المغرب و النماذج الديمقراطية
لا يهتم المغاربة كثيرا بتجارب الشعوب الأخرى سواء المجاورة لهم أو التي تقع بعيدا عن بلدهم، و لذلك كلما واجهتهم مشكلة تتعلق بأحد طابوهاتهم السياسية واجهوا ذلك بكل أنواع التشنّج والإرتباك، حيث عادة ما يغيب الفكر وتحضر العواطف و الحسابات الصغيرة، إنهم يتصرّفون كما لو أنهم وحدهم الذين يعيشون المشكل ، و كما لو أنّ بإمكانهم مواجهته والتفكير فيه بمعزل عن العالم و تجارب الأمم التي عرفت مشاكل مشابهة، و لهذا ينتهون في الغالب إلى اقتراح حلول كارثية تزيد المشكل تعقيدا. و قد زاد الطين بلّة تكريس نوع من العمى الإيديولوجي الذي مصدره ترسيخ الإعتقاد لدى المغاربة بأنهم بلد من الشرق، يجري عليه ما يجري على البلدان الشرقية العربية الإسلامية، مما يدفع بشكل آلي نحو استعارة حلول جاهزة و غاية في التخلّف أحيانا لمشاكل خصوصية، بحجّة أننا نشترك مع هذه البلدان في كلّ شيء، وهذه من النتائج الشنيعة لترسيم المرجعية الشرقانية في الفكر والممارسة عبر المنظومة التربوية ووسائل الإعلام، في الوقت الذي قامت فيه بعض بلدان العالم بتدبير عدد من القضايا بطرق حديثة أتاحت لهذه الدول تخطّي خلافاتها الداخلية بنجاح، و الوصول إلى تشييد نماذج فريدة في البناء الديمقراطي.
فقد وجد المغاربة صعوبة كبيرة في فهم إشكالية التعدد اللغوي لمدة نصف قرن، وما زالوا يجدون غاية الصعوبة في قبول التعددية الدينية والإعتراف بها، لأنّهم يعتقدون بأن حالة التدين في بلادنا حالة مغربية صرفة، بينما هي تجربة شبيهة بتجارب أخرى عديدة تم تدبيرها بشكل أفضل وبوعي ديمقراطي عصري، غير أن المغرب وفق النموذج المتمركز الذي يتبناه لا يرى من التعددية إلا اللون الواحد.
وقد سبق للحركة الأمازيغية أن ظلت على مدى خمسين سنة تشرح حقيقة المغرب اللغوية، محاولة لفت انتباه الرأي العام و النخب المختلفة في المغرب إلى أن الوحدة الحقيقية هي في الإعتراف بالتنوع وصيانته وليس في إنكاره ومحاولة إقباره، وكانت كلما طرح للمناقشة موضوع التعديل الدستوري دعت إلى ضرورة استلهام تجارب شعوب إسبانيا و فنلندا وسويسرا و جنوب إفريقيا وغيرها من الشعوب التي تعترف في وثيقتها الدستورية بعدّة لغات انسجاما مع طبيعة المجتمع وحقيقته التاريخية. وإذا كانت جهود الحركة قد كللت في النهاية بالنجاح كما كان ذلك متوقعا، إلا أن جهود الحركة الديمقراطية المغربية من أجل انتزاع مكسب الاعتراف بالتعددية في أنماط الحياة ونماذج الاعتقاد والسلوك ما زالت معركة طويلة، إذ رغم الاعتراف بالتعددية اللغوية والهوياتية، إلا أن السلطة ما زالت تكرس في سلوكها السياسي عقيدتها القديمة التي تقوم على استحكام الإيديولوجيا التقليدية للدولة الوطنية المركزية ، التي تربط الوحدة الوطنية بالأحادية الدينية والمذهبية وتربط التعددية بالفتنة والإنفجار.
يبدو مما سبق بأنّ فكرة النموذج تتبع لخيارات مبدئية و تستجيب للتوجّهات الكبرى للدولة، فأغلبية المغاربة لا يمكن أن ينظروا بعين الإرتياح و الإعجاب للديمقراطية الإسبانية القائمة على نموذج فدرالي، لأنهم تشبّعوا على مدى خمسين سنة، و عبر جميع القنوات الرسمية التي تحتكرها الدولة، بالنموذج اليعقوبي الفرنسي المتمركز، و الذي قام في غفلة منهم بإحداث ترميمات ديمقراطية في نسقه الداخلي.
يبرز هذا بشكل واضح بأن الرهان الديمقراطي المغربي لا يرمي فقط إلى إدخال كلمة أمازيغية أو عبرية إلى الوثيقة الدستورية، بل يهدف من وراء ذلك إلى تطوير النسق السياسي نحو نموذج أكثر انفتاحا ومرونة، إذ يستحيل أن يقبل دستور بلد ما الإعتراف بالتعددية في كل المجالات، إلا إذا كان قد أنجز بنجاح و حسم المرور من مرحلة من تاريخه إلى أخرى أكثر رقيا و تطوّرا، وهو ما يعني ضرورة اجتياز العقبة نحو نموذج جديد للدولة المغربية، يستفيد من النماذج الديمقراطية المتقدمة، كما من تراثه الحيّ والإنساني، ويأخذ بعين الاعتبار كل التطورات التي عرفها المغرب خلال القرن المنصرم، وهو النموذج الذي ستصبح بموجبه التعددية اللغوية والثقافية والدينية والسياسية والقيمية وتعددية أنماط العيش المتجاورة أمرا طبيعيا يتم تدبيره بحكمة وعقلانية، في إطار دولة المواطنة التي تساوي بين جميع أبنائها المختلفين.