الكولونيل "السلفي" بين الواجب المهني والهوى الشخصي
في كل مرة يحاول فيها الإسلاميون والمحافظون عموما اعتماد مادة من مواد حقوق الإنسان يكون ذلك بهدف هدم تلك الحقوق أو تمييعها أو تحريفها بإعطائها دلالات مخالفة لدلالاتها الحقيقية، ومعاكسة لأهداف من يدعون إليها في قضايا إنسانية عادلة وواضحة، والسبب أنهم لا يؤمنون بتلك الحقوق ولا بأسسها الفكرية والفلسفية ويعتبرونها حقوقا "غربية" المنشأ، ولا علاقة لها بالمسلمين الذين كتب عليهم أن يعيشوا في عبودية السلاطين والأمراء والخلفاء والدعاة و"أهل الحلّ والعقد" إلى ما لا تعرف نهايته. ولعل الحالة الوحيدة التي يستعمل فيها هؤلاء مرجعية حقوق الإنسان بشكل سليم هي عندما يحتاجون إليها في الدفاع عن أنفسهم عندما يصبحون في وضعية لا يحسدون عليها.
قضية كولونيل القوات المساعدة الذي رفض مصافحة والية جهة الغرب الشراردة ، قضية لا تتسع للمهاترات الإيديولوجية ولا للحسابات الضيقة والسطحية، لأنها قضية وجود دولة من عدمه، وما قاله بعض المتشدّدين الإسلاميين الذي يلبسون لبوس المعتدلين لا علاقة له بجوهر الموضوع، فالمشكل ليس إن كان من حق الكولونيل مصافحة امرأة تتولى منصبا ساميا أو عدم مصافحتها بسبب قناعات عقائدية أو شخصية، أو اختيار فردي حرّ، بل المشكل هو ما إذا كان هذا الكولونيل يعترف بالتراتبية التي تحكمه في منصبه وبقيم اللباس الرسمي الذي يرتديه والمهنة التي يمارسها ويتقاضى عليها أجرا أم لا، لأن الشخص الذي لم يعد يؤمن بتلك القيم التي توجب عليه احترام رؤسائه وتنفيذ أوامرهم في الجيش أو الأمن ـ سواء كانوا رجالا أو نساء ـ يكون عليه أن يستقيل من مهنته لكي ينعم بكامل الحرية في حياته الخاصة، ويصافح من يريد ويتجاهل من يريدّ، وإن كان ذلك يعدّ من سوء الأدب بمعايير عصرنا هذا.
ما الذي جعل أهل التوحيد والإصلاح يدافعون عن هذا الموقف الفج والمتهور للكولونيل المذكور، ثمة أمور لم يصرح بها فقهاء الإسلام السياسي لكنها لا يمكن أن تخفى على لبيب:
ـ هناك أولا ضمن المكبوت السياسي للفقهاء كراهيتهم القديمة لتولي المرأة مناصب الترأس والسلطة، فلمدة قرون طويلة ظلت المرأة محرومة من العمل في المجال العام وتولي المناصب بسبب شرط "الذكورة" الذي جعله الفقهاء أساس تولي القضاء والإمارة وإمامة الصلاة إلى غير ذلك من مواقع الصدارة، فالمرأة تابعة للرجل وتحت قوامته ووصايته، وخروجها للعمل والتفوق في العلوم والتقنيات وفي الذكاء وتسيير المؤسسات وقيادة الدولة هي مجرد منزلقات أفضى إليها تطور منحرف يقود العالم إلى الدمار والانهيار. ولهذا وجد فقهاء الإسلام السياسي في تهور الكولونيل بعض "عزة" الرجال و"أنفتهم" من المنظور الفقهي القديم، فوقع ذلك في أنفسهم موقع الاستحسان والرضا، متناسين أنهم في زمان غير زمان فقهاء السلاطين وأيام الحريم.
من جانب آخر أيقظ سلوك الكولونيل كوامن خفية في نفسية هؤلاء المحافظين، لم يعودوا يجرؤون على التعبير عنها وهم المأخوذون بنهر الحياة العصرية الجارف الذي يجري بلا هوادة، فالمصافحة من بدع عصرنا المذمومة، التي تجعل ملامسة يد المرأة الناعمة تثير لواعج العشق وتوقظ عفاريت الرغبة الجامحة، فكما أن الرجل عند الفقهاء وحش مفترس ذو شهوة متوثبة لأقل المثيرات، فالمرأة قطعة لحم طرية لا توحي إلا بالافتراس، هل يسمح مشهد استقبال والية جهة لكولونيل القوات المساعدة باستحضار هذه الصور المضحكة ؟ هل حقا نحن في القرن الواحد والعشرين ؟
نعم لا شك أننا نعيش زماننا، لكن هناك من ما زال يعيش ذهنيا في القرن العاشر.
يحب الفقهاء ودعاة الإسلام السياسي كل ما يهدم الدولة الحديثة، ويسعدون برؤية من يعيد إنتاج سلوكات لم يعد لها من مبرر في أيامنا هذه، لكن وهم يفعلون ذلك، يحكمون على أنفسهم بالعزلة وبالتهميش، لأن الواقع لا يمكن أن يجاملهم.
لكن من جانب آخر لا بدّ من إنصاف الكولونيل "السلفي" الذي اعتقد أن مصافحة امرأة يوقظ غريزته في الوثوب عليها وارتكاب "الفاحشة"، وذلك بمحاسبة السلطة على الطريقة التي تم بها إبعاده، فالدولة الحديثة ليست فقط عبارة عن نظم وقيم عقلانية، بل هي أيضا مساطر قانونية، ومن أخطأ من موظفيها لا تقوم بالانتقام منه بطرق ما قبل الدولة الحديثة، لأنه لا يجوز معاملته ـ بسبب خطأ ارتكبه ـ بطريقة لا قانونية.
لا شك أن من لم يعد يحترم تراتبية الجيش أو الأمن أو البذلة الرسمية بسبب عقيدة أو عرق أو لون أو جنس، لم يعد يصلح لتلك المهنة، ولا باستطاعته ممارستها بالشكل المطلوب، لكن طريقة معاقبته لا تكون عبر التخلص منه بتعليمات جهة غاضبة أو نقمة طرف فقد أعصابه وخرج عن طوره، فالدولة لا تسير بالمزاج الفردي بل بقوانين تسمو فوق الجميع.