زنقة 20

هو صديق الجميع وضامن التوازنات والعلبة السوداء، والكابح لجماح رجل صار رئيس الحكومة على حين غرة، ووزير الدولة في البداية والنهاية، الذي أصبح منصبا معطّلا لإرضاء بنكيران... بعد ما يزيد سنة عن جلوس عبد الله باها على كرسي الوزارة.
جل المتتبعين لمسار الرجل، منذ أن ولجت قدماه دواليب السلطة في المغرب، ينقلون عنه أدواره الكبرى داخل حزب المصباح أكثر مما ينقلون عنه أدواره لصالح الحكومة ومؤسساتها.. يتحدثون عن قربه من رئيس الحكومة، وخدماته في الظل، أكثر من قبيلتها تحت الأضواء الكاشفة. فلاش كيصلاح منصب وزير الدولة الذي يعتليه الرجل؟ ألم يكن من الأفضل تعيينه على رأس ديوان بنكيران عوض استحداث منصب وزاري خاص بابن "سوس"؟.
عبد الله باها، وزير الدولة في حكومة عبد الإله بنكيران، والصديق المقرب منه طيلة 30 سنة من العمل المشترك داخل مختلف التنظيمات الدعوية والسياسية العلنية منها والسرية التي مر منها الرجلان. صفته الدستورية وزيرا للدولة، وأدواره الحقيقية منذ أن أعلن ميلاد حكومة العدالة والتنمية ضمان للتوازنات داخل حزبه، وتقديم المشورة لأمينه العام ورئيسه في الحكومة أكثر من خدمة عمل أجهزتها التنفيذية، هذا على الأقل ما ينقل ويذاع عن تحركات الرجل ومجالات تدخله.
وزير الدولة هو جهاز قائم بذاته، تقلده عبر التاريخ رجالات السياسة من مختلف الحساسيات، آخرهم وأبرزهم القيادي الاتحادي محمد اليازغي، وغيره. موقع وزاري، وإن كان بدون حقيبة، يخول لحامله التحرك في جميع الاتجاهات، والمساهمة في سياسات الدولة الداخلية منها والخارجية، وتكون هذه الأخيرة أكثر حضورا في "أجندة" وزير الدولة، فالكل يتذكر كيف أن وزراء الدولة كانوا يقومون بمهام دبلوماسية على نطاق واسع، ويكثفون من حضورهم بالخارج ضمانا لمصالح المغرب، مستفيدين من حقيبتهم الوزارية الفارغة، وكذا من رصيدهم ومواقعهم التي يحتلونها في المشهد السياسي الداخلي، بحكم أن أغلب من مروا بالمنصب هم قيادات سياسية وازنة من مختلف التوجهات، والتي كانت لها القوة الاقتراحية المطلوبة لممارسة مهمة السفير والممثل الدائم.
ولد باها، الذي ينحدر من عائلة أمازيغية "سوسية" سنة 1954، بمنطقة إفران (الأطلس الصغير) بإقليم كلميم، وتابع دراسته الابتدائية في مسقط رأسه، بعد ذلك حصل على شهادة الباكالوريا سنة 1975 بثانوية يوسف بن تاشفين بأكادير، ليتابع تكوينه العالي بمعهد الحسن الثاني للزراعة والبيطرة، ويحصل منه على دبلوم مهندس تطبيق في التكنولوجيا الغذائية سنة 1979، ليشتغل داخله أستاذا منذ تخرجه إلى غاية سنة 2002.
تقلد الرجل الثاني في حزب العدالة والتنمية هذا المنصب تنظيميا كنائب للأمين العام منذ سنة 2004 وإلى حدود اليوم.. تتغير القيادات داخل حزب الخطيب دون أن يتزحزح باها من موقعه، يتناوب صقور "اللامبة" على كرسي الزعامة ويتنافسون عليه، دون أن يغيروا هوية من يقف خلف القائد الأول.
موقعه القيادي داخل القيادة إرث من مساره السياسي، فقد شغل في السابق منصب عضو الأمانة العامة لحزب الحركة الدستورية الديمقراطية منذ 1996، وهي نتيجة طبيعية لمزاوجته كباقي قيادات العدالة والتنمية بين العمل السياسي والدعوي داخل حركة التوحيد والإصلاح، التي جرب داخلها مهاما قيادية عدة.
مرت على الحياة السياسية للخبير في التكنولوجيا الغذائية لقطات أذاقته مرارة الانتقال من دور المعارضة إلى الأغلبية. مواقف أظهرت أن الرجل سيد في الظل أكثر منه في الضوء، ورغم قلة خرجاته للعلن، فقد انتهت أغلبها إما بتدخل الشرطة لتخليصه من المحتجين أمام البرلمان وسحبه داخل سيارة الأمن بعد أن فشل في التواصل مع المعطلين الموقعين على محضر 20 يوليوز، الذي "تنصلت" منه الحكومة الحالية، حسب موقف الموقعين عليه.
لقد انتهت العديد من المحطات السياسية في مسار باها بالفشل، وعدم القدرة على إيصال الرسائل السياسية المكلف بتصريفها كما يجب، آخرها تكليفه بالتسويق لمبادرة الحكومة الرامية إلى رفع الدعم عن المواد الأساسية التي يمولها صندوق المقاصة، إذ كانت تصريحات باها في موضوع المقاصة أقرب إلى الزعيم السياسي المنخرط في حملة انتخابية لفائدة حزبه من رجل دولة يسوق لمشروع اقتصادي وسياسي ضخم قد يشعل فتيل احتقان اجتماعي غير محسوب. ولم تتوقف متاعب صديق بنكيران عند حدود المغرب، بل تجاوزتها لتصادف زيارته لدولة موريتانيا استقبال رئيسها محمد بن عبد العزيز مبعوث "البوليساريو" محمد سالم، بل تعمدت السلطات الموريتانية إبراز هذا اللقاء على اللقاء الذي جمع باها برئيس إحدى الدول الحليفة للمغرب في المنطقة.
عبد الله باها يلتقي الرئيس المصري محمد مرسي كي يشرح له موقف المغرب من توصية صلاحيات بعثة "مينورسو" في الصحراء لتشمل مراقبة حقوق الإنسان، وينتزع دعما عربيا غير مسبوق بقيادة مصر ودول الخليج لفائدة المغرب... باها يطير على عجل إلى تركيا مستغلا قرب حزبه من الحزب الحاكم في بلاد الترك، لحث الرئيس رجب طيب أردوغان على دعم المغرب في أوروبا والمنطقة للتسويق القوي لمقترحه حول الحل النهائي لملف الصحراء المغربية، ويقنع العديد من الوزراء الأتراك بزيارة المغرب لتقوية العلاقات وجذب التمويلات التركية... باها يستقبل وفدا رفيع المستوى من عدة دول، ويفتح قنوات التواصل مع السفراء المعتمدين في المغرب لشرح موقفه الرافض للمس بالسيادة الوطنية على صحرائه. عناوين متخيلة كان من اللازم أن تتصدر صفحات الجرائد، وأن تنقل كل يوم منذ أن أعلن عن نية تقديم مشروع توسيع صلاحيات "المسينورسو"  في الصحراء، هي أدوار منتظرة بقوة الموقع من عبد الله باها، ومن طبيعة الخلفية السياسية للرجل ولحزبه، والتي غدت مؤثرة بوصول "الإسلاميين" وزحفهم على مواقع السلطة في بعض الدول العربية والإسلامية، لكن حصل عكس ذلك، لنجد أن من تقلدوا نفس منصبه في السابق هم من يخرجون بتصريحات سياسية لها وزنها في الخارج، وتحمل بدهاء رسائل سياسية تنبه من مغبة السير في طريق تبني مجلس الأمن للتوصية الأمريكية أو تشبث هذه الأخيرة بها.
لم يغير باها شكله الخارجي، ولعله الوحيد من الوزراء الملتحين في حزب المصباح من حافظ على لحيته كما عرف عنه قبل الاستوزار، كما لم يغير طيلة المدة التي قضاها داخل الحكومة من مسافة قربه من بنكيران، بل بقي قريبا ولصيقا به كظله لا يفارقه، وشوهد أكثر من مرة يسر له وينبهه من "المكر والظلم والمكائد" التي قد تصيبه.
 ينص الفصل 87 من دستور 2011 على ما يلي: "تتألف الحكومة من رئيس الحكومة والوزراء، ويمكن أن تضم كتابا للدولة. يُحدد قانون تنظيمي، خاصة، القواعد المتعلقة بتنظيم وتسيير أشغال الحكومة والوضع القانوني لأعضائها". هذا الفصل من الدستور واضح، ويحدد هياكل الحكومة في ثلاث دعائم وهي: رئيس الحكومة، الوزراء، مع إمكانية ضم كتاب للدولة، فليس هناك في الدستور المغربي الجديد أي إحالة أو تلميح وتعويم لأحد فصوله لفتح المجال أمام وزارات السيادة والوزراء بدون حقيبة، انسجاما مع منطوق دستور فاتح يوليوز وروحه، الذي أقر مبدأ اقتران المسؤولية بالمحاسبة. على ماذا سنحاسب باها في مهامه؟ وأين هي المهام الدستورية التنفيذية التي سنحاسبه عليها؟
الكل يتذكر اللغط الذي رافق تشكيل حكومة بنكيران، ويتذكر معه ما نقل عن رئيس الحكومة حين محاولته لإحداث مؤسسة رئاسة الحكومة يكون فيها باها نائبا، وهو ما لم يتسن للأمين العام لحزب العدالة والتنمية فرضه، ليحيل بعدها صديقه على منصب وزير الدولة كي يضمن بقاءه بقربه، فإذا كانت هذه هي غاية بنكيران، ورغبته في نهاية المطاف من اقتراح نائبه في الحزب في هذا المنصب، كان حريا بقائد الأغلبية تعيينه مديرا لديوانه، على الأقل سيكون أكثر قربا في ممارسة مهامه في الظل كما يحلو له ذلك، أو كان على بنكيران استثمار معرفة الرجل العلمية والعميقة في مجال الزراعة والبيطرة وتجربته في ميدان التكنولوجيا الغذائية، ويقترحه في منصب وزير الفلاحة والصيد البحري... كان سيضرب بذلك بنكيران عندها أكثر من عصفور بحجر واحد، العصفور الأول هو عدم إحراج الوزير الحالي أخنوش وإخراجه من تحت عباءة حزب الأحرار كي يلتحق بالحكومة، والعصفور الثاني ضمان موقع لصديقه داخل الحكومة كي يبقى بقربه، والعصفور الثالث القطع مع ما قطع معه الدستور الجديد في خلق مناصب وزراية بدون مهام دستورية محددة، أما العصفور الرابع فهو تقديم خدمة جليلة للمغاربة بأن يمسك خبير في الزراعة والبيطرة والغذاء مستقبل أمنهم الغذائي.
ويبقى السؤال الأخير أمام كل ما سبق: لاش كيصلاح إذن وزير الدولة عبد الله باها؟.

عن مجلة "مغرب اليوم".