عادل حديثه بنفس نبرته الغاضبة "حاولت أن أتخلص من الطفل خاصة وأنني لم أرتبط بوالدته رسميا" ثم يستطرد قائلا "لم أفكر يوما أن أتزوج من امرأة كانت لي سابقا علاقة جنسية معها".
يحكي عادل أنه اندهش لتصرفات عشيقته بعدما تخلت عن جنينها وتركته لوالدته بدون أن يعلم أين هي، بحث عنها طويلا لكنه لم يجدها، يقول:"لم أتردد في البحث عنها، لكنني لم أجدها، لاسيما وأنني لم أكن أعرف جيدا جميع معارفها".
مضت تسعة أشهر ولم يتصل عادل بصديقته، لقد كان حاسما في موقفه بعدم الاعتراف بالجنين، لكن فجأة اتصلت به والدته وأخبرته بأن الفتاة اتصلت بها، وحدثتها عن علاقتها مع عادل، ويجب عليه أن يعترف بغلطته ويتقبل طفله، بعدما هددته بأنها ستغضب عليه كليا إن لم يقم بذلك. صدم عادل من جرأة الفتاة، لم يكن يتخيل بأنها ستقوم بخداعه بهذه الطريقة، هو الذي كان يدرس كل خطوة يقوم بها في حياته، وجد نفسه أبا لرضيع، دون أم ترعاه، لم يتصور يوما أنه سيتحمل مسؤولية طفل من فتاة كانت مجرد متعة، يقول بنبرته الهادئة: "مضت سنتان على قصتي، حاولت والدتي أن تقنعني بالزواج، لكنني لم أستطع القبول، فأنا أخاف أن أفشل مرة أخرى، انتقلت والدتي إلى العيش معي، لكي تساعدني على تربية الطفل، اعترفت به، لأنني كنت مرغما على ذلك، حاولت التخلص منه، لكنني لم أستطع".
تغيرت حياته كليا بعدما أصبح أبا أعزب، فهو يقول :" كنت شابا مستهترا، غير مبال، كانت لي علاقات جنسية متعددة، بصراحة كنت أتباهى بكوني أستطيع أن أنال إعجاب أية فتاة، لم يكن الارتباط ضمن مخططاتي".
في البداية لم يتقبل عادل كونه أبا أعزب، تردد على أطباء نفسيين، لكي يساعدوه على التأقلم مع وضعه الجديد، لكنه سرعان ما تقبل الطفل الذي اعتبره ثمن علاقاته العابرة.

هل يتحولون إلى ظاهرة؟

لا توجد أرقام أو إحصائيات توضح عدد الآباء العزاب، إلا أنها أصبحت ظاهرة اجتماعية تثير الانتباه، وتختلف حولها وجهات النظر، فالبعض يرى أن هذه الفئة من المجتمع لا توجد بالمرة، لأن الرجال عادة ما يرفضون تحمل مسؤولية طفل ثمرة علاقة جنسية غير شرعية، لكن البعض الآخر، يرى أنه من الممكن جدا أن يعترف الرجل بأبوته تجاه الطفل أو الطفلة بالرغم من أنه خارج إطار الزواج، لكن القاسم المشترك بين وجهات النظر المختلفة، كون أفراد المجتمع المغربي ينظرون إلى هذه الشريحة من المجتمع نظرة فخر، لأن الرجل أخيرا يتحمل مسؤوليته.
استغربت نسرين كثيرا عند سماعها عن وجود آباء عزاب في المجتمع المغربي، الشابة التي تبلغ من العمر 20 سنة، تقول في دهشة: "نسمع كثيرا عن ظاهرة الأمهات العازبات، وعن معاناة هؤلاء الأمهات، لكنني لم أسمع يوما عن آباء عزاب، إذ في نظري لا يعقل أن تتخلى أم عن جنينها.. بصراحة لا أستطيع التصديق".
أما رأي عدنان فيختلف كثيرا عن رأي نسرين إذ يؤكد بأن العامل الاقتصادي هو السبب في تخلي الأم عن جنينها، وتركه لأبيه لكي يعترف به ويتحمل مسؤوليته، يقول "صحيح يوجد في المجتمع آباء عزاب، وهذا ناتج عن تغيير في العقليات وتطور بنيات المجتمع، فالمرأة أصبحت تعمل، وأصبحت حرة في اتخاذ قرارتها، لا أستغرب إن تخلت عن طفلها لشريكها، لكي تتابع مسار حياتها دون إزعاج".
حالات التخلي تتسبب في محن لا تطاق بالنسبة للأمهات وأطفالهن على حد سواء. وتفرز أطفالا تسعى جمعيات قليلة مثل جمعيتي "إنصاف" أو "التضامن النسوي" بالدار البيضاء، منذ سنوات إلى إنقاذهم.

أبوة حلال.. وأمومة حرام

حمل بدون زواج يعني الفضيحة ومتابعة القانون وتهميش الأم الحامل وإقصائها اجتماعيا، لكنه لا يحمل الوجه ذاته بالنسبة لشريكها، الرجل المستثنى من كل أنواع العقاب الاجتماعي، ليبقى بعدها "عزري الدوار" الأب العازب الذي يمتطي صهوة جواده مزهوا بفتوحات جنسية لا تنقضي.
وتتحدث نبيلة التبر مديرة جمعية" إنصاف"، عن نفسية الأمهات العازبات اللواتي يفدن على المؤسسة: "أغلبهن محبطات عند اتصالهن لأول مرة بالجمعية، يدركن مدى خطورة وضعيتهن على مستقبلهن في مواجهة مجتمع مازال لايتقبل مثل هذه الأقدار"، مضيفة "الكل يتحدث عن "الأم العازبة ولا أحد يتحدث عن "الأب العازب ..وهو ذلك الأب الذي استغل أو شارك رفيقته في الفعل الذي يصطلح عليه شرعا ب  "الزنا" بعيدا عن أي محمول تنقيصي في اللفظ أيضا..وهنا نقطة مهمة جدا يجليها التساؤل التالي: لماذا لا يقابل الزاني بتلك النظرة الاحتقارية التي تقابل بها الزانيات؟ والجواب : أن الثقافة الاجتماعية البالية والتي تختص بهيمنة الرجل وسيطرته وأفضليته على المرأة جعلت الرجل ذلك البطل الشاطر الذي استطاع قضاء وطره من تلك المرأة، نعم هي ثقافة متمركزة حول الرجل قوبلت بحركة متمركزة حول الأنثى..ولو كان المجتمع متشبعا بالقيم الإسلامية الأصيلة بعيدا عن توظيف الثقافة الذكورية التي تفترض صراعا تاريخيا بين الذكر والأنثى.
أما وجهة نظر علم الاجتماع فيلخصها علي الشعباني بالقول إن صورة "الأب العازب" صورة مبجلة في مجتمعنا غير قابلة للحساب، ومن ثمة فهي بعيدة عن كل تلك الحمولات الاحتقارية التي خص بها المجتمع الأم العازبة، ولن يستطيع الناس لو أرادوا تسوية الرجل الزاني بالمرأة الزانية في إطار "المساواة الاحتقارية"، لن يستطيعوا تغيير الصورة النمطية والأحكام القيمية الظالمة لأنها لصيقة بالبنية الثقافية للمجتمع .
من جهته يرى ابراهيم لقماني أستاذ الدراسات الإسلامية بجامعة الحسن الثاني أن "الأم العازبة" و"الأب العازب " كلاهما شريكان في فعل لم يدع إليه شرع أو عقل صحيح سليم، لأن المجتمع السوي ينبغي أن يبنى على علاقات سوية بين أفراده وإلا ضاع واندثر وانتهى..مؤكدا أن ثمة أسبابا أفرزت مجتمعات شكلية أفرادها يعيشون وحدات منفصلة، ولعل من بين هذه الأسباب جعل الجنس مقصودا بحد ذاته.

التحقيق لـ مجلة مغرب اليوم.