زنقة 20

- من يعرفون تفاصيل مكتبك في «لوبينيون» يذكرون صورة طفلة، كتبتَ مرةً مقالا تطالب فيه المسؤولين بإنقاذها من إصابتها بمرض في القلب؛ ما علاقتك بهذه الطفلة؟
< الطفلة هي نهيلة، وكانت في السادسة من عمرها. ذات يوم من سنة 2003، زارني في مقر الجريدة رجل وامرأة وبصحبتهما طفلة، أخبراني بنوع المرض الذي أصاب قلبها، وأضافا أنها محتاجة إلى إجراء عملية جراحية تتطلب مبلغا ماليا كبيرا. ناديت على صحافي وطلبت منه أن يستمع إلى مرافقي الطفلة ويكتب إعلان طلب مساعدة. وبعدما انصرفوا، انتابتني حالة ندم وطفقت أوبخ نفسي قائلا: «هؤلاء الناس قصدوك، فبعثت بهم إلى صحافي آخر.. ما الذي تقوم به أنت.. هل تصنع الصواريخ...»، وعلى التو ناديت حارس الجريدة وطلبت منه أن يلحق بالطفلة ومرافقيها ويعيدهم إلى الجريدة.. استلمت منهم الوثائق الطبية التي بحوزتهم وبعدما قرأتها وجدت أن الطفلة تحمل عيبا خلقيا في القلب لن يمكنها معه العيش -في حالة عدم إجراء عملية تقويمية- أكثر من ستة أشهر إضافية. ما الذي عساني أقوم به لإنقاذ هذه الطفلة، تساءلت؟ وللحظة، أشرقت في ذهني فكرة.. أمسكت ورقة بيضاء وكتبت إلى الأميرة للا مريم (رئيسة الجمعية المغربية لدعم ومساندة اليونيسيف ورئيسة المرصد الوطني للطفل)، حددت لها طبيعة مرض نهيلة، ثم طلبت منها التدخل من أجل إنقاذها. وختمت الرسالة على هذا المنوال: «عندما تنهون قراءة هذه الرسالة ستكونون مطلعين على حالة هذه الطفلة مثلي، ومسؤولين عن حياتها مثلي.. أنا الآن لم أعد مسؤولا لوحدي.. لذلك ألتمس منكم التكفل بما تحتاجه الطفلة من علاج في مستوصف خصوصي وليس في مستشفى عمومي، نظرا إلى خطورة حالتها». وقعت الرسالة وسلمتها إلى سائق الجريدة ليحملها إلى السيدة المرابط، مديرة ديوان الأميرة للا مريم، وهي، بالمناسبة، سيدة غاية في الإنسانية واللباقة. قبل أن أودع المرأة والطفلة والرجل الذي معهما، سألت الأخير عن علاقته بنهيلة فأخبرني بأنه صيدلي في تمارة وأنه يصحبها لأنه يتوفر على رقم هاتف، فوالد نهيلة مجرد صياد بسيط، قال الصيدلي؛ ووجهت نفس السؤال إلى السيدة فأخبرتني بأنها عمة نهيلة، وأنها عاملة في فرنسا. بعدها ودّعاني وانصرفا.
- ما الذي حدث بعدها؟
< في حوالي الرابعة بعد الزوال من نفس اليوم رن الهاتف. كان المتصل هو السيدة المرابط، مديرة ديوان الأميرة، التي قالت لي: لقد سلمت رسالتك إلى للا مريم فأجابت: «منردهاش في وجهو». أضافت السيدة المرابط: يجب أن تحضر الطفلة على الساعة الثامنة صباحا إلى مصحة سلا، قسم أمراض القلب، وتحديدا عند الدكتور الصفار. وقد تكفلت الأميرة بكل شيء.
- المعروف هو أنك كتبت مقالا على الصفحة الأولى من «لوبينيون» استعرضت فيه حالة الطفلة نهيلة..
< نعم، بعدما وجهت الرسالة سالفة الذكر إلى الأميرة للا مريم، عدت لأكتب ورقة أتحدث فيها عن حالة هذه الطفلة، لأنني لم أكن متيقنا من أن الأميرة سوف تقرأ رسالتي في الوقت المناسب، وستتعامل معها بنفس الجدية والسرعة؛ لذلك نشرت مقالي من منطلق «إيلا ما صدقت هنا تصدق لهيه»؛ وبالفعل، فقد تلقيت، صباح اليوم الموالي، اتصالا من القصر الملكي يقول إن الملك قرأ مقالي وإنه مستعد لتحمل مصاريف عملية الطفلة نهيلة، فأجبت محدثي: «الملك الله يجازيه بخير.. لقد تكفلت شقيقته للا مريم بكل المصاريف». بعد ذلك الاتصال، كلمني الدكتور الصفار قائلا: حالة هذه الطفلة غاية في التعقيد، ولا أظن أنها ستعيش.. أولا، يجب إخضاعها لعلاج بالأدوية، قبل أن نقرر ما إذا كانت حالتها تسمح بإجراء عملية لها. ثم أضاف الدكتور الصفار: في حالة إجراء العملية فإن إمكانية نجاحها لن تتجاوز 10 إلى 15 في المائة؛ فأجبته قائلا: «إذا لم تجر العملية للطفلة فسوف تموت، وإذا أجريت فسوف يكون بالإمكان إنقاذها بنسبة 10 أو 15 في المائة كما تقول، وأطلقت ضحكة، قبل أن أضيف: أنا رجل «مجدوب» وأؤكد لك أن نهيلة سوف تعيش، لأن الله قرر ذلك، انظر إلى توالي الوقائع: «أنا آش جابني للأميرة نكتب ليها.. وعلاش عيطت على هاذ الناس بعدما غادرو الجريدة، و.. و.. و..». بعد أيام، دخل المحامي عبد الرحيم الجامعي إلى نفس المصحة، بعد إصابته بمشكل في القلب فذهبت لزيارته، والتقيت صدفة بالدكتور الصفار فقال لي: خالد هل نسيت صاحبتك؟ وبلمحة مني، رأيت نهيلة تركض قادمة في اتجاهي، هي التي لم تكن تقوى على الوقوف؛ فأردف الدكتور الصفار: لقد نجح العلاج بالدواء، وسوف نجري لها العملية وثمة حظوظ كبيرة لنجاحها؛ قبل أن يضيف: إن رقة الطفلة وخفة روحها جعلتا كل من بالمصحة يحبها ويتعاطف معها.
- لماذا كنت تعلق صورة الطفلة نهيلة على جدار مكتبك في الجريدة؟
< نسيت أن أخبرك بأنني أخذت صورة لنهيلة خلال أول زيارة قامت بها رفقة عمتها والصيدلي لمكتبي، وهي الصورة التي احتفظت بها وأبقيتها معلقة على جدار مكتبي لسنوات، سواء عندما كانت الجريدة في شارع علال بن عبد الله أو في المقر اللاحق بطريق تمارة. بعد هذه الواقعة بسنوات، وبينما أنا أحتسي قهوتي في مقهى «بول» بالرباط، جاءني شخص والتمس الحديث معي في أمر ما، فطلبت منه أن يتركني لحالي على أن أستقبله في
مكتبي بالجريدة. وعندما دخلت مكتبي جاء ذلك الشخص رفقة سيدة وفتاة مراهقة. وعندما سألت السيدة عن غرض الزيارة، أجابت: هذه هي صاحبة الصورة التي تعلقها في مكتبك. قلت: كيف؟ أين كنت كل هذه السنين؟ فقالت إنها تعيش في فرنسا رفقة عمتها وإنها حصلت على الجنسية الفرنسية. ومنذ ذلك الحين ونهيلة تتصل بي باستمرار، وقد تبنيتها، وهي تناديني «طون طون» أو «بابا»، وقد حصلت على الباكلوريا، وهي الأولى في فصلها. وأنا دائما أقول لنهيلة: لقد أراد الله أن تعيشي وأن تصلي إلى مراتب
مهمة.