عندما يبيع بَاها الوهم للمغاربة
من الأمثال البليغة قول القدماء "الصمت حكمة"، وهو مثل ينطبق تماما على السيد عبد الله باها، أمين سر السيد بنكيران ومستشاره المقرب، والذي "سكت دهرا ونطق هُجرا".
صرح السيد باها بأن الإصلاحيين الذين وجدوا قبل مجيء حزبه إلى الحكومة كانوا "ضد الملكية"، وأن "الذين ساندوا منهم الملكية انغمسوا في الفساد". يعني هذا أن رفاق السيد باها ليسوا ضدّ الملكية، وأنهم ليسوا فاسدين. وهي مفارقة يصعب كثيرا على العقل السليم قبولها.
يواجه السيد باها مشكلتين:
ـ مشكلة أن حزبه الذي هو حزب ملكي أكثر من الملك، لا يملك مشروعا سياسيا سوى التحالف مع الملكية لفرض نمط تدين "إخواني" على المجتمع، ما دام حزب العدالة والتنمية ـ شاء قادته أم أبوا ـ هم مجرد فرع مغربي للتنظيم الإخواني، لكن الملكية التي لا تثق في من ينازعها شرعية السماء، تتبنى دينها الخاص الذي ليس دين "الإخوان"، ولهذا لا تحبّ حزب السيد باها ولا ترتاح إليه، والعهدة على وثائق "ويكيليكس".
يتغزل السيد باها بالملكية وهو يعلم أنها تمثل الحجر الأكثر صلابة الذي تكسرت عليه آمال حزب المصباح أكثر من مرّة، والجميع يعلم مقدار الجهود التي يبذلها هذا الحزب لهدم الأسس العقائدية للنظام ووضع أسس دولة الإسلام السياسي على النمط الشرقي مكانها.
المشكلة الثانية أنّ السيد باها يُدين الفساد ويحتمي بالملكية، لكن كبار المفسدين يحتمون أيضا بالملكية مثله تماما، بل يُظهرون ولاء أكبر واستعدادا للخدمة على السمع والطاعة، ولهذا فهم مقربون أكثر، وإلا فهل يستطيع باها وحزبه ووزير حزبه في العدل متابعة المفسدين الذين برزوا حتى الآن و"البيجيديون" في موقع المسئولية ؟ السيد بنكيران كان عند الموعد عندما أعلن: عفا الله عما سلف ! أليس هذا أكبر تطبيع مع الفساد وأكبر شرعنة له ؟
يتنعم رفاق السيد باها في السيارات الفارهة ويُشغلون الأقارب والأتباع على حساب ذوي الكفاءة من أبناء الشعب المغربي، وينفقون أموال الدولة لصنع مجتمع مدني على مقاسهم، ويتمسّحون وهم منتخبون محليون بأعتاب سلطات الداخلية التي تجد فيهم الأداة الطيعة لقضاء مآربها، ويفتحون الأبواب عبر تنظيمهم الدعوي للتمويل الخليجي الهدام مستهدفين قيم المجتمع المغربي الأصيلة والمتسامحة، سعيا إلى إحلال قيم الكراهية والتطرف والميز محلها، أليست هذه أعظم المفاسد وأشدها وقعا وأعمقها أثرا ؟ وقبل هذا وبعده ألم يُضبط من أتباع حزب السيد باها متلبسون بالمتاجرة في المخدرات وبأخذ رشاوى وبالتعامل مع ناهبي مقالع الرمال وناهبي الثروات المعدنية وتيسير عملهم؟
توالت أخطاء السيد باها ما دام قد قرر الكلام عوض التزام حكمة الصمت لستر عيوبه، فأعلن أن حزبه "ليس له مشروع مجتمعي للمغاربة، لأن المغاربة اختاروا مشروعهم قبل 12 قرنا"، وهذا المشروع حسب السيد باها "يرتكز على ثلاث مرتكزات أولها أن الإسلام يوحد المغاربة والثاني أن الملكية تجمعهم والثالث أن المغاربة يدبرون شؤونهم بأنفسهم".
وهو كلام إن كان يدلّ بوضوح على مقدار جهل الرجل بتاريخ بلده، فإنه يثير الأسئلة التالية: كيف يمكن للإسلام أن يجمع بين المغاربة وقد تحول على أيدي أبنائه إلى شيع وطوائف متناحرة وإلى إيديولوجيات لزرع الكراهية داخل الأسرة الواحدة وإلى أحزمة ناسفة ؟ وهل يوجد دين واحد في العالم يتضمن برنامجا سياسيا شاملا للدولة ؟
ما الذي يجعل الملكية "تجمع" بين المغاربة ؟ أليس لأنهم لم يجدوا الأساس الصلب لتوحّدهم وهو الديمقراطية المترسخة بقيمها الكونية النبيلة، الأساس الذي في غيابه يظلون دوما بحاجة إلى تحكيم الطرف الذي يعتبر نفسه بديلا لهم جميعا ؟ مما أفرغ الحياة السياسية من مضمونها وجعلها حياة فقيرة بفاعلين سياسيين باهتين، ومنهم السيد باها وأمثاله، ولهذا يتسابق مع غيره في تكريس الاستبداد وتأبيده في مقابل أن يجد له مكانا بجوار السلطان، متحينا الفرصة للاستيلاء على الدولة ككل.
ولكي يكتمل المشهد الكئيب المضحك المبكي أضاف السيد باها، بأن الحركة الإسلامية جاءت لتقترح "إعداد نخبة تكون متدينة وعصرية" في نفس الوقت، لأن النخب العصرية السابقة في رأيه لم تكن متدينة، وهو يعتقد أن مصدر قوة حزبه في "المرجعية الإسلامية".
والواقع أن الرجل لا يعبر إلا عن أكثر الأفكار استهلاكا وتخلفا على مدى ألف عام، وهي التي قادت المسلمين إلى الحضيض الأسفل في الحضارة، معتقدا أنه يقدم بديلا لما هو موجود، فما الفرق بين تصريح كهذا وما ظل يقوله الخلفاء والملوك المستبدون والرؤساء إلى يومنا هذا، أن قوتهم وشرعيتهم إنما هي في الدين، في محاولة تعويض الشرعية الديمقراطية الغائبة.
يرسم باها صورة ملائكية له ولأصحابه بينما الحقيقة أن الأمر لا يتعلق بالدين أصلا ولا بالإيمان، فقد كان قبلهم نخب مؤمنة ومسلمة، لكن ليس على النمط الإخواني أو الوهابي الذي يعطي الأولوية للمظاهر الاستعراضية على الحياة الخاصة، فالتديّن عند النخب وأطر الدولة تدين شخصي لا علاقة له بتسيير شؤون الدولة العصرية، التي تخضع لقوانين ومساطر عقلانية، والتي لم تعد دولة دينية، وهذا ما يتجاهله الرجل معتقدا أنه ما زال من الممكن تسيير الدولة الحديثة والمجتمع العصري بأطر دينية التوجّه، بينما المكان الطبيعي لهذا النوع من الأطر هو الدولة الدينية التي لم تعد قائمة، ومحاولة استعادتها يؤدي إلى عرقلة الانتقال السلمي نحو الديمقراطية وإثارة الفتن في المجتمعات.
الواقع أن السيد باها يبيع الوهم للمغاربة، عندما يتظاهر بأنه ورفاقه "عصريون"، وبأنه يحمل بديلا هو "التدين"، بينما ليس التدين بديلا لأنه موجود في المجتمع وحياة الأفراد، وليس السيد بها عصريا ولا رفاقه كذلك، والدليل عجزهم عن قبول نمط الحياة العصرية بقيمها التي أساسها الحرية والمساواة الفعلية بين الجنسين والعدل والمواطنة بغض النظر عن العقيدة والجنس واللون والنسب.
ليس التدين معيارا للحكامة الجيدة في الدولة العصرية، فالمهندس والطبيب والوزير إنما يرتبط نجاحهم بكفاءتهم وبتفانيهم في علمهم، وفي حالة انعدام الكفاءة كما هو شأن العديد من وزراء العدالة والتنمية، فسيكونون فاشلين تماما في عملهم، ولن ينقذهم تدينهم. والعبرة في السيد محمد مرسي الذي فشل في تدبير شؤون الدولة المصرية، مما أدى إلى مطالبة الشعب برحيله، ولم تنفعه لحيته أو إمامته الصلاة بالناس، لأن هؤلاء لا ينظرون إلى تدينه الذي لا يهمهم، بل ينتظرون إنجازاته التي لها أثر على حياتهم.