مأزق الفكر الديمقراطي المعارض
ثمة موجة قلق عارمة تهزّ وعي الديمقراطيين الحداثيين المغاربة وتؤرقهم، بعضهم يعبّر عنها بوضوح وبساطة في اللقاءات العامة، وبعضهم يكتفي بإثارتها في اللقاءات الخاصة، وبعضهم يتجنب إثارتها بالمرّة مفضّلا الصمت المطبق.
تتمثل موجة القلق هذه في ذلك الشعور العميق لدى الديمقراطيين بأنهم كلما أمعنوا في نقد السلطة كلما ساهموا في إضعافها وتقوية الاستبداد البديل الذي يمثله التيار الديني المتشدّد بنوعيه السلفي والإخواني، والذي يعتبر بلا جدال عند هؤلاء أشد وأسوأ وأكثر تهديدا لمكتسباتهم التي ناضلوا من أجلها عقودا من الزمن.
ومأزق الديمقراطيين الحداثيين هو عدم إمكان التوقف عن النضال ونقد السلطة بسبب اختياراتهم وقيمهم الديمقراطية، التي هي على النقيض من النهج السلطوي المستحكم، ومن الأوتوقراطية والحكم المزاجي والتعليمات الشفوية، وفي نفس الوقت عدم إمكان التحالف مع السلطة ضدّ الخيار الأسوأ الذي يمثله الاستبداد البديل، السلفي والإخواني، والذي عكس ذلك لا يجد حرجا في التحالف مع السلطة لتحقيق بعض مآربه وسحق خصومه العلمانيين، سائرا بذلك على نهج بعض مكونات الحقل السياسي التقليدية، والتي تعودت على الاستقواء بالسلطة ضدّ الإسلاميين.
هذا المأزق يقوّي السلطة ويجعل الانتقال نحو الديمقراطية بطيئا مع بعض التراجعات وأنواع الجمود أحيانا. غير أن المأزق يزداد فداحة والقلق تكاثرا والحيرة استفحالا، عندما يكون المخرج الوحيد من هذا المأزق أمرا يكاد يبدو مستحيلا وضربا من الخيال، وهو وحدة الصفّ الديمقراطي الحداثي وتكتله، فقد عملت عقود من الصراع والصدام المنهكة عملها في النفوس، وخلقت من الحواجز النفسية والذهنية ما يصعب إذابته بين الفاعلين الديمقراطيين، اليساريين منهم والليبراليين.
تشرذم القوى الديمقراطية وشيوع الإحباط ومنطق المقاطعة يجعل من الإسلاميين كتلة ناخبة فعالة رغم كونها تمثل أقلية، كما أن مهمة مقاومة النزعات النكوصية تصبح أكثر صعوبة، في مشهد صار فيه العداء لقيم الديمقراطية عملة شعبوية تسمح بتهييج جزء من الجمهور وضمان ثقته ولو إلى حين. دون أن ننسى تداعيات الانتفاضات الشعبية التي كانت من نتائجها عودة العسكر وقوى الثورات المضادة للتمكين لنفسها من جديد، عبر استعمال البعبع الإسلامي كالسابق وترسيخ فكرة أن لا بديل عن الاستبداد التقليدي لتجنب الأسوأ، وهو ما سيجعل كل الجهود والتضحيات التي بذلت حتى الآن مجرد مساع عبثية لا طائل من ورائها.
في هذه الوضعية الحساسة سيكون على المؤمنين بالديمقراطية في شموليتها أن يقتنعوا بالخيار الوحيد المطروح أمامهم والذي لا غنى عنه ولا بديل، أن ينضمّوا إلى بعضهم البعض في جبهة سياسية مشتركة نظرا لوحدة أهدافهم ورؤاهم ومواقفهم، فيعملوا على إطلاق دينامية اجتماعية لخطابهم، وتأطير المواطنين وتصحيح المفاهيم المحرّفة، وأولها مفهوم الديمقراطية ذاته، كما سيكون عليهم في هذه الظرفية الصعبة أن يظلوا أوفياء لمبادئهم، فيمارسوا نقدا ثلاثي الأبعاد، في اتجاه السلطة والسياسات العمومية، وفي اتجاه القوى الماضوية، ثم في اتجاه أنفسهم.