زنقة 20

كانت التفجيرات الإرهابية التي شهدتها مدينة الدار البيضاء سنة 2003 وراح ضحيتها 45 قتيلا، لحظة فارقة في تاريخ السلفية في المغرب. فقد أدت تلك الأحداث إلى اعتقال ثلاثة آلاف شخص ينتمون إلى ما يسمى بـ"السلفية الجهادية"، بتهم متعلقة بـ"الانتماء لجماعات إرهابية والإعداد لقلب النظام واستهداف المناطق السياحية لضرب الاقتصاد الوطني".

وبخلاف ما جرى في بعض البلدان العربية كمصر والسعودية من طي ملف التيار السلفي الجهادي بالحوار والمراجعات الفكرية، كانت السلطات المغربية تعتمد فيما سبق على أساليب الضربات الاستباقية في تعاملها مع المتشددين.

بيد أن الأمر تغير في الآونة الأخيرة، بعد أن ظهرت وساطات حزبية لحل الملف، وانتهى الأمر بتأسيس أكبر هيئة داخل السجون وتضم حوالي 400 معتقل سلفي يعلنون نواياهم لنبذ العنف والغلو وقبول الديموقراطية والانفتاح على كل التيارات في المجتمع.

موقع "راديو سوا" يحاور لأول مرة أهم القيادات السلفية داخل السجون المغربية وينقل رواية الحكومة والأحزاب السياسية التي تبنت مبادرة الحوار مع الجهاديين، بالإضافة إلى آراء المختصين في شؤون الجماعات الإسلامية.

"أخطأنا.. واليوم نعلن التوبة"

في الأرضية التأسيسية للهيئة الجديدة يؤكد المعتقلون الإسلاميون أنهم يرحبون بجميع أطياف التيار السلفي "الذين راجعوا أفكارهم المتطرفة الداعية إلى العنف كأسلوب لتغيير الأوضاع السياسية والاجتماعية".

ويعتبر الموقعون على البيان التأسيسي أنهم "متشبعون بقناعتهم المنفتحة على المجتمع والمعترفة بالنظام الملكي المغربي والإسلام على الطريقة المغربية بدون غلو ولا تطرف"
ويعلنون أنهم راجعوا أفكارهم وانتهوا إلى التوبة عن الأخطاء السابقة.

وفي رسالة بعثوا بها إلى وزارة الداخلية المغربية، شدد الموقعون على هذا البيان التأسيسي على أنهم "يدخلون أفواجا في تنظيم جديد سهر عليه أحمد راكز المحامي عن المعتقلين وعضو اللجنة التحضيرية لهيئة المحامين الوسطاء بالتصالح الوطني، وأنهم يتوبون بدون تقية أو إكراه".

وتعتبر هذه أول مرة يتم فيها تأسيس تنظيم بهذا الحجم في السجون المغربية، يضم سلفيي السجون المغربية من أجل وضع مبادرة المصالحة بيد الدولة، وتجاوز العقبة التي كانت تعترض الحوار بين الدولة والسلفية الجهادية، والتي لخصها عبد القادر بلعيرج، المعتقل الإسلامي المحكوم بالمؤبد بتهم الإرهاب والجريمة المنظمة، في أحد تصريحاته للصحافة في "تحجج الدولة بغياب المحاور الرئيسي في قضية المعتقلين الإسلاميين".

حسن الخداوي، وهو معتقل ضمن خلية خلدن (أحد المعسكرات في أفغانستان) التي تزعمها الفرنسي روبير ريشار، يقول "أنا أحد أعضاء لجنة المراجعة والمصالحة في السجون المغربية، لقد أخطأت في حق بلادي ووطني وأهلي واليوم أعلن التوبة".

ويقر الخداوي، خلال مقابلة عبر الهاتف تمكن موقع "راديو سوا" من إجرائها معه من زنزانته في سجن طنجة المحتجز فيه منذ عام 2003، بأنه ارتكب أخطاء منهجية في قراءة النصوص الدينية، وهو اليوم يعلن توبته من التكفير الذي سبق وأن ألصقه بالنظام المغربي، وأحيانا بالمجتمع ككل.

ويضيف "كان لنا طابع ثوري في تفكيرنا وأردنا التغيير بالعنف، غير أنه منذ قدوم الربيع العربي ونحن نؤكد على استحالة الحديث عن العنف كطريقة للتغيير".

ويدعو الخداوي، الذي اعتبرته السلطات المغربية بُعيد اعتقاله من أكبر المتشددين المغاربة والمكفّرين للنظام، إلى "إعادة قراءة القرآن والسنة وتجاوز القراءة الحرفية للنص الديني".

من جهته، أكد العضو البارز في لجنة المصالحة والمراجعة حسن بختي أنه كان ينتمي إلى تنظيم الاختيار الإسلامي، الذي تزعمه البلجيكي من أصل مغربي عبد القادر بلعيرج وقد دخل في اللجنة وينتظر عفو الملك، لأنه راجع أفكاره منذ مدة.

وأضاف في مقابلة عبر الهاتف مع موقع "راديو سوا" من زنزانته في سجن وجدة المحتجز فيه منذ عام 2008، "اعتقلوني بتهم ترجع إلى الثمانينات من القرن الماضي وهي سنوات عرف فيها المغرب تصاعدا للعنف من كل الأطراف: الدولة وقوى المجتمع".

ورفض بختي ما أسماه "تصرف الدولة غير المنطقي، لأنها تطلق سراح بعض المتشددين وتستثنينا نحن من يقبل بالديموقراطية وكل قيم المجتمع ولم يعد لدينا أي مشكل مع الدولة المغربية"، قائلا "مع الأسف كنت ضحية تصفية حسابات سياسية بين الكبار، وأطلقوا سراح الكبار واستثنوا الصغار".

ما يصدر عن الخدوي وبختي من أفكار يتبناه عدد كبير من المعتقلين الإسلاميين السلفيين، أي التيار الواسع الذي انخرط في مسلسل "المراجعات"، بخلاف تيار آخر متشدد يرفض الحديث عن "المراجعات"، ويعتبر أنه غير معني بها بتاتا، وهم من يسموا في المغرب بـ"أمراء الدم"، بسبب تورطهم في قضايا القتل، ورفضهم أي حوار مع الآخر.

وينفي الخدوي، المحكوم بالسجن المؤبد بتهم القتل ومحاولة القتل وتزعم تنظيم إرهابي، أن تكون المبادرة التي أطلقوها مجرد تقية تفرضها ظروفهم في السجون. وقال في حديث لموقع "راديو سوا " "عندما كنا شبابا يافعين أردنا قلب النظام بالعنف وتغيير المجتمع حسب طريقة فهمنا للنص، لكن سرعان ما اصطدمنا بالحائط"، معتبرا أن المراجعات الفكرية التي يقودونها في السجون "وليدة 30 عاما من التفكير مما يعني أنها نتاج قناعة راسخة".

واعترف الخدوي بأنه ارتكب أخطاء كثيرة، وهو اليوم يجهر بمراجعاته بدون خوف، مشيرا إلى أن "السلفيين وصلوا إلى نضج فكري غير مسبوق عندما فطنوا إلى أن مكانهم الطبيعي هو المشاركة في السياسة والتصالح مع السلطات تماما كما حدث للتيارات الإخوانية في العالم العربي"، في إشارة إلى جماعة الإخوان المسلمين.

وساطات حزبية

في خضم تفاعل ملف السلفية الجهادية داخل السجون، وبداية تشكل تيار المراجعات داخل الزنازين، وجه حسن الخطاب، المتهم بتزعم خلية "أنصار المهدي" والمحكوم عليه بـالسجن 30 عاما ، رسائل إلى مجموعة من قادة الأحزاب السياسية المغربية وعلماء الدين، داعيا إياهم إلى ضرورة النظر في حالة المعتقلين الإسلاميين في السجون.

وجاء في رسالة بعنوان: "نداء الأسرى إلى أولي النّهى" الدعوة التالية"إليكم نهمس في صمت مدلهم بليل القهر وسيناريوهات الظلم من أجل نصرة هؤلاء المستضعفين".

ووجه خطابه إلى  مجموعة من الدعاة وقادة الأحزاب، قائلا "إليكم أيها السادة الذين نثق في قدراتكم أن تكونوا فاعلين حقيقيين في إنهاء معاناتنا وإطلاق سراحنا فنحن نعلن التوبة من الأخطاء المنهجية التي سقطنا فيها".

وبالموازاة مع هذا الحراك، قام حزب النهضة والفضيلة (إسلامي معتدل)، وحزب الأصالة والمعاصرة (يميني حداثي) بمبادرة لزيارة المعتقلين الإسلاميين، ودفعهم إلى مراجعة أفكارهم وطلب العفو من الملك.

وقد أكد الأمين العام لحزب النهضة والفضيلة محمد خليدي  أنه حصل على الكثير من الطلبات والرسائل من طرف عائلات وأسر المعتقلين الإسلاميين وقام حزبه بـ "رمي الحجر في البركة، التي تجمدت منذ مدة طويلة" على حد تعبيره، مضيفا في حديث لموقع "راديو سوا" أن "حزب النهضة والفضيلة يقوم بدوره الهادف إلى الإنخراط في الحوار من أجل حل مشكلة اعتقال السلفيين".

ورغم أنه ينفي تلقي الضوء الأخضر من الدولة كما أشاعت بعض الدوائر السياسية في المغرب، إلا أنه لا ينفي مساعدة السلطات في فسح المجال أمام وفده لزيارة السجون.

وفي زياراته المتكررة لسجن مدينة سلا، قال خليدي إنه لاحظ أن اليأس تملك الكثير من المعتقلين، نظرا للمدد الزمنية الطويلة التي قضوها في السجن حتى الآن، مطالبا الدولة المغربية بـ"الإنخراط في حوار شامل من أجل مصالحة وطنية تقود إلى حل هذا الملف بشكل نهائي".

ترحيب حكومي

من جهته، رحب وزير العدل والحريات المغربي مصطفى الرميد بمبادرة السلفيين في السجون المغربية قائلا "نشجع هذه المبادرات وندعو إلى تحرك أقوى للمجتمع المدني لحلحلة الملف"، مضيفا "حينما تنضج الظروف بشكل كامل سنتعاطى مع هذه المبادرات بالطرق الرسمية".

وأضاف في مقابلة مع موقع "راديو سوا" أن "المبادرة جيدة لكننا لم نحصل حتى الآن على أي طلب رسمي من طرف هذا التنظيم"، مشيرا إلى أن الوزارة تدعو المجتمع المدني والمعتقلين إلى التحرك بشكل فاعل لدفع المشكل نحو الحل.

ورفض الوزير الإدلاء بتصريحات أخرى بخصوص رفض إصدار عفو ملكي عن الكثير من السجناء المنتمين للتيار الإسلامي، مكتفيا بالقول إن "الموضوع حينما ينضج بشكل كامل سأخوض فيه بتفاصيل أكبر".

يذكر أن الرميد كان محاميا عن العديد من السلفيين المتهمين بالإرهاب، وقام بعد تعيينه وزيرا للعدل بالتأكيد في تصريحات للصحافة المغربية أن "ملف السلفية الجهادية فوق طاقاته بسبب احترامه لقرارات القضاء".

ووعد الرميد المعتقلين بالاشتغال على الملف في حدود اختصاصاته كوزير للعدل دون أن يتقدم بأي وعد فيما يتعلق بمسألة الإفراج عنهم، مضيفا أن "اللجوء إلى العفو الملكي هو  الوسيلة الوحيدة لحل هذا الملف".

المراجعات بين القناعة.. والتقية

ويؤكد الخبير في الجماعات الإسلامية منتصر حمادة أن الكثير من السلفيين في السجون المغربية "أصبحوا يقودون مراجعات فقهية ونوعية، ويجب أن يلتفت إليها الجميع كبادرة حسنة تجاه طي قضية السلفية الجهادية".

وشدد حمادة، في مقابلة  مع موقع "راديو سوا"، على أن تسوية ملف ما اصطلح عليه إعلاميا بـ"سنوات الرصاص" في عهد الحسن الثاني، تم عبر بوابة الحوار، متسائلا "فما الذي يحول دون أن يتكرر نفس السيناريو من أجل التسريع بتسوية ملف المعتقلين الإسلاميين؟".

ورفض حمادة اعتبار مبادرة السلفيين مجرد تقية مرحلية، وقال إن "ضمن وثائق هؤلاء السلفيين نجد على الخصوص: أجوبة التيار السلفي على التحديات الراهنة وفق المفاهيم المعاصرة"، "ومفاهيم التيار السلفي بين دولة الإنسان ودولة القرآن".

وقال إن "مجرد الحديث عن 'دولة القرآن' أو 'دولة الإنسان'، يُعتبر مراجعة فقهية في حد ذاته، لأن مثل هذه المفردات لا نجد لها  أثرا في الأدبيات السلفية التي تنهل على الخصوص من مرجعية سلفية وهابية".

من جانب، آخر يرى المتخصص في شؤون الحركات الإسلامية أمين أعزان أن "الدولة تخاف من تكرار سيناريوهات سابقة قامت فيها بالعفو على سجناء سلفيين، وبعد مرور مدة من الزمن عادوا للعنف".

وأكد أعزان أن "الحوار منهجية لحل المشاكل وتحقيق المصالحة الوطنية، لكن يجب الأخذ بعين الاعتبار الظروف الحالية للسجناء السلفيين، الذين اعتقلوا لمدد طويلة، مما يعني أن بعضهم قد يركب على المبادرة للخروج من السجن والعودة إلى الأفكار المتشددة مرة أخرى".

من إعداد: محمد أسعدي لـ راديو سوا