عندما ينشغل التعريبيون بالإفتاء في الأمازيغية
من سُخرية الأقدار بالبعض، ورحمتها بالبعض الآخر، أن جهود الذين يحملون معاول الهدم، تكون لها نتائج عكسية فتؤدي إلى تقوية البناء وتمتين أسسه عوض تقويضه، ينطبق هذا على دعاة التعريب المطلق الذين تزعجهم نهضة الأمازيغية وانبعاثها، وهم الذين كانوا ينتظرون انمحاءها النهائي قبل متم القرن المنصرم.
انزعاج التعريبيين يؤدّي بهم في لحظات ضعف كثيرة إلى السقوط في هذيان البلاغة التي لا تفضي إلى شيء سوى الطريق المسدود، وهم لا ينتبهون إلى أنّ نزعتهم الإقصائية تجعلهم يقعون في وضعية أبسط ما يمكن أن نطلقه عليها أنها وضعية حالة الشرود الدائم، مما يفسر تجاوز الأحداث لهم باستمرار.
من ذلك ما أصبحنا نلاحظه في الآونة الأخيرة من ترامي مجموعة من الشيوخ الطاعنين في السن، من أعضاء الأكاديمية الملكية، ومن المتواجدين بالمحيط الملكي، على موضوع لم يحسنوا تدبيره بحكمة عندما كانوا شبابا، فلم يستوعبوا بالتالي تطوراته المتلاحقة، ولا أدركوا كيف يفهمونه بعد أن خرج من بين أيديهم بشكل كامل.
من هؤلاء السيد عباس الجراري الذي تصدّر للفتوى في الأمازيغية داخل معهد التعريب ( (!! والسيد عبد الحق المريني الذي سبق له أن عقب على الخطاب الملكي بأجدير على صفحات جريدة الشرق الأوسط السعودية سنة 2001، والسيد عبد الكريم غلاب الذي هو من منظري الحزب المعلوم، هم جميعا أظهروا نشاطا وهمّة في الآونة الأخيرة لمناقشة موضوع "الهوية"، بعد أن حسم فيه الدستور في اتجاه مصلحة الأمة بكل مكوناتها، وبدا واضحا أنهم لم يستوعبوا بعد معنى أن تصبح لغة ما في الدستور لغة رسمية للبلاد، ورغم أن النقاش متقادم لا جدوى من العودة إليه في سياق تسعى فيه القوى الحية للبلاد إلى الضغط من أجل تفعيل مضامين الدستور، إلا أننا رأفة بهؤلاء ندلي بالتوضيحات التالية التي لا يبدو أنهم قد استوعبوها جيدا:
ـ أنه لم يعد باستطاعة أحد أن يتناول موضوع الأمازيغية دون أن يأخذ بعين الاعتبار أنها لغة رسمية للبلاد، أي لغة الدولة، وليست لغة الهامش المنسي التي يمكن لكل واحد أن يتطاول عليها بدون عواقب، وأبسط هذه العواقب أن يصبح خارج التاريخ أو عرضة للسخرية.
ـ أن تطاول المختصّين في العربية على الإفتاء في الأمازيغية بدون علم هو من مظاهر انحطاط واقعنا الثقافي، إذ أن مهمة هؤلاء التفكير في مشاكل اللغة العربية من أجل تطويرها والنهوض بها وتدارك مشاكلها في المعجم والنحو الصرف والمعلوميات، وأذكّر في هذا الصدد برسالة الدكتور عبد الهادي التازي الأخيرة، التي تلفت انتباه هؤلاء إلى واجباتهم المؤجلة التي لم يحسنوا الإضطلاع بها حتى الآن (ربما بسبب انشغالهم بالأمازيغية).
ـ أن للغة الأمازيغية مختصّوها من حملة الدكتوراه في كلّ مجالات المعرفة، كما أن لها مؤسستها الخاصة التي أوكلت إليها الدولة مهمة التقعيد والمعيرة والجمع والتدوين والتخطيط، ولها أيضا مبدعوها وكتابها وأدباؤها الذين ظلوا عرضة للنسيان على مدى نصف قرن، والذين لا يسمحون لأنفسهم أبدا بالإفتاء في اللغة العربية، التي يحترمون أهل الاختصاص فيها وأرباب أقلامها كل الاحترام.
ـ أن الأمازيغية انطلاقا مما أسلفناه لا يمكن أن يتقرّر مصيرها في "معهد التعريب"، إلا إذا كان أبناؤها أمواتا أو فاقدين للأهلية العلمية والفكرية وللروح الوطنية، وهو ما يشهد الواقع بخلافه تماما.
ـ أن حرف كتابة اللغة الأمازيغية هو حرفها الأصلي تفيناغ، الذي تمّ إقراره رسميا منذ يناير 2003، ونال اعترافا دوليا سنة 2004، وأدمج في النظام المعلوماتي وينداوز 8 سنة 2012، وانطلق في خروجه الكبير إلى الفضاء العمومي وواجهات المؤسسات بشكل لا رجعة فيه، كما انطلق بشكل ملحوظ وسريع في بلدان الجوار بعد الثورات وخاصة في ليبيا. وثمة دراسة أنجزتها وزارة التربية الوطنية تبين مقدار تقبل الأطفال لهذا الحرف وسرعة تعلمهم له. وعلى التعريبيين الكفّ عن الحديث عن الأمازيغية بالتخمين والتشهّي المحض، ودون العودة إلى المراجع والدراسات العلمية المنجزة، أو عليهم القيام بأبحاث علمية في الموضوع إن استطاعوا إلى ذلك سبيلا. أما قول السيد الجراري بأن حرف تيفيناغ "غريب" فلربما كان ذلك من تأثير عدوى الاغتراب الشرقاني، الذي جعل المغربي أكثر معرفة بالشرق من بلده.
ـ أن تنصيص الدستور على قانون تنظيمي للأمازيغية لا يعود إلى "ذكاء المشرّع" كما زعم السيد الجراري الذي يبدو أنه يتحدث في موضوع ليس له به إلمام، وإنما جاء ذلك بطلب من الفاعلين الأمازيغيين أنفسهم، وباقتراح من حلفائهم السياسيين ( التقدم والاشتراكية ـ الحركة الشعبية ـ الاشتراكي الموحد)، ويبدو أن السيد الجراري لم يطلع على مذكرات الأحزاب والفاعلين المدنيين والنقابات التي سلمت للجنة مراجعة الدستور، كما لم يتابع لا من قريب ولا من بعيد الملف الذي يخوض فيه.
إن القانون التنظيمي للأمازيغية يشكل ضمانة لحماية الأمازيغية داخل المؤسسات، وسيتمّ إرساؤه على "أسس صحيحة" هي مكتسبات الأمازيغية خلال 45 سنة من التضحيات والنضال والعمل الفكري والعلمي العميق، وهي المكتسبات التالية التي تتعارض مع كل ما ذهب إليه السيد الجراري: إلزامية اللغة الأمازيغية الرسمية مثل العربية تماما، توحيدها، تعميم تدريسها أفقيا وعموديا، كتابتها بحرفها الأصلي تيفيناغ، استعمالها في كل قطاعات الحياة العامة، في التعليم والإعلام والإدارة الترابية والقضاء والصحة وواجهات المؤسسات وعلامات التشوير إلخ..
ـ إن التراجع عن الحقوق المكتسبة يتعارض مع روح القانون ومع الدستور، وعلى الأكاديمية الملكية أن تنظم لأعضائها دورة تكوينية في مضامين الدستور الجديد، ليدركوا معنى اللغة الرسمية، ومعنى المساواة، ومعنى الكرامة.