قضاة المملكة المغربية... من "النضال" إلى "النضال ضدٌ النضال"
زنقة 20
بقلم: عـبـد اللـلـه الـجـبـاري
تعرفت على القضاء المغربي وأنا تلميذ في الثانوي من خلال قضايا بارزة فرضت نقسها على الساحة الإعلامية آنئذ، أولها قضية الكوميسير ثابت ومن معه بالدار البيضاء، وقد تابعتها عبر جريدة الاتحاد الاشتراكي وغيرها من الجرائد التي حققت أعلى مبيعاتها بسبب هذه المحاكمة.
وبعد ذلك، تعرفت على القضاء المغربي بصورة جلية وواضحة من خلال حملة التطهير التي قادها وزير الداخلية إدريس البصري وعمل من خلالها على ذبح مبدأ استقلال القضاء من الوريد إلى الوريد.
وتعرفت على القضاء المغربي من خلال محكمة العدل الخاصة التي كان وزير العدل/سلطة تنفيذية يحرك فيها الدعوى، ويظهر للعالم الزواج الكاثوليكي بين السلطتين التنفيذية والقضائية وارتباطهما الأسطوري.
استحضرت هذه النقاط على وجه السرعة وأنا أتابع الحلقة الأخيرة من برنامج "مواطن اليوم" على شاشة ميدي 1 تي في، حيث صعقت لما سمعت بعض المتدخلين – وهم أدرى مني بالقضاء المغربي – يصرحون بدون خجل أو حمرة وجه أن القضاء المغربي أفضل من القضاء الفرنسي، ولست أدري على أي أساس بنوا هذه المفاضلة ؟
كما سمعت في الحلقة ذاتها معلومات لا قبل لي بها، وقد أفادنيها ممثل الودادية الحسنية مشكورا، وهي أن الودادية ومسؤوليها "ناضلوا" باستماتة طيلة عقود من أجل أن يصل القضاء المغربي إلى ما وصل إليه، وكرر كلمة النضال أكثر من مرة في هذه الحلقة كما كررها في حلقة سابقة من ذات البرنامج، مما فرض علي طرح الأسئلة أو التساؤلات الآتية :
ما هو "النضال" الذي قامت به الودادية طيلة عهدها ؟ ومن هم مشاهير مناضليها ؟ وما هو برنامجهم النضالي ؟ ولماذا لا أعلم عن نضال هذه الجمعية "الأم" شيئا ؟ ...
لكن ذاكرتي لم تخني بالمرة، بل أسعفتني بعدة معطيات عن "نضال" الودادية الحسنية :
• في حملة التطهير الشهيرة، تدخل إدريس البصري بكل ما أوتي من قوة في القضاء انتقاما من بعض التجار الأبرياء، واعترف كثير من المسؤولين في شهاداتهم بما يدل على عدم استقلال القضاء المغربي، مثل شهادة الوزير عبد الله القادري التي تضمنت أن البصري أوكل مهام حملة التطهير إلى ثلاثة نفر، العامل العفورة، ووزير العدل أمالو، وأحد نواب وكيل الملك بالبيضاء، ثم أضاف أن البصري لم يكن يجالس هؤلاء بل كان "كيستعملهم من التيساع".
أما الوزير محمد زيان فقد انتقد الحملة في حينها وقدم استقالته أو أقيل من الحكومة، وصرح في شهادته من بعد أن أعضاء الحكومة ناقشوا الحملة في المجلس الحكومي، وقال لهم وزير العدل أمالو بالحرف : "ها هو خويا إدريس [البصري] إذا قال لي نطلق سراحهم نطلق سراحهم في الحين".
هذه الشهادات والوقائع تتثبت بما لا يدع مجالا للشك استباحة حرمة القضاء المغربي وعدم استقلاليته، بل إهانته، لكن السؤال المطروح هو : أين "نضالات" الودادية في هذه النازلة ؟ وأين بياناتها التنديدية ؟
• انفجرت في مدينة تطوان ذات صيف قائض قضية منير الرماش، واعتقل معه مسؤولون كبار، منهم خمسة قضاة دون احترام مسطرة الامتياز القضائي، وثارت ثائرة القضاة في المغرب، وحاولوا جمع التوقيعات وبعث العرائض المنددة بما وقع لزملائهم، مما أوقع الوزير الراحل محمد بوزوبع في ورطة لم يُنَفّس عنه ضيقَها إلا "نضالُ" الودادية التي اصطفت إلى جانبه، وأصدرت بيانا تعبر من خلاله عن قانونية إجراء اعتقال زملائهم، في تضامن استثنائي غير مسبوق.
• ألقى الملك سنة 2002 خطابا بمناسبة افتتاح دورة المجلس الأعلى للقضاء، ضمّنه عبارات من قبيل : "فقد دقت ساعة الحقيقة في مجال العدالة للمضي قدما بإصلاح القضاء، ولكل الفاعلين في مجال العدالة للمضي قدما بإصلاح القضاء نحو وجهته الصحيحة وانتهاء زمن العرقلة والتخاذل والتردد والانتظارية"، والسؤال المطروح، هو أين نضال الودادية ضد ما أسماه الخطاب الملكي "العرقلة والتخاذل والانتظارية" ؟ أم أنها سلبيات لا تحتاج إلى نضال ؟
• منذ مدة، اعتدت إحدى النسوة على أحد القضاة في مدينة خنيفرة داخل المحكمة، وذلك في انتهاك لحرمة المحكمة والقضاء، وتداولت القضية وسائل الإعلام المغربية غير الرسمية ووسائل الإعلام الدولية، إلا أن الودادية الحسنية لم تتحرك في هذه النازلة لتتضامن مع القاضي المعتدى عليه، أو لتندد بانتهاك حرمة المحكمة، وهو ما يعني واحدا من اثنين : إما أن أجهزة الودادية لم تُحط بالنبأ خُبرا، أو أنها قامت ب"نضال" الصمت.
بناء على الجرد السالف، يتبين أن لا علاقة بين الودادية والنضال، لذلك كان ممثلها في البرنامج المذكور حريصا جدا على تكرار كلمة النضال ومشتقاته، بقصد ممارسة تقنية القصف الإعلامي على المشاهدين حتى تستقر كلمة النضال في أسماعهم، وتستوعبها أذهانهم، أو أنه كان يكررها ليُقنع بها نفسه قبل أن يُقنع بها غيره، والاحتمال الأخير أقرب إلى العقول السليمة.
ومخافةً من اعتبارنا مُتَجَنِّين على الودادية والوداديين، فقد بحثت في الخطب – بفتح الطاء وليس بضمها – الملكية، فوجدت الملك يقول بالحرف في خطابه السابق : "ولكي يتأتى للودادية ذلك، ينبغي لها أن تستيقظ من سباتها العميق، وبأن تكف عن الحسابات والصراعات المتجاوزة".
فهل يَعتبر ممثل الودادية السباتَ العميق نضالا ؟ فأنعم به من نضال.
لن أكون مبالغا إذا قلت إن الودادية لم تعرف النضال قط إلا بعد بروز نضال حقيقي على الساحة القضائية، فقامت بدور "النضال ضد النضال"، إذ بمجرد أن بلغ إلى علم الوداديين أن قضاة ينوون تأسيس نادي قضاة المغرب، حتى ثارت ثائرة قادتهم، حيث صرح رئيسهم الأستاذ عبد الحق العياسي لجريدة الصباح قبيل تأسيس النادي : "نحن في الودادية الحسنية للقضاة نحذر وبشدة من خلق جمعيات بغرض التفرقة أو كل ما من شأنه أن يثير التنافر والفتنة في ما بين القضاة ... فنحن كما سبق أن صرحنا بذلك في استجواب سابق لا نمانع في إحداث جمعيات للقضاة بالصفة التي ذكرت سابقا على أن يظل الجميع تحت لواء الودادية كفدرالية ومخاطب وحيد للسادة القضاة".
وبقراءة بسيطة للمعجم المستعمل من قبل الأستاذ العياسي، يتبين الحضور القوي للأنا، حيث استهل كلامه ب"نحن" في الفقرتين، واستعمل نون الجماعة في "نحذر" "صرحنا" "لا نمانع" مما يدل على نوع من الاستعلاء تجاه قضاة آخرين عبّرت عنه بوضوح زميلته في قيادة الودادية ضمن البرنامج المذكور بعبارة "قضاة النادي الله يهديهم".
وما معنى عبارة "على أن يظل الجميع تحت لواء الودادية" ؟ أهناك انتماء قسري في العمل الجمعوي ؟ وألا يحق للقضاة أن يرفعوا شعار "لن أعيش في جلباب أبي" ؟
كما أن الأستاذ العياسي استعمل عبارة "كل ما من شأنه" مما يدل على أنه ينتمي إلى جيل سابق لم يستطع أن يتأقلم مع المستجدات والتحولات التي يعرفها المغرب، لذلك نعذره وزملاءه إن لم يتفاهموا مع قضاة جيل ما بعد "كل ما من شأنه"، إلا أنهم غير معذورين في سلوك درب "النضال ضد النضال".
إضافة إلى ما سبق، يتبين أن رئيس الودادية المحترم كان قاسيا جدا في حق العمل الجمعوي حين استعمل عبارات من قبيل : التحذير – التفرقة – التنافر – الفتنة ... على أساس أنها تنتمي إلى معجم بعيد عن الحقل الجمعوي.
ولما قرر نادي قضاة المغرب مؤخرا النزول إلى الشارع في خطوة نضالية غير مسبوقة في التاريخ المغربي، استمرت الودادية في نهج سلوك "النضال ضد النضال"، حيث أصدرت أجهزتها التقريرية بيانا ضد البرنامج النضالي الذي قررته الأجهزة التقريرية لجمعية أخرى، دعتهم من خلاله إلى عدم النضال والاحتجاج، وضرورة الالتزام "بالحنكة والوقار".
فهل يجوز لجمعية التدخل في عمل جمعية أخرى ؟ أم أنه الجيل الجديد من النضال ؟
على سبيل الختم :
ذكرت في البدء نقاطا سوداء عن القضاء المغربي، إلا أنني أميز بين القضاء والقضاة، إذ منهم – أؤكد على منهم – كثير من الفضلاء والصلحاء القابضين على الجمر، الذين تتشرف البذلة بهم قبل أن يتشرفوا بها، وهم إفراز طبيعي لتربية أسر مغربية أصيلة غرست فيهم من المبادئ والمثل ما جعل كثيرا منهم أفضل من قضاة فرنسا وإن كان قضاؤهم أفضل من قضائنا، لذا وجب التمييز بين القضاء والقضاة.