من يحتكر حقائق تاريخ المغرب المعاصر ؟
كعادته منذ عقود، انبرى السيد عبد الكريم غلاب لنقد مذكرات زعيم سياسي آخر هو المحجوبي أحرضان، كما انتقد جميع مذكرات القياديين الذين سبقوه، محتفظا بنفس نزعته الشرسة في مهاجمة كل من حاد قيد أنملة عن الرواية الأرثوذوكسية التي كرسها طوال حياته، ودافع عنها من الموقع الذي وجد فيه. ولا تقف شراسة السيد غلاب عند حدود اللياقة، بل عودنا على أن يكون فظا في غاية الفظاظة، فاحشا حدّ الإقذاع، قاسيا كلّ القسوة في السبّ والشتم بدون تحفظ، وكأن المستهدفين بشتائمه اقتربوا من الأسلاك الشائكة لمملكته الحصينة، أو كشفوا الغطاء عن شيء يحرص بكل تفان على التستر عليه كما يفعل صاحب الألعاب السحرية بأدواته المذهلة، والتي يخشى أن يكتشف الناس أسرارها فتبطل الدهشة والانبهار، وتتراجع ثقتهم في مواهبه الخارقة.
فمن هو السيد عبد الكريم غلاب ؟ هل هو باحث محايد مختصّ في تاريخ المغرب، يقوم بدراسات علمية أكاديمية مجردة من أية نزعة سياسية أو إيديولوجية، ويتناول الوثائق والوقائع بعين الباحث المدقق المتفحص البريء من أية ميول أو حسابات لصالح هذا الطرف أو ذاك ؟
هل هو وصي على تاريخ المغرب، استأمنه الناس حارسا على أسراره وحقائقه الخالدة حتى لا يطالها النبش والتأويل وإعادة القراءة ؟
السيد عبد الكريم غلاب كما يعرفه الجميع، هو عضو قيادي في حزب سياسي هو حزب الاستقلال (حزب يميني محافظ)، نذر حياته للتنظير لأطروحة حزبه التي سماها "التعادلية"، ولإدارة جريدة "العلم" التي هي لسان حزب الاستقلال، وألف كتاب "تاريخ الحركة الوطنية" الذي وضع فيه عصارة فكر الطبقة التي ينتمي إليها، والتي تأسس خطاب الحركة الوطنية انطلاقا من رهاناتها السياسية والاجتماعية، ومن رؤيتها لطبيعة الصراع والمصالح في سياق تاريخي محدّد.
قبل سنوات كتب الرجل تعليقا على مذكرات الفقيه البصري بعنوان "الأفواه القذرة"، حيث لم يرق له أن يحكي المعارض اليساري لنظام الحسن الثاني بعض الوقائع التي لم ترد في كتابات السيد غلاب ولم تنشرها جريدة حزبه، والتي تكشف عن الجانب الآخر، التاريخي أيضا، لشخصية الزعيم علال الفاسي.
وكان قبل ذلك قد علق على مذكرات أحمد معنينو التي اعتبرها "هذيانا"، فقط لأنها أماطت اللثام عن مرحلة مؤلمة من تاريخ الصراع بين حزب الشورى وحزب الاستقلال.
وها هو اليوم يعلق على مذكرات المحجوبي أحرضان ناعتا إياها بـ"التافهة" التي "لا تستحق القراءة، لأنها مليئة بتزوير الحقائق والكذب على التاريخ" بل إنه أضاف بدون تحفظ أنه "يجب عدم الأخذ بهذه المذكرات كمرجع تاريخي" (كذا !).
هل يمكن لعاقل أن يصدّق أنّ كل ما يحكيه زعيم سياسي هو حقّ كله أو كذب وتزوير كله ؟ وهل من الضروري النظر إلى مذكرات السياسيين بمعيار الصدق والكذب ؟ أليست مذكرات الزعماء حكيا لوقائع مرت أمام أعينهم أو على مسامعهم في ظرفيات سابقة، ما يعني أنها تعبير عن رؤية من زاوية معينة، ليست بالضرورة هي الزاوية التي يرى منها الآخرون نفس الأحداث والوقائع، خاصة إن كانوا ينتمون إلى جيل آخر أو تنظيم آخر أو موقع مغاير كلية ؟
هل من الضروري أن ينظر أحرضان إلى أحمد بلافريج أو علال الفاسي أو امحمد بوستة كما نظر إليهم عبد الكريم غلاب ؟ وهل شهادة زعيم في زعماء آخرين تنتقص بالضرورة من قيمتهم ؟
إن المذكرات لا تتضمن حقائق تاريخية مطلقة ونهائية، بل تجارب ورؤى وعبرا تمّ استخلاصها من طرف هذا الشخص أو ذاك من خلال المسار الشخصي، أما القراءة التاريخية الأكثر إنصافا وتجردا فلن تكون إلا عملا تركيبيا لعدة عقول محايدة (نسبيا طبعا) تقوم بمقارنة النصوص والشهادات والوثائق لاستخلاص ما هو أقرب إلى روح المرحلة واتجاه الواقع وما أفضت إليه تحولاته.