السلطة و"علماؤها"
الفتوى التي صدرت عن المجلس العلمي الأعلى، والتي يمكن اعتبارها وصمة عار في جبين المغرب المعاصر، تقتضي منا وقفة حازمة، ليس فقط ضدّ هؤلاء الفقهاء الذين ما فتئوا يورطون أنفسهم في مآزق لا نهاية لها بسبب منطقهم في التفكير، وأسلوبهم في مقاربة قضايا المجتمع والدولة، بل وضدّ السلطة التي ما زالت تصرّ على اللعب على الحبلين، والدعوة إلى الشيء ونقيضه.
خطأ من يسمّون بـ"العلماء" أنهم يقضون من الوقت في حفظ متون وحواشي الفقه القديم أكثر مما يقضون في معايشة عصرهم ومجتمعهم والإطلاع على اجتهادات الفقه المعاصر، وعلى علوم الإنسان والمرجعية الحقوقية الدولية، ولهذا يستلذون كلّ فكرة يطبعها التشدّد والقساوة والغلو اللاعقلاني، ويجدون صعوبة في الانحياز إلى الفقه النيّر والاجتهادي الذي يُعتبر عندهم "آراء شاذة"، وهي التي كانت بمثابة شموع مضيئة في عصور ظلمات الجهل والتخلف.
وخطأ السلطة أنها تعتقد في إمكانية الاستمرار في لعب ورقة الدين بوصفه أحد كوابح التطور والدمقرطة، وأداة من أدوات استعباد الناس وإدخالهم بيت الطاعة.
المعضلة التي نحن إزاءها لا تتمثل في وجود "علماء" منغلقين مقلدين غارقين في التراث منقطعين عن العالم، بل في وجود نظام سياسي يمنحهم ثقته في الوقت الذي يسعى فيه عبر العالم إلى نيل شرعية ديمقراطية لدى شركائه الأوروبيين والأمريكيين، مما يؤدي إلى تكريس نوع من السكيزوفرينيا المثيرة للشفقة.
ما حاجة الدولة إلى "علماء" من هذا النوع إذا كانت حقا تعني ما تقوله من شعارات ؟ إنها حاجة في نفس يعقوب، أن تستعملهم عند الحاجة، من أجل تكريس تقليدانية الحكم وإبقاء الحال على ما هو عليه. فالمسئولون ما زالوا يجدون متعتهم في مصادمة الحداثيين بالسلفيين ومواجهة الليبراليين بالمحافظين ومعاكسة الديمقراطيين بالفاشستيين، لكنها لعبة لا تدوم، ولا يمكن أن تستمر إلى ما لا نهاية، إذ لا بدّ طال الزمن أو قصر أن تجمع بين الناس وحدة المعاناة وأواصر اليأس والإحباط وانعدام الثقة.
يعكس الدستور المغربي في تناقضاته الفاضحة طبيعة الدولة المغربية، وطبيعة السلطة وأهدافها، فهو يضع على كل حق من الحقوق علامة استفهام تنتهي بإنكاره، ويرسم لكل مكسب حدوده التي تنتهي بخنقه وإماتته، دستور يرضي الحاكم المستبد ويتظاهر بإرضاء القوى التواقة للحريةّ، يكرس التفاوت ويتظاهر بإقرار المساواة، فـ "ثوابت المملكة" تظلّ أشبه بالجدار الصفيق الذي يفصل الناس عن عصرهم، ويبعدهم عن بعضهم البعض.
المطلوب اليوم، عوض مسرحية الفتاوى السلطوية السمجة، هو اجتماع الأمة المغربية على كلمة واحدة هي شعار التغيير وإنهاء الاستبداد، الذي هو بؤرة الفساد، التغيير الذي يدفع في اتجاه وضع الأسس الصلبة للبنيان الديمقراطي الوطني الحق، ذاك الذي لا يترك مجالا لاستمرار العادات السيئة القديمة، ولا لعودة أساليب المخزن العتيق مهما تدثرت بدثار العصرنة الكاذبة. المطلوب اليوم هو تفكيك بنيات هذا المخزن ليصبح في ذمة التاريخ، وإرساء دولة المؤسسات، وتجديد الحياة السياسية التي فقدت المعنى، وبعث الأمل في النفوس من أجل الإنتاج والإبداع في كلّ المجالات. وإذا كان "العلماء" لا يفهمون معاني هذه الكلمات فلأنهم بالغوا في دفن رؤوسهم في الكتب الصفراء كما تدفن النعامة رأسها في الرغام، معتقدين أن ذلك ما يمنحهم الحق في ممارسة الوصاية على حياة الناس والعبث بمصائرهم.
في المغرب يتصرف علماء الدين وكأن لا وجود للدولة ولا لقوانين وكأننا في الجاهلية. في جميع المجلات، حين يلاحظ مواطن أي تجاوز أو ضرر يلجأ إلى السلطة أو المصلحة المختصة التابعة للدولة لإخبارها حتى تقوم بواجبها. فحين تقع حادث سيرمثلا، يخبر المواطنون مصالح الشرطة أو الدرك، وإذا شب حريق يخبر المواطنون مصالح الوقاية المدنية. وإذا وقع نزاع أو تظلم أو قتل، لجأ المواطنون إلى القضاء ؟. فلماذا لا يلجأعلماء الدين إلى مؤسسة الإفتاء وهي تابعة للدولة أو القضاء ليقول كلمته في كل ما يعتبرونه مسا بالدين ؟. ولماذا يفتون ويحرضون المواطن البسيط على قتل كل من يخالفهم الرأي ؟. هل لا يعترفون لا بمؤسسة الإفتاء ولا بالقضاء، وهل يعتبرون أنفسهم فوق القوانين المعمول بها ؟. أم أن الدولة تتساهل معهم ؟ . ففي الوقت الذي تطالب جهات حقوقية بإلغاء عقوبة الإعدام، يخرج علينا، ومن حين لأخر، علماء الدين بفتواهم يحرضون على قتل، وخارج القوانين، كل من يخالفه الرأي. على النيابة العامة أن تتابع كل من صدر منه تحريض بالقتل إذا كنا فعلا نعيش في ظل دولة الحق والقانون. وإلا فإن باب الفتنة ......