وداعا سالم يفوت
غادرنا واحد من أعمدة الدراسات الفلسفية بالجامعة المغربية، الدكتور سالم يفوت، تاركا آثارا تدل عليه وتخلد إسمه في مجال الفكر الفلسفي ببلادنا.
ينتمي الرجل إلى جيل من الجامعيين وأرباب الفكر الذين حملوا خلال سنوات السبعينات والثمانينات فما بعد مشروعا أفنوا زهرة عمرهم في بنائه وتدعيم أسسه، مشروع التنوير الفكري العقلاني، فتقاسموا مجالاته وتوزعوا اختصاصاته وحقوله، فجاءت جهودهم متكاملة في التأسيس للحداثة الفكرية، وزرع بذرة الحرية التي تظل حية في الوجدان مهما تكالبت عليها الظروف وعاكستها الرياح.
برزت أسماء لامعة في سماء الفكر المغربي أمثال عبد الله العروي بأسئلته القلقة حول تاريخ المغرب وحول المفاهيم التي ظلت رغم كثرة تداولها غامضة في أدهان الناس، ومحمد عابد الجابري الذي ولج عرين الأسد بمحاولته إماطة اللثام عن مجاهل الفكر الإسلامي التراثي وقضاياه التي ظلت تلقي بظلالها على الوعي الإسلامي المعاصر، وعلي أومليل بنظراته النقدية الثاقبة حول إشكاليات الدولة الوطنية وأسباب فشلها، وعبد الكبير الخطيبي المهووس بمساءلة ثقافة الاختلاف والتعددية المكبوتة في الوعي المدرسي المتعالم، ومحمد سبيلا في أبحاثه حول جذور الحداثة الفكرية وعوائقها في التربة الوطنية، وكمال عبد اللطيف في حفرياته في الفكر النهضوي العربي واتجاهاته وتياراته المختلفة، وعبد السلام بنعبد العالي ومحمد وقيدي فيما كتباه في التعريف بإنجازات رائدة في الفكر الغربي. كان الخيط الرابط بين كل هؤلاء إضافة إلى الأهداف التنويرية، هو النزعة البيداغوجية التعليمية التي تميز الفلاسفة الأصلاء عبر العصور، ففي وضوح وانسياب، كانت تأتي مؤلفاتهم عميقة في غير غموض واضحة في غير إسفاف أو سطحية، قريبة من القارئ المتخصص، جذابة للقارئ العادي، بين هؤلاء يقف سالم يفوت متميزا بعطائه الفكري والفلسفي الذي حذا به إلى تعميق العديد من الإشكاليات المتعلقة بالإبستمولوجيا وفلسفة العلوم، المجال الذي اجتذب إليه كل أبناء هذا الجيل بشكل ملفت، إذ ليس من بين هؤلاء الذين ذكرنا من لم يكتب في إضاءة جانب من جوانب الإشكالية الكبرى للعلم الحديث، وكان هدفهم البعيد ـ عبر التأكيد على أثر المعارف العلمية على بنية العقل ـ خلق تيار فكري في المجتمع يعمل على توضيح الأسس الحقيقة للنهضة الحديثة، وبيان الارتباط الوطيد بين الثورات السياسية والاجتماعية والثورات العلمية التي صنعت أمجاد العقل البشري وقوة العالم المتقدم.
غادرنا سالم يفوت وفي ملامح وجهه التي تطبعها الجدية والعزم دوما، آثار سؤال قديم، عن مصير المشروع الفكري الرائع كله، وأسباب النكوص الرهيب والانحطاط التام الذي تتخبط فيه مجتمعات المسلمين، التي ما فتئت المسافات تباعد بينها وبين العالم المتقدم، يسائلنا وهو أعلم بالأسباب التي اكتوى بنارها يوما، عندما كانت السلطة ـ في الوقت الذي كان فيه الجيل المذكور يعمل على التأسيس لعصر تنوير مغربي ـ تعمل على إشاعة المدارس السلفية على النمط الوهابي، وتأتي من أرض الكنانة بمن يعلم المغاربة أن الفلسفة عند المسلمين إنما هي "أصول الفقه"، من أجل معاكسة أي تنوير، وصنع مجتمع على مقاسها.
كانت النخب النيرة تسعى إلى تغيير عقول الناس وأنماط تفكيرهم وسلوكهم من أجل المستقبل، بينما كانت السلطة تعمل على أن تظل عقول الناس على ما هي عليه، حتى لا يضطر ذلك السلطة في يوم ما إلى أن تتغير.
علينا اليوم اعترافا بجميل هذا الجيل الرائع من المفكرين والجامعيين، أن نحتفي بعطائهم ونشكرهم ـ الأحياء منهم والأموات ـ عبر التذكير بأعمالهم الجليلة التي من المؤكد أن الناس يحتاجون إليها اليوم أكثر من ذي قبل.
ان اغرب الظواهر و اعقدها على الفهم، هو كيف ان المشيئة الالهية تأخذ المعدن الحقيق و الاستاذ اللطيف المجد و تترك اشباه رجال قطع الرؤوس في معابد الكنائس و الاديرة، و ان اكبر المتربصين بالفلسفة و انتشلرها في المغرب هم اساتذة من نفس الشعبة، لم يكن لهم مشروع اعلمي أو قدرات علمية و اكاديمية تسمح لهم بالتميز و الظهور. كما عاتوا في الارض فسادا و عبثا بعقول ابناء الشعب المغربي و ما ابناء الشعبة زمن النهاية الثمانينلات و التسعينات لدليل على جرائم بعضهم في حق بعض الطاقات التي اكتشفها سالم يافوت، كاستاذ طبيب و التي سوف نكشفها في المستقبل القريب. انه استاذ طبيب يعرف اوجاع طلبته و معاناتهم ليقترح عليهم الكتب الشافية.؟ و لن ازايد على الرجل بصرحه العلمي و الفلسفي دونما الارتهان الى مجهودات الطلبة و عرق جبينهم البحثي الذي كان يقتات منه اشباه اساتذة الفلسفة. ان سالم يفوت لم يمت بل ترك حفدة و اصدقاء من الباحثين لم يمكن ان يتنكروا لتكوينه لهم و فتحه لافاق في تاريخ العلم و الترجمة و البحث في التراث بشكل جيد. ان الرجال العظام يعرفون بخصومهم العلميين و ليس بالاستقواء على طلبتهم المساكين و المحتاجين علميا و منهجيا. لقد انتقد الرجل كلود ليفي سترواس من خلال نزعته العلمية الاختبارية بطريقة علمية و منهجية لا غبار عنها، كما انه لم يرحم غاستون باشلار في فلسفة النفي و مشروعه القائل بالبحت عن فلسفة مطابقة للعلم من خلال نقده عن المسكوت عنه الايديلوجي و السياسي في نظرية العلم ليعبر عن ما مفاده" لقد وعدناا بفلسفة مطابقة للعلم و لكنهة جائنا بلفسفة لاهذا و لاذاك مستغلا للجدل الهيجلي دون ان يصرح به"