زعيم فاته القطار
هناك مثل أمازيغي يقول: « Ur ard tffal takat abla ighd » أي «لا تترك النار غير الرماد»، وهو مثل يقال عندما يخلف أحد الآباء إبنا أو أبناء دون كفاءته ومقدرته، ينطبق هذا المثل إلى حدّ بعيد على السيد عبد الواحد الفاسي، الذي سكت دهرا ونطق هُجرا. لقد كان نجل الزعيم الاستقلالي علال الفاسي حكيما حقا عندما سكت عن الكلام المباح كل هذه المدّة، لأنه على الأقل قضى سنوات عديدة في سراديب الحياة السياسية وكواليسها دون أن يكتشف الناس مقدار غبائه. ثمة قاعدة معروفة في السياسة وفي القانون معا، وهي أن الحق المكتسب لا يمكن مراجعته أو التحفظ عليه، لأن الوضعية الإنسانية تترقى نحو الأفضل ولا تعود إلى الوراء ـ وهو ما لم يفهمه بعدُ الإسلاميون أيضا ـ فالسياسي الذي يعيد الناس إلى سابق عهدهم من التعاسة والظلم والميز لا يستحق أن يكون زعيما، إذ السياسة التي يقال عنها فنّ الممكن، إنما وُجدت لتدبير الظرفي وحلّ مشاكل الجماعة المنظمة، بينما فهمها سّي عبد الواحد على أنها معبد لتقديس الإيديولوجيات البائدة.
لن أتدخل في الصراع الدائر على الزعامة بين الاستقلاليين فهذا شأن داخلي لا يخصّ سواهم، لكنني أهتم بمواقف المتنافسين على الزعامة من حقوقنا نحن المغاربة، ومن طبيعة الدولة ومن الدستور، ومن القضايا المطروحة في النقاش العمومي، سواء الحقوق الاقتصادية أو الاجتماعية أو السياسية أو الثقافية واللغوية، وأرى على هذا المستوى أن ما عبّر عنه سي عبد الواحد يدلّ على أنه ليس بالشخص الكفء للزعامة، لسبب بسيط هو أنه لم يفهم شيئا مما وقع خلال العشرية الأخيرة من تاريخ بلده، وخاصة من 20 فبراير إلى الآن، أي أنه «زعيم» تخلف عن الركب لسنوات ضوئية.
وحتى إذا أصرّ على أن يظهر بمظهر الذي يحفظ كنانيش والده عن ظهر قلب، فقد فاته أن والده نفسه، لو ظل حيّا، لكان قد راجع بذكائه الوقاد الكثير من الثوابت التي اختطها في ظرفية طبعتها في الغالب صراعات المرحلة الكولونيالية وما بعدها بقليل.
ناضلت القوى الأمازيغية لما يقرب من نصف قرن من أجل أن يكون للأمازيغية، هوية ولغة وثقافة، مكان تحت الشمس، وعندما نجحت في انتزاع اعتراف دستوري ثمين، بعد تضحيات جسيمة وصبر وأناة، يأتي ابن الزعيم الاستقلالي الذي يحلم متأخرا بأن يرث كرسي والده بعد أن مرّت من تحت الجسر مياه غزيرة، ليقول في أول خرجة صحافية له إنه لا يتفق مع ما في الدستور، وإن لغة رسمية واحدة تكفي، وإنه لو نجح التعليم في المغرب لما كانت الأمازيغية قضية مطروحة، لأنها نتاج الأمية والجهل.
مرة أخرى نجدنا ملزمين رغم أنه لا وقت لدينا لذلك، لتذكير بعض السياسيين الأميين بـ «ألفباء» الهوية والتاريخ المغربيين:
أولا: إن الأمازيغية لا تستجدي حزب الفاسيين، ولا تنتظر منهم أي شيء، لأنها في قلوب المغاربة الذين احتضنوها في اللحظة الحاسمة، وكانوا عند الموعد بنسبة 90 في المائة من المذكرات التي اقترحت عند مراجعة الدستور.
ثانيا: إن لغة واحدة في الدستور تعني مغربا أعرج أو أعور، أي معاقا تماما، ونحن نطمح إلى مغرب يتسع لكل أبنائه وإن ضاق بهم صدر ابن علال الفاسي.
بين الثلاثاء والخميس قبل إعلان الدستور المعدل في ذهاب وإيالب عند ما يسمى "الآلية السياسية" التي يرأسها محمد معتصم المستشار الملكي، من أجل الدفع نحو التراجع عن ترسيم الأمازيغية وإقرارها فقط لغة وطنية، كما لو أنها ليست كذلك، وبعثت امحمد الخليفة الذي نادى على الناس في برنامج تلفزي خصص له وحده لمدة ساعة ونصف، ليقول ما معناه إذا أصبحت الأمازيغية رسمية فسيقتتل المغاربة في ما بينهم، وعندما أصبحت الأمازيغية رسمية في نهاية المطاف صرح عباس الفاسي لجريدة "المساء" قائلا: لم يكن حزب الاستقلال في يوم من الأيام ضدّ ترسيم الأمازيغية، وهو درس في السياسة لابن الزعيم الذي يتمرّن على السياسة ليكون على بينة، غير أنه لم يفهم الرسالة.
ثالثا: إن التعليم ـ عكس ما ذهب إليه ابن الزعيم ـ لو لم يكن في المغرب أصلا، لما كانت هناك مشكلة اسمها الأمازيغية، لأنها إنما ظهرت بعد أن بدأ البعض يتحدث عن "تعريب التعليم" وتعريب الشخصية والتاريخ والذاكرة والإنسان، وبعد أن أصبح المغرب في المدرسة بلدا عربيا في "وطن عربي" وجزءا من أمة عربية، إلى غير ذلك من هذيان الإيديولوجيات المستوردة. فعكس ما يراه ابن الزعيم، فالتعليم النظامي هو الذي عمل على تعميم ثقافة الدولة و"بلاد المخزن" وتهميش ثقافة الشعب وتركها نهبا للنسيان، والتعليم هو الذي أسس للخطاب الأمازيغي، إذ ظهرت منذ منتصف الستينات نخبة أمازيغية حديثة وشابة درست اللسانيات والتاريخ والأركيولوجيا والأنتروبولوجيا والآداب العصرية وغيرها من العلوم الإنسانية، وفهموا أن لهم ثقافة ولغة حقيقيتين لا تقلان أهمية عمّا تروّجه المدرسة، وكان هذا منطلق المسار الذي قاد إلى الترسيم، ففي غفلة من ابن الزعيم الذي ظل يتهجى كنانيش الوالد، تأسس خطاب تنويري تصحيحي نقيض للخطاب الأورثوذوكسي للحركة الوطنية، لم ينته فقط إلى تكريس التعدّدية بدل الأحادية العمياء، بل أعاد تأسيس مفهوم الوطنية المغربية.