المواطنة لا تتحدّد بالعقيدة
جمعتني والسيد الشوباني الوزير المكلف بالعلاقات مع البرلمان والمجتمع المدني جلسة حوار نظمها "فضاء كوبونوس" حول موضوع "المواطنة ،، جسرنا المشترك". كان هدف المنظمين البحث عن المشترك الوطني الذي يسمح لنا بالتدبير العقلاني للاختلاف والتعددية التي تطبع المجتمع المغربي، حتى نتمكن من إنجاح الانتقال نحو الديمقراطية.
وكان عرض السيد الشوباني في البداية موفقا ومندرجا في السياق العام للنقاش، حيث تقدم بأفكار عديدة تساهم في بناء مواطنة مغربية تتسع للجميع وتمكن من ضمان "العيش المشترك" لكل المغاربة، غير أن الحاضرين فوجئوا بعد المناقشة، وعندما تناول السيد الوزير الكلمة في نهاية اللقاء باعتباره آخر متدخل لا معقب بعده، بهدمه بجرّة لسان لكل العمل الذي أنجزناه على مدى ثلاث ساعات من النقاش والحوار الفكري المثمر. ونظرا لأنه ليس من أخلاق النقاش العمومي في الندوات التعقيب على آخر متدخل في عين المكان آثرنا أن نستمر في النقاش مع السيد الوزير في الإعلام والصحافة، وأمام الرأي العام الوطني، ما دام النقاش يهمّ الجميع إذ يتعلق بـ"المواطنة"، أي بحقوقهم الأساسية.
فالمغاربة بالنسبة للسيد الشوباني في مداخلته الأخيرة "جماعة دينية منسجمة من المؤمنين"، ومن قال بغير ذلك فهو متطرف يقع في الغلوّ ويمثل نموذجا سيئا للنخبة المغربية. كان ذلك تعقيبا على قولي إن من عوائق المواطنة في المغرب والبلدان الإسلامية اعتبار المجتمع جماعة دينية منسجمة، مما يؤدي إلى ارتكاب خروقات كثيرة، وهو ما يتناقض مع مبدأ المواطنة الذي لا يقوم على العقيدة أو اللون أو العرق أو غير ذلك من التمايزات بين الأعضاء، حيث تتخذ الدولة نفس المسافة من مواطنيها المختلفين الذين يتساوون جميعا أمام القانون.
المفاجئ في هذا التصريح أنه يناقض كليا ما قاله السيد الوزير في عرضه الأول حول "العيش المشترك"، ذلك أن معنى "العيش المشترك" هو الفضاء الذي تنتظمه مجموعة من العلاقات السلمية والقانونية والثقافية التي تؤطر الاختلافات بين مكونات المجتمع حتى لا تتناحر أو تضطر إلى العنف لحماية نفسها، هذه الاختلافات يمكن أن تشمل كل شيء بما في ذلك الدين والعقيدة، وهي الاختلافات التي اجتمعنا من أجل مناقشة كيفية تدبيرها حتى نبني مواطنتنا جميعا، أي "جسرنا المشترك" كما أراد الإطار المنظم للقاء، فلو كنا جميعا على شاكلة واحدة لما احتجنا إلى حوار ولا "جسور" تمتدّ بيننا.
لا يحمل تصريح السيد الوزير أي احترام لغيره ممن يخالفه في نمط الحياة والعقيدة والدين، كما أن الجميع يعرف بلا شك ـ ومنهم السيد الوزير نفسه ـ بأن ما نطق به لا يطابق الواقع المغربي من الناحية العلمية، إذ الاختلاف في الدين والإثنية واللغة واللون والجنس والنسب هو ما يطبع كل مجتمعات العالم بما فيها الأكثر تطرفا في حراسة الدين ومراقبته كالسعودية وإيران، حيث تقول دراسات أشرنا إليها في مقالنا "ظاهرة الإلحاد في الدول الدينية" بأن أعدادا متزايدة من الشباب والنساء في السعودية خاصة أصبحت شديدة النفور من الدين والعقيدة بسبب استبداد الدولة وفرضها لنمط من التدين لم يعد يتماشى مع العصر ولا يقبله الحسّ السليم.
جوهر خلافنا مع السيد الوزير ليس أمرا جزئيا أو ثانويا، بل هو أمر يتعلق بجوهر النظرة إلى الدولة والمجتمع، وإلى المواطنة، ففي الوقت الذي اقترحنا فيه مواطنة تضمّ جميع المغاربة وتضمن حقوقهم الأساسية مهما كانت أعراقهم وأصولهم وألوانهم ولغاتهم وعقائدهم، يقترح السيد الوزير في الدقائق النهائية لحوارنا مواطنة على مقاسه، لا مكان فيها إلا لمن هو مثله عقيدة وقيما وهوية ونمط حياة، وهذه ليست مواطنة بل هي إيديولوجيا للتنميط المطلق لم تعد مقبولة في المجتمع الحديث.
إن التدين حق من حقوق الإنسان، إذ لكل واحد أن يختار الدين الذي يريد، ومن حقه على الدولة حمايته وضمان ممارسته لهذا الحق، لكن ذلك التدين الذي يختاره الفرد ليس شرطا للمواطنة، أي أن مواطنته لا تشترط ضرورة اعتناقه لدين ما، حيث تتعامل الدولة بنفس التعامل مع مواطنين ليست لهم نفس العقيدة أو لا عقيدة لهم أصلا، وهي تفعل ذلك دون أن تسألهم عن معتقدهم الخاص، لأن هذا لا يهمّ سواهم.
نفهم من هذا لماذا تسلم الدولة المغربية بطائق الجنسية وجوازات السفر لمواطنيها دون أن تحدّد في تلك الوثائق هوية الأفراد الدينية أو تسائلهم عنها، فالدولة لا تميز بين مواطنيها باعتماد الاختلافات الموجودة بينهم لأن مهمتها هي حمايتهم جميعا من بعضهم البعض، ولهذا تنازلوا عن قسط من حرياتهم الأصلية لصالحها وفوضوا لها أمرهم عبر التعاقد الاجتماعي المؤسس للدولة الحديثة. ولا شك أن اليهود المغاربة والمسيحيين والشيعة والبهائيين واللادينيين يتوفرون جميعا على نفس الوثائق الإدارية المغربية، شأنهم شأن غالبية المسلمين الذين على الدين الشعبي، وأقلية الإسلاميين الذين على مذاهب الإخوان المصريين أو السلفيين الوهابيين، هؤلاء المغاربة بشتى مللهم ونحلهم يربط بينهم جميعا الانتماء إلى الأرض المغربية وإلى القيم الوطنية التي تجمع بينهم والتي يمكن تسميتها "تامغرابيت". وهؤلاء جميعا يتواجدون عمليا خارج "الجماعة" بالمفهوم الذي حدّده السيد الشوباني، دون أن يحرمهم ذلك من بطائق الجنسية المغربية ومن حقوق المواطنة (الحق في المشاركة في الحياة السياسية والحياة النقابية والثقافية، وفي الوظيفة العمومية وفي تلقي خدمات الدولة وأداء الضرائب إلخ..
هذا التمرين يمكن أن يكون مفيدا للسيد الوزير ، إذ هو كاف بأن يجعله يفهم بأن معنى "الجماعة" في الفكر الفقهي التراثي، لا يمكن أن يطابق معنى المواطنة اليوم، فقد يكون المرء خارج "الجماعة" بالمعنى التراثي غير أنه يظلّ رغم ذلك مواطنا للدولة مثل غيره، ومساويا لغيره في الحقوق والواجبات مساواة تامة، وهو ما لم يكن مقبولا لدى الفقهاء في المجتمع الإسلامي القديم، وفي إطار الدولة الدينية، لكنه أساس الدولة الحديثة والمجتمع العصري.
من المؤكد أن لعبة الأقنعة لم تعد تفيد في السياق الراهن، بل هي مضيعة للوقت والجهد والثقة، والأفضل أن يتحلى المرء بالشجاعة ليقول ما يعتقده بصدق دون حاجة منه إلى أن يتخذ لكل حالة لبوسها، لأن تلك لعبة لا تدوم، وفي حالة ما إذا لم يعد الواقع يقبل من المرء فكرة ما فعليه أن يدرك بأن زمانها قد انتهى، وأن عليه مواكبة تحولات المجتمع نحو الأفضل.
قد يكون أمرا عاديا ومألوفا أن ينبذ بعض الإسلاميين من التيار السلفي المتشدّد معنى الاختلاف والتعدّدية، وأن يميلوا إلى تغليب فكرة الوحدة العقائدية والتجانس المطلق لأنهم يعيشون في التراث لا في الواقع، ولكنني أجد أمرا معيبا أن يرفض القيم التي هي أساس المواطنة من يتولى منصبا حكوميا، ومهمته تنسيق "الشراكة مع المجتمع المدني".
أفهم الآن لماذا انبرت مئات الجمعيات لنقد مخطط السيد الشوباني والاحتجاج عليه، وأخشى أن يكون سبب ذلك أنه فهم الشراكة أيضا كما فهم المواطنة، أي في حدود "جماعة المؤمنين"، وفي هذه الحالة علينا أن نكون مستعدين لمواجهة إنفاق المال العام على عينة من الجمعيات دون غيرها.