احمد عصيد

avatar

لماذا تصدم الحقائق مشاعر الناس ؟

يعتقد كثير من الناس أن سبب كون بعض الحقائق صادمة لمشاعرهم هو أنها قضايا كاذبة وغير صحيحة، والحقيقة غير ذلك، فردود الأفعال المتشنجة أو الرافضة لحقائق كثيرة يثبتها العقل والواقع والتاريخ، إنما مرجعها إلى أمور لا تتعلق بصدقيتها، بل بعوامل أخرى نوضحها فيما يلي:

ـ أن الكثير من القضايا المثيرة للصدام والزوابع الإعلامية سببها أن المنتفضين يدركون في قرارة أنفسهم صحتها، لكنهم يعتبرونها متعارضة مع مصالحهم في ظرفية ما أو سياق معين.

ـ أن الكثير مما يُقال ويثير اعتراضا وصخبا إنما يكون موضوع رفض بسبب الاعتقاد في ضرورة "عدم التصريح به" وليس بسبب خطئه، حيث أنّ المشكل لدى هؤلاء هو أنّ التصريح ببعض الحقائق قد يؤدي إلى نتائج عكسية مما يهدف إليه المصرِّح، إما بسبب تخلف المجتمع أو عدم ملاءمة السياق أو لوجود ظروف عرضية.

ـ  أن ثمة من يعتمد شعار "ما كل شيء يقال" حتى ولو كان حقيقيا، غير أنّ من يتبنى هذا المبدأ لا يشير في ظاهر خطابه إلى حقيقة موقفه، حيث يميل إلى تكذيب الفكرة والاعتراض عليها بالطعن في صدقيتها، وعندما تناقشه في بعض التفاصيل يعترف بأنها حقيقة لكن ليس من "الحكمة" أن تقال، لأنه لا يمكن قول كل شيء.

ـ أن ثمة من ينتفض ضد فكرة ما فقط لأنها تزعزع طمأنينته إلى بديهيات كان قد استقر إليها ذهنه وطابت نفسه، ووجد فيها ما يغني عن قلق السؤال وجهد البحث وفضول المعرفة، حيث تقدم له تلك البديهيات أجوبة جاهزة في صيغة كليشيهات وعبارات نمطية تشفي الغليل وترضي الوجدان الفردي.

ـ أن الغضب والانفعال الجماعي من رأي أو موقف أو فكرة معبّر عنها قد يكون بسبب أزمة حضارية خانقة أدت إلى انسداد الآفاق وشيوع الإحباط، مما جعل الناس يتعلقون جماعيا بشعارات مهدّئة توقظ الماضي وتستعيد أمجاد التاريخ في صيغ ذهنية تلعب دور المخدّر أو العزاء الجماعي، ويجعل بالتالي من يكشف الغطاء عن أوهام المرحلة كما لو أنه يسيء إلى الناس ويؤذي مشاعرهم.

ـ قد يكون قول الحقيقة مستفزا وباعثا على النكران والجحود في حالة وجود شعور بالذنب لدى مجموعة ما تجاه واقعة أو ظاهرة، حيث تتحول تلك الواقعة إلى طابو يمتنع البتّ فيه أو إثارته، وعندما يتمّ ذلك يصبح الأمر مدعاة لصراعات خطيرة.

ـ الاعتقاد المسبق لدى بعض الناس بأن الآخر شيطان يتربّص بمصالحهم أو بمعتقداتهم، وتعدّ الأحكام المسبقة أكبر حاجز أمام العقل لأنها تصرف عن التفكير وتحث على الممانعة ضد أية فكرة عبر المعاندة الشديدة ورفض الحقّ حتى ولو كان ظاهرا، حيث يكون المعيار الحاسم في هذه الحالة لتصديق خطاب ما أو نبذه هو صاحب الخطاب وليس مدى مطابقته للواقع أو للعلم أو لمنطق العقل.

ـ تصدم الحقائق مشاعر الناس كذلك لأنهم لم يتلقوا عبر النظام التربوي مبادئ وقيم نسبية الفكر والمعرفة، فكانوا ضحية المطلقات التي حولتهم إلى آلات مبرمجة وفق قانون "الاستجابة الشرطية" (المثير ـ استجابة)، فصاروا كلما سمعوا عبارة نقد استشاطوا لها غضبا وهم يعتقدون بأنهم بذلك يدافعون عن "الثوابت" التي ترسخ في الواقع عبوديتهم.

ـ من بين ما يؤدي أيضا إلى الانزعاج من الحقائق عدم شيوع ثقافة الحوار والتناظر والتبادل السلمي للمعارف والآراء، وغلبة لغة التهديد والوعيد والتحريض، أوعقيدة "الإجماع" ولغة الخشب، وأسلوب البحث عن الحلول الوسطى والرغبة في إرضاء الجميع على حساب الحقيقة، مما يُعوّد الناس على الركون إلى مسلمات الحقل السياسي والتقاليد المتبعة في المجتمع.

في المجتمعات والدول المتقدمة التي حسمت في اختياراتها الكبرى، واندفعت نحو المستقبل بروح الأمل والإبداع والتجديد والاكتشاف، لا تصدم الحقائق مشاعر الناس بقدر ما يتلقونها بصدر رحب، بسبب استعدادهم المبدئي للإصغاء والمراجعة والنقد.









0 تعليق ل لماذا تصدم الحقائق مشاعر الناس ؟

أضف تعليق

البحث في الأرشيف

البحث بالتاريخ
البحث بالصنيفات
البحث في الموقع

البوم : صور