أنقذوا سكان "إميضر" ! كاد الفقر أن يكون كفرا بالوطن
أحمد عصيد
"الفتح العظيم" الذي طالعتنا به الصحافة، والذي حققه متطرفون دينيون من أتباع الحزب الحكومي بعين اللوح، والمتمثل في ترحيل 800 امرأة في إطار ما سمي "محاربة الدعارة" (وهن النساء اللواتي لا شك سينصرفن الآن إلى العبادة والذكر في المناطق التي تمّ ترحيلهن إليها، بعد أن ضمنت لهن حكومة بنكيران كل أسباب العيش الكريم) هذا الفتح المبين يجعلنا نلفت الإنتباه إلى الوجه الآخر من المشهد الكئيب الذي يخفيه شغب الإسلاميين وتهوّرهم، ففي الوقت الذي يجتهد فيه أشخاص ويسهرون بعزيمة نادرة على ملاحقة النساء في إحدى أكثر مناطق المغرب فقرا، في غياب أي منظور مستقبلي للتنمية الفعلية التي تحفظ الكرامة، لا يتوقف ساكنة "إميضر" عن إطلاق نداءات الإستغاثة، وهم المقيمون على جبال من الفضة لم ينتج بريقها إلا الآلام والإحباط والشعور بالمذلة.
يسعى الإسلاميون المهيّجون والأنانيون، والذين لا يرون أبعد من أنوفهم، إلى مراكمة بعض "الحسنات" على حساب نساء بئيسات وفي وضعية غاية في الهشاشة، في الوقت الذي يصرخ فيه سكان من العطش وهم معتصمون في العراء لأزيد من ثمانية شهور، دون منقذ أو مجير ولو من باب "النصرة"، فالسلطة تخجل من حماية ضحاياها من النساء اللواتي يحترفن الدعارة، لكنها لا تخجل أبدا من سياساتها اللاشعبية التي جعلت مناطق المغرب غير النافع لأهله ـ والذي يغدق ذهبا على من يجهل حتى وجوده في الخريطة ـ جعلتها موزعة بين الدعارة والتهريب والهجرة وتجارة المخدرات وقوارب الموت.
الحقيقة المغربية التي ظلّ النسق السياسي وإعلامه يحاولون التغطية عليها هي أنه لا يمرّ أسبوع دون أن تعرف الجهات المهمشة ثورات وانتفاضات خبز وفقر وجوع، فمن "صفرو" إلى "بوعرفة" إلى "بومالن ن دادس" و"تنغير" ثم "سيدي إفني" إلى "أوناين" عبر "تيزي نسلي" بناحية أزيلال، مرورا بـ "أيت عبدي" و"أنفكو" و"الحسيمة" و" طاطا" و"العيون" ، ثم أخيرا سكان "توزونت" و"إميضر" و"تازة" و"بني بوعياش"، انتفاضات وثورات وانفجارات صغيرة لم تكن تلقى الإهتمام الذي تستحق من وسائل الإعلام والقنوات الدولية، لأنها لا تجري في الحواضر الكبرى التي تستقطب اهتمام الإعلاميين، ولكنها صرخات الهوامش المغيبة في برامج التنمية للدولة، تلك التي مازال البشر فيها يعامل كما تعامل البهائم، دون أي اعتبار لأبسط الحقوق، هي انتفاضات أهم ما فيها أنها توجه رسائل قوية إلى أولي الأمر ليعلموا أن الناس وإن ظلوا في معظمهم أميين بإرادة الدولة، التي ما زالت تعول على استعمالهم خزانا من الأصوات للتحكم في نتائج الإستحقاقات والمؤسسات المنتخبة، إلا أنهم واعون بحقوقهم وبكرامتهم كمواطنين، وأن الإفراط في نسيانهم فد يؤدي بهم إلى درجة الكفر بوطنيتهم المغربية.
نعم إن سكان البوادي المهمشة لا يشعلون النيران في أنفسهم، ولا ينتحرون على مرأى من الكاميرات وأمام الملإ، إنهم فلاحون ذوو إرادة وحنكة في مواجهة أعباء الحياة، لكنهم لا يتوقفون عن بعث الرسائل المتوالية إلى العاصمة ومراكز النفوذ والثروة، ليذكروهم بوجودهم، وآخر هذه الصرخات ما ظل يبعثه بإصرار سكان منطقة "إميضر" ناحية تنغير، الذي ابتلوا بوجود منجم للفضة في منطقتهم، منجم هو الأول إفريقيا والسابع عالميا، ينتج الأطنان من الفضة في السنة، دون أن يكون له أثر ولو بسيط على سكان المنطقة، الذين تعبوا من طرق الأبواب بسبب ما ألم بهم من بلاء من الشركة المعلومة التي تستغل ثروات البلاد دون أي اعتبار للقوانين الوطنية والدولية.
تعتمد الدولة المغربية قوانين فرنسية في استغلال الثروات الطبيعية التي هي ملك للدولة، لكنها تقوم بذلك كما يقوم بها الإستعمار تماما، أي نهب خيرات البلاد أمام سمع وبصر "الأنديجين" الذين ليس لهم حتى حق السؤال عن أبسط مصالحهم، النصوص الدولية المنظمة لهذه الحالة تقول إن أول ما ينبغي أن ترعاه الدولة هو مصالح السكان المتضررين، إذ لا يعقل أن تغتني الدولة على حساب منطقة يتم الحكم عليها بالإعدام والتصحّر القسري، وأولى مبادئ العدالة أن يشعر السكان بمردودية المنجم الذي في أرضهم على منطقتهم، والحال أن ما حدث ويحدث بـإميضر منذ سنوات طويلة، هو أن الشركة المستغلة قد امتصت المياه الباطنية وخلقت جفافا أدى إلى حرمان السكان من حقهم من الماء، ويعرف جميع من ينحدر من المنطقة المذكورة بأن ينابيع المياه العذبة لم تجف قط حتى في أكثر المراحل قحطا، إلى أن حطت الشركة بقيمها الرأسمالية المتوحشة وبعقلية النهب القديمة.
لم تقف خسائر السكان عند هذا الحدّ، فتصريف المياه المستعمله وفضلات المنجم يتم طرحها في الهواء الطلق رغم احتوائها على مواد سامة وخطيرة، مما يهدد البيئة والطيور والبهائم والحيوانات، كما أضرّ المنجم بالغطاء النباتي، وأصبح يهدد المياه الباطنية بالتسمم، وحطم طرق المواصلات بسبب شاحنات الشركة الضخمة، كل هذا جعل المنطقة تبدو في حالة كئيبة، فإذا كان لمعان الفضة يضيء بعض القصور والبنوك، فإنه ينعكس بشكل قاتم على سكان الأرض التي جادت به، وإذا كان من المفترض أن يبتهج السكان لأن منطقتهم تجود بالفضة الخالصة للوطن، فإنهم في حال من الغليان والشعور بالإهانة مصدره ضياع أبسط حقوقهم .
و المثير للإستغراب هو الأساليب المراوغة التي تستعملها الشركة المستغلة للتملص من أداء واجبها تجاه السكان المتضررين، الذين ظلوا حتى الآن يعتبرون أنفسهم خاسرين، ويطالبون بالإنصاف، بحقهم في العمل، وفي الماء.
ونجدنا اليوم محاصرين بالأسئلة التالية التي على حكومة "البيجيدي" الذي وعد المغاربة بالشفافية ومحاربة الفساد، والذي بدا مهتما أكثر حتى الآن بمحاولة تكميم الأفواء والتخطيط لقمع الحريات وتشريد النساء : لماذا لا يطرح موضوع كهذا في البرلمان المغربي رغم الإتصالات التي قام بها السكان من أجل ذلك ؟ ولماذا يتهرب المسؤولون من هذا الملف بمجرد أن يتم اللجوء إليهم ؟ ما هي الجهة في الدولة المخوّل لها إنصاف السكان في مثل هذا الموضوع ؟ ولماذا تخلت الأحزاب السياسية عن السكان في محنتهم ؟ لماذا لا يناقش موضوع قوانين استغلال الثروات الطبيعية لا في الحكومة ولا داخل البرلمان ولا في وسائل الإعلام العمومية ؟ لماذا ورثت الدولة المغربية قوانين الإستعمار واستمرت في اعتمادها في مرحلة الإستقلال بشكل أكثر قسوة من الإستعمار نفسه الذي كان ـ بشهادة شيوخنا وأجدادنا ـ أكثر رأفة بالناس وحرصا على عدم الإضرار بهم ؟ هذه أسئلة ينبغي الإجابة عليها بالوضوح اللازم إن كنا في دولة تتجه حقا نحو الدمقرطة السلمية والهادئة، و تعمل على تجنب الفتن والإضطرابات المدمرة.