ما وراء زيارة هولاند لمحمد السادس. سياسة "عطيني نعطيك" بين المغرب وفرنسا و"قليان السمٌ" لحكومة الخوانجية
زنقة 20
عبد الرحيم أريري
السياسة هي فن التوقع، وهذه القاعدة لم تدركها النخب السياسية والنخب المالية والتقنوقراطية ببلادنا، إذ في أوج الحملة الانتخابية الرئاسية كان قلب النخب المغربية يخفق مع نيكولا ساركوزي بدعوى أنه صديق المغرب و«حامي» مصالح المغرب في فرنسا و«المؤتمن» على أسرار المغرب في الخارج شأنه شأن كل رؤساء اليمين الذين حكموا فرنسا، وهو ما أدى إلى تعامل النخب المغربية مع احتمال إعادة انتخاب ساركوزي كرئيس جديد لفرنسا كمعطى محسوم، بشكل جعلها (أي النخب السياسية والمالية والتقنوقراطية المغربية) تتعامل ببرودة بل وبجفاء مع فرانسوا هولاند كمرشح للاشتراكيين. ربما وقع الجفاء بدافع التراكم الأسود الذي تركته تجربة فرانسوا ميتران وزوجته وما تركته تجربة حكومة ليونيل جوسبان في علاقتها المتأزمة مع المغرب. إلا أن نتائج الانتخابات الرئاسية الفرنسية الأخيرة التي منحت الفوز لهولاند قلبت الموازين والحسابات وجعلت النخب المغربية تتعرض للصدمة، خاصة وأن فرنسا (شاء من شاء وأبى من أبى) هي الشريك الاستراتيجي الأول للمغرب من جهة والحاضنة لثلث المغاربة المهاجرين بالعالم من جهة ثانية والماسكة للعلبة السوداء لكل قضايا المغرب من جهة ثالثة بحكم ماضيها الاستعماري.
لكن الحرب على مالي وما ميزها من انخراط قوي للجيش الفرنسي تحت قيادة فرانسوا هولاند كانت فرصة لإعادة التوهج للعلاقة بين البلدين، خاصة وأن المغرب كان من أولى الدول التي دعمت هذا التدخل لمواجهة الحركات الإسلامية المتشددة التي استولت على شمال مالي كله، وهو الدعم الذي جاء تتويجا للتحذيرات التي ما فتئ المغرب يوجهها منذ مدة منبها إلى الانزلاقات الخطيرة التي تحدث بدول الساحل الإفريقي، لدرجة أن المراقبين لم يترددوا آنذاك في وصف هذا الشريط بـ«ساحلستان» نسبة إلى باكستان وأفغانستان ووزيريستان الخاضعة كدول وكمناطق لسيطرة الطالبان والحركات الأصولية المتطرفة.
هذا الدعم كان يمكن اعتباره تتويجا عاديا لمسار الموقف المغربي لو لم يظهر مستجد آخر، ألا وهو تنصيب الحكومة الملتحية بقيادة عبد الإلاه بنكيران، إذ أن هذه الحكومة والمحرك الإيديولوجي للحزب الأغلبي (حركة التوحيد والإصلاح) كان لهما موقف آخر، حيث ترددت الحكومة الملتحية طويلا في الإعلان عن موقف واضح مما يجري في مالي، فيما تبرأت حركة التوحيد والإصلاح أصلا من التدخل العسكري الغربي في مالي داعية إلى «نصرة الإخوة في غاو»! وهو الموقف الذي أملته حركة الإخوان المسلمين على كل أتباعها والدائرين في فلكها في العالم العربي (مصر+سوريا+تونس+حكومة بنكيران).
في هذا السياق يمكن وضع زيارة هولاند للمغرب، ويمكن فهم التحضيرات المغربية الرسمية المصاحبة لها (تزيين +تهيئة+إلقاء خطاب بالبرلمان...إلخ) فمن جهة هي فرصة لترميم جرح الحملة الانتخابية الفرنسية التي اصطفت فيها النخب المغربية مع ساركوزي، ومن جهة أخرى هي فرصة ليرد فرانسوا هولاند الجميل للمغرب الرسمي الذي اختار الاصطفاف وراء الحملة الدولية لاجتثاث الإرهاب وتقديم درس للحكومة الملتحية التي لا تفهم في الجيوبولتيك «حتى وزة».
وحتى يكتمل المشهد الاحتفالي و«قليان السم» للحكومة الملتحية أبى فرانسوا هولاند أن لا يدشن أي مشروع بالمغرب سوى مشروع واحد أنجزته شركة «ليدك» بالدار البيضاء المتمثل في محطة تصفية المياه العادمة ببلدية مديونة (انظر الإطار رفقته)، علما بأن الشركة الأم لـ «ليدك» (سويز البيئة) هي من الشركات الدولية الدائرة في فلك اليمين الفرنسي، ولكن لما يتعلق الأمر بالمصلحة العليا لفرنسا فإن التمايزات السياسية بين يمين ويسار تذوب. وهو ما جعل فرانسوا هولاند يتبنى ملف ليدك ليس لإرسال «ميساج» لحكومة الإخوان «المفلسين» بقيادة بنكيران الذين يناصبون العداء لكل ما هو استثمار فرنسي بالمغرب، بل لإرسال «ميساج» للقصر مفاده أن فرنسا مع تثمين الموارد المائية كما حددها خطاب الملك محمد السادس في يوليوز 2009، بالنظر إلى أن محطة تصفية المياه بمديونة تعد الأولى بإفريقيا (باستثناء جنوب إفريقيا) التي تستعمل تقنية حديثة معروفة بتقنية التصفية بالأغشية (Filtration membranaire). وبالتالي تبقى محطة يراهن عليها المغرب لتعميم التجربة بباقي مدن المملكة، خاصة وأن الآفاق واعدة، بدليل أن مجموعة برادة والشركة العامة العقارية بدأت تستلهم نموذج محطة مديونة لجلب المياه العادمة من الدروة لإعادة تصفيتها من أجل سقي المدينة الخضراء ببوسكورة (خاصة ملعب الغولف) وتتحرك في هذا الاتجاه لإقناع وكالة الحوض المائي أبي رقراق وولاية سطات وإقليم النواصر بوجاهة هذا المشروع.
ليس هذا فحسب، بل إن يحيى بايا العامل بالنيابة لإقليم برشيد تأبط منذ حوالي أسبوعين ملف إنجاز محطة في برشيد تكون مماثلة لمحطة مديونة وأحاط نفسه بفريق من الخبراء للضغط على السلطات العمومية لتخصيص 25 مليون درهم كدفعة أولى للبدء في إنجاز محطة تصفية المياه العادمة لبرشيد (بتقنية الأغشية). وإن تحقق ذلك سيكون فرانسوا هولاند أول رئيس فرنسي يبارك المخطط البيئي للمغرب كما تم رسمه في الخطاب الملكي يوليوز 2009.
محطة مديونة.. النموذج القابل للتعميم
س والرئيس الفرنسي هولاند تعد أول تجربة بإفريقيا (ما عدا جنوب إفريقيا). وتم إنجازها بكلفة 141 مليون درهم لمعالجة 3800 متر مكعب من المياه العادمة في اليوم (حوالي 40 ألف نسمة بتراب مديونة والمجاطية)، وهي مؤهلة لمعالجة الضعف من الكمية عام 2030.
بناء هذه المحطة جاء بعد المخاطر التي سجلتها وزارة البيئة والماء بشأن التهديدات التي تطال سد واد حصار (أحد فروع واد المالح)، إذ لما تم بناء سد واد حصار عقب فيضانات المحمدية عام 2002 أصبحت حقينة هذا السد تتلوث بشكل هدد مصالح الفلاحين بالشلالات (عمالة المحمدية) فبدأت الشكايات تتقاطر على الديوان الملكي من طرف الفلاحين بشكل قاد وكالة الحوض المائي إلى إنجاز دراسة تقضي بوجوب إنجاز محطة لتجميع المياه العادمة لتصفيتها. إلا أن وزارة المالية اعترضت على إنجاز المحطة من طرف وكالة الحوض المائي أبي رقراق بدعوى أن القانون لا يبيح لها إنجاز هذا النوع من المنشآت البيئية، فاستقر رأي الأجهزة العمومية على مطالبة «ليدك» لتتولى المهمة، وهو الأمر الذي تم البدء فيه عام 2010، حيث تمت المناداة على شركة Degremont الفرنسية لإنجاز المحطة المذكورة، بالنظر إلى أن Degremont تعد من بين الشركات العالمية المشهود لها بالخبرة في هذا المجال وتتوفر على الملكية الفكرية والصناعية (Brevet) في هذا الباب، وسبق أن أنجزت هذه المشاريع بعدة مدن فرنسية (غراس + فيلفرانش) وأيضا في جنوب إفريقيا. المحطة المنجزة بمديونة انطلقت التجارب بها في يناير 2013 وينتظر أن تنتهي فترة التجريب في يونيو 2013 لتسليم المشروع للمدينة.