صراع القيم و المرجعيات بالمغرب أي دور للأمازيغية ؟
يجتاز المغرب في راهنه مرحلة عصيبة يسمها صراع قوي حول القيم ومن أجل السلطة، و هي وضعية ذات جذور و امتدادات تجعل منها مرحلة انتقال تمّ تمديدها بشكل مقصود بسبب عدم القدرة على الحسم النهائي في الإختيارات، مما يفسر احتفاظ السلطة بتقاليد اللعب على الحبلين "أصالة ـ معاصرة"، دون اختيار أي منهما بشكل نهائي.
و لعل معركة الحريات الفردية من أبرز مجالات تمظهر هذا الصراع حول القيم و المرجعيات، حيث تطفو على سطح المجتمع، بسبب التحولات التي طالت مختلف بنياته، ظواهر جديدة تعكس وعيا مغايرا بالإختلاف و بنمط العلاقات التي ينبغي أن تسود، مما سمح ببروز أشكال جديدة من التنظيم الشبابي التي تحمل خطابات هامشية لكنها تعبر عن نوع من التذمر من الثوابت التقليدية و من قيم الفئات المحافظة.
كلّ هذا يعني أن المغرب يعيش فترة تحول بطيئة، لكنها تتجه على العموم نحو تكريس القيم الكونية التي يدعمها مسلسل العولمة بقوة، و هو ما يطرح على مختلف التيارات و الحساسيات السياسية و المدنية سؤال الهوية و الخصوصية و موقع الذات مما يجري، و حسابات الربح والخسارة .
في هذا السياق تطرح على الأمازيغية ـ باعتبارها عامل تحرير ـ تحدّي الإسهام الفكري و الحركي في الدفع بمسلسل التحولات في اتجاه إنجاح مشروع الدمقرطة و التحديث، فخلافا لما يراه التيار المحافظ داخل الحركة الأمازيغية، و الذي يفضل الإختباء وراء شعارات الحقوق الثقافية بمعناها الضيق، سيكون على الخطاب الأمازيغي، الذي ينحو منذ مؤتمرات البيان الأمازيغي مارس 2000 نحو اكتساب طابع المشروع المجتمعي المتكامل، أن يضطلع بمهام طليعية في الصراع الدائر، عبر الخوض في النقاش العمومي و الدفاع عن الحقوق و الحريات العصرية بأوسع معانيها، ذلك أنّ جميع الضغوط التي تسهم في كسر طابوهات السلفية و السلطة التقليدية من شأنها أن تخلق المناخ الملائم لنهضة الأمازيغية و إشعاعها، و بالمقابل فخسارة معارك الحريات الفردية يؤدّي حتما إلى استحكام المحرمات و انحسار المدّ الحداثي الذي بدونه لن يكون ممكنا للمجتمع استيعاب درس الأمازيغية الذي يقوم أساسا على قيم النسبية والإختلاف و الحرية.
و يطرح هذا التحدّي على الفاعل الأمازيغي مهمة مزدوجة، فمن جهة عليه أن يقوم بالتوليف النظري لعناصر الخطاب الحقوقي العصري حول الحريات مع المرجعية الثقافية الأمازيغية، ومن جهة ثانية على التنظيمات الأمازيغية من الناحية الحركية أن تكون على أهبة الإستعداد لمؤازرة المتضررين من قمع السلطة أو تهجمات القوى السلفية.
إنّ الدفاع عن الحريات لا يتم بالنسبة للأمازيغي انطلاقا من المرجعية الكونية لحقوق الإنسان فحسب، بل إنه قبل ذلك يستلهم قيم ثقافته الأصلية التي هي ثقافة مقاومة و حرية و نبذ للوصاية، فعلى غرار ما تمّ خلال الصراع حول خطة إدماج المرأة في التنمية، حيث نجح الفاعل الأمازيغي في التأصيل لحقوق المرأة في الثقافة الوطنية، ردّا على الخطاب الأصولي الذي يعتبر منظومة الحقوق أجنبية كليا، يمكن اليوم كذلك إبراز أنّ الحقوق الفردية لا يمكن أن تظلّ تحت وصاية منظومة قيمية مغلقة ونهائية، و نقد الإيديولوجيا التي تسعى إلى تعليب المجتمع في إطار ثوابت جامدة، عبر إبراز الفوارق الموجودة بين ثقافة اللاهوت الشرقية، و ثقافة الأمازيغ الأرضية و العقلانية، و هذا لا يعني بالطبع أن الأمازيغ لم يعرفوا الإسلام و الأديان الأخرى، كما لا نقصد أنهم لم يعرفوا التطرف الديني و التزمت كما كان عليه شأن الموحدين مثلا، كما لا نقصد أنّ الأمازيغ لم يكن فيهم الفقهاء المناهضون للثقافة الأصلية لأقوامهم (التنظيم العرفي والجماعي)، وهي المعطيات التي يعتمدها المنظور الرسمي والإسلاميون في محاولة المطابقة بين الهوية الأمازيغية و الثقافة العربية الإسلامية القادمة من الشرق، مع تغييب كل عناصر الإختلاف، و لكن ما نقصده و نعتبره أساسيا في هذا الباب إنما هو ضرورة إبراز الإختلاف الموجود بين تدين الأمازيغ و نمط التدين القادم من الشرق، فما تنعته السلطة بـ"الإسلام المغربي الوسطي"، ليس سوى الإسلام مقترنا بالثقافة الأصلية للمغاربة، لكن السلطة تعمل على انتقاء و تأويل ما يناسبها وإخفاء العناصر الأخرى، فـ"الإسلام المغربي الوسطي" سرعان ما يتمّ عرضه على أنه "ثوابت وطنية و دينية للأمّة" لا يحق لأحد الخروج عنها أو مخالفتها، والشباب الذي لا يجد ذاته في هذا النمط من التدين المفروض والمحروس سلطويا و يتوق إلى الإنعتاق، يتجه إلى تبني نماذج ثقافية أخرى معولمة، و هو أمر طبيعي بالنظر إلى التطور الهائل و المتسارع لوسائل الإتصال و التواصل، لكن لا ينبغي أن ننسى أنّ نقطة قوة الأصولية و السلطة التقليدية هي الإستناد في مقاومة الحريات إلى ترسانة من التهم و الشعارات التي تظهر دعاة الحرية كما لو أنهم أشخاص مستلبون و غرباء عن بلدهم و عن قيمه الأصيلة، والإعتماد أيضا على نسبة الأمية المتفشية لدى الفئات الشعبية المروّضة إيديولويجا بالخطاب الرسمي و داخل المساجد. فما هي القيم الأصيلة ؟ هل هي تقاليد الوهابية المتزمتة أم التقاليد الأمازيغية الحاملة لقيم التسامح و الحرية، و التي تزاوج بين الديني و الدنيوي بشكل متوازن، وتسمح بالإندماج في العصر بدون ممانعة أو نبذ للآخر ؟ عندما يقيم الإسلاميون الدنيا و لا يقعدونها مثلا بسبب قصيدة حب قدمت لتلاميذ الباكالوريا في الإمتحان، و يتم التجمع والإحتجاج بشعار أن هذا "غريب عن تقاليدنا المغربية الأصيلة"، فإن المرجعية هنا هي الوهابية السعودية و ليس الأصالة المغربية، فشعر الحب في الأمازيغية يكاد يدخل ضمن "ثوابت" الحياة اليومية، كما أن الثقافة الأمازيغية هي على العموم ثقافة مرحة، ثقافة حياة و بهجة، وليست ثقافة انتحار.
إن الوعي الأمازيغي قادر من خلال التاريخ و المعطيات الأنثروبولوجية على أن يجعل وعي المغاربة بالدين وعيا أقل مأساوية و أكثر براغماتية، فالدين لدى الأمازيغ هو أحد عناصر الثقافة الموجودة في المجتمع، و ليس مبتدأ و منتهى الحياة، كما لا يمكن له أن يكون المرجعية الوحيدة في عصر يشهد انفجارا معرفيا وعلميا هائلا، و أفضل وسيلة للدفاع عنه و حمايته هي إدراجه ضمن الحريات الفردية للأشخاص، و ليس تحويله إلى محكمة تفتيش لمصادرة الحريات.
إن قراءة الذات و الوعي بها لا يتمّ إلا من خلال الذات نفسها، و نعتقد أنّ معظم أشكال التطرف الساعية إلى التضييق على الحريات من مرجعية دينية، إنما تعود إلى وعي بالذات من خلال الآخر المشرقي، و هذا ما يظهر أهمية الدور المنوط بالأمازيغية في سياق التحرّر و التحديث، حيث من شأنها أن تساهم بإعادة الوعي الوطني إلى مرجعياته الخصوصية المنفتحة في تخليصه من تأثير السعار الديني العابر للقارات، و تجديد صلاته بثقافته العريقة التي تجتمع فيها روافد العبقرية الإفريقية والمتوسطية و اليهودية، و هي العراقة المتجذرة في الحضارات الحية القديمة، و التي تسمح اليوم أيضا بالإندماج الإيجابي و الفاعل في الحضارة الحية المعاصرة.