حكومة بوجهين
التقية منهج شيعي، ابتكره أتباع علي بن أبي طالب بعد أن أصبحوا تيارا دينيا وفكريا وسياسيا في المجتمع الإسلامي منذ القرن الأول، ومضمونه أنّ على المرء إخفاء حقيقة اعتقاده وانتمائه والتربص وتحيّن الفرص إلى أن يأتي زمن الظهور، فيتكاثر الأتباع، وعندئذ يتمّ الانقضاض على السلطة وإعمال السيف في المعارضين وفرض الأمر الواقع.
هذا ما حصل فعلا في بعض أقطار العالم الإسلامي، قبل قرون طويلة، واستمر إلى أن وقع بموجبه اغتيال ثورة الشعب الإيراني وتهريبها من طرف الملالي أصحاب العمائم السوداء والبيضاء، الذين نصّبوا بدل استبداد سابق استبدادا لاحقا أسوأ وأظلم.
أما في عصرنا هذا الذي عنوانه الحريات والمساواة وحقوق الإنسان، فمنهج التقية المذكور هو منهج الضعفاء والجبناء، الذين يضمرون خلاف ما يجهرون، لأن نيتهم الغدر بالمجتمع وبالفرقاء الذين يخالفونهم في الرأي والتوجّه، ففي الديمقراطية لا مجال لما يسمى "التقية"، ما دام لا أحد بحاجة إليها، وإنما الشفافية والوضوح الفكري والسياسي هما أساس خوض معترك السياسة وتدبير الشأن العام، ومن هنا مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة، المسؤولية ليس على ما تم إخفاؤه بل على ما تم إعلانه والتصريح به برنامجا سياسيا علنيا، والمحاسبة ليس على ما لم يتم فعله، بل على الاختيارات والسياسات المتبناة.
هذه الثقافة الديمقراطية بقيمها النبيلة ما زالت موضع ممانعة من طرف الإسلاميين الذين يفضلون العمل بوجهين، وجه ديمقراطي علني يجنبهم ردود الأفعال القوية ضدّهم، ووجه ظلامي إقصائي يعكس الأهداف الحقيقية المبيّتة.
سياسة التقية هذه، أي سياسة الوجهين، ظهرت بوضوح لدى وزيرة التنمية الإجتماعية والتضامن والأسرة، ووزير العدل في الحكومة المغربية هذه الأيام، الأولى وهي بصدد تناول موضوع تجريم الإغتصاب أمام فريق حزبها بالبرلمان، والثاني وهو يعرض حصيلة وتوجهات الدولة المغربية في حقوق الإنسان أمام مجلس حقوق الإنسان والمفوضة السامية لحقوق الإنسان بجنيف .
الواقع أننا لا ندري أين نصنف الوزيرين حتى الآن، فهما عندما يتوجهان بخطابهما إلى الخارج يعلنان مبادئ منسجمة مع ما هو متفق عليه من اختيارات ديمقراطية كونية، وعندما يتوجهان بخطابهما إلى الإستهلاك الداخلي أو إلى أتباعهما يُغيّران كليا جلدهما، و يتخذان مواقف أقل ما يمكن أن يقال عنها إنها مناقضة لخطاب حقوق الإنسان كما هو متعارف عليه عالميا، وكما يعكسه خطابهما الموجّه للخارج.
ما هو الفرق بين وزراء "البيجيدي" وبين السلطات المخزنية التقليدية ؟ في الواقع لا فرق بتاتا، فهي نفس المنهجية الحربائية التي تعتمد الخطاب و نقيضه حسب المقام والسياق، وتنتهي إلى تكريس واقع الظلم واللامساواة وخرق الحقوق والحريات.
في قضية أمينة الفلالي كان للوزيرة وللوزير رأي مخالف للتنظيمات الحقوقية النسائية، وللقوى الديمقراطية بالمغرب، بل ولرأي عموم المواطنين في الشارع المغربي كما ظهرت في وسائل الإعلام، حيث طالب الكل أمام هذه الفاجعة بمراجعة القوانين التي تؤدي إلى عدم تجريم الإغتصاب، وبإنصاف المرأة أو الفتاة القاصر، لكن الوزيرين انضما إلى تقاليد المجتمع المتخلف ضدا على حقوق الإنسان، وأصدرا من التبريرات ما يندى له الجبين، وكل ذلك لتفادي تعديل القوانين، وعندما اتهمت الوزيرة بالسعي إلى الالتفاف على الأجندة الحكومية للمساواة بين الجنسين، المدعومة من طرف الاتحاد الأوروبي، أطلقت تصريحات إيجابية تنفي ذلك جملة وتفصيلا، وتعلن احترامها للمبادئ المنصوص عليها في الاتفاقية، وعندما اجتمعت مع فريق حزبها بالبرلمان نسيت كل المواقف المعلنة للاستهلاك الخارجي، ووضعت القناع جانبا، وبدا أن ما يشغلها هو تصفية الحسابات ضدّ تنظيمات الحركة النسائية المغربية التي لا يعود الفضل لغيرها في ما تحقق من مكاسب للمرأة المغربية، وهي صيغة للهروب من حرج السقوط في التناقض بين المواقف المعلنة، و ما يتم استهلاكه داخل "البيجيدي" من مواقف وآراء منافية لحقوق الإنسان ولتوجهات الدولة المغربية المعلنة.
وهذا ما قام به وزير العدل بدوره، عندما صرح أمام المنتظم الحقوقي الدولي بأن من بين أولويات برنامج حكومته، "تعزيز احترام حقوق الإنسان وحمايتها والنهوض بها، وذلك من خلال اعتماد سياسة عمومية مندمجة لترسيخ الحقوق والحريات والمسؤوليات والمواطنة الفاعلة، وتكريس المساواة بين الجنسين والمناصفة، ومكافحة كافة أشكال التمييز" (كذا!) وهي تصريحات عندما نقارنها بما سبق أن صرّح به الوزير من قبل، وما صرح به وزير الاتصال من تبريرات للقمع في الشارع وللاعتقال والمنع والمصادرة، وما صرح به وزراء آخرون أمثال بوليف والشوباني، ندرك مقدار التناقض الذي تتخبط فيه الحكومة الحالية.
هل كان الوزير يعرض سياسة "المملكة المغربية" التي ليست بالضرورة هي سياسة حزب "البيجيدي" واختياراته ؟ ما جدوى الدفاع عن سياسة لا يؤمن بها الوزير بل يحاربها في الخفاء هو ومن معه ؟
tanmert tanmert
tanmert tanmert