مفهوم المواطنة غير قابل للتحريف
يبذل المحافظون ومنظرو التيارات الدينية جهودا كبيرة ـ لا طائل من ورائها بالتأكيد ـ لكي يعطوا دلالات "جديدة" لمفاهيم حقوق الإنسان الدولية، وتحريفها عن معانيها الأصلية التي لا تناسبهم، ولا تساعدهم على بلوغ مآربهم وشرعنتها.
فصارت الحرية، حرية في إطار "حق الجماعة الدينية" عند أحدهم، و"حق الله" عند آخر، وفي إطار "العبودية لله" عند ثالث، وصارت المساواة، مساواة تامة لكن بين المسلمين الذكور الذين هم "كأسنان المشط"، الذكور لأن المرأة ميزها الشرع بأمور بسبب ضعف بنيتها الفيزيولوجية مما لا يؤهلها للمساواة التامة مع الرجال.
وصارت حرية المعتقد عند بعض السلفيين المتشدّدين هي حرية كل واحد في اختيار الإسلام دينا والدخول إليه، فالمرجعية الدولية لحقوق الإنسان تعطي لكل سكان الأرض الحق في تغيير دينهم متى شاؤوا والدخول في الإسلام دين الرحمة، لكن الداخل إلى هذا الدين لا يمكنه الخروج منه لأن عقوبة ذلك "ضرب الرقاب".
أما عند "المعتدلين" من الاسلاميين فحرية الاعتقاد تتمثل في الحق في تغيير الدين ولكن مع الحرص على "عدم الجهر" بذلك أو ممارسته علانية أو مع الجماعة، وهو ما يعني الفصل بين حرية المعتقد وحرية ممارسة الشعائر الدينية، وهو أمر يتناقض كليا مع حقوق الإنسان، بل وحتى مع الدستور المغربي.
ولهذا يعدّ التبشير بالإسلام في بلدان الغرب "صحوة مباركة"، والتبشير بالمسيحية في بلاد المسلمين "مؤامرة خبيثة" ينبغي التعبئة لها والتصدي بكل حزم، قبل أن يغادر الناس دين الله أفواجا إلى دين المسيح.
وصارت حرية التفكير وحرية الإبداع مشروطة بضوابط المرجعية السلفية التي لا تريد أصلا لا تفكيرا ولا إبداعا، حيث صار على المفكرين والمبدعين في كل مجالات الفن والأدب استلهام خطب الدعاة والخطباء لمعرفة "حدودهم" التي لا ينبغي لهم تخطيها، واستيعاب وصفة "الفن النظيف" التي صاغها من لا تدخل متابعة الأعمال الفنية ضمن أجندة حياته أصلا.
ومن آخر إبداعات العقل السلفي محاولته الالتفاف على مفهوم "المواطنة"، بهدف تضييق مدلوله وربطه بعقيدة محدّدة وبمرجعية فكر ديني خصوصي، في الوقت الذي يعدّ فيه هذا المفهوم الإطار الوحيد الذي يمكن فيه المساواة بين سائر المواطنين بغض النظر عن دينهم أو عرقهم أو نسبهم أو لونهم أو لغتهم.
لقد تطور مفهوم المواطنة مثلما تطورت جميع المفاهيم، ولكن التطور يعني المضيّ إلى الأمام والاستجابة للحاجات الجديدة للإنسان وللمجتمع، وهي ليست الحاجات النكوصية لبعض الجماعات المنغلقة، فالتطور الحاصل في المفاهيم لا يعني العودة إلى الوراء أو بعث مفاهيم الدولة الدينية التقليدية بأشكال من التحايل والاستمناء اللغوي، كما أنّ "التجديد" لا يمكن أن يكون هو العودة إلى ما كان موجودا من قبل.
لقد تطور مفهوم المواطنة لكنه ظلّ يعني دائما في المرجعية الدولية تقاسم الأرض والوطن والشعور بالانتماء إلى الدولة، والتمتع بحقوق أساسية يتساوى فيها الجميع، وليس إلى دين معين أو عرق خالص أو نسب شريف، لأن الناس يختلفون في هذه الانتماءات بينما تجمع بينهم الأرض والوطن. وهذا هو المعطى الرئيسي الذي يغيب في فكر الدكتور طه عبد الرحمان، الذي يحاول بعض تلامذته ترويج مفاهيمه التي ليست إلا تنظيرا للسلفية ورفض الاختلاف.
من هذا المنطلق فإن إضافة أي اعتبار عقائدي خصوصي لمفهوم المواطنة الشامل والكوني ـ بحجة أنه "مجرد سلوك دنيوي" بحاجة إلى توابل أخروية ـ سيجعل منه مفهوما طائفيا يخصّ طرفا دون آخر داخل المجتمع، أي يؤدي وظيفة معاكسة للهدف الذي وُضع من أجله وهو المساواة الحقيقية والتامة. كما أن المفهوم الديني المحرّف للمواطنة لا يمكن أن يتطابق مع وظائف الدولة الديمقراطية التي مهمتها الرئيسية تدبير التنوع والاختلاف بشكل سلمي وليس تنميط أفراد المجتمع في قالب عقدي أو عرقي أو ثقافي أوحد.
هذا لا يعني أنه لا توجد أية علاقة بين المواطنة والدين، فالعلاقة الموجودة محدّدة بوضوح في المرجعية الدولية لحقوق الإنسان كما هي متعارف عليها عالميا، وهي واجب الدولة في حماية حرية المعتقد وحرية ممارسة الشعائر الدينية ورعاية التعدّدية الدينية الموجودة في المجتمع في إطار المساواة، وهذا ما يفسر تصريح أردوغان رئيس الوزراء التركي في مصر عندما قال إن "الدولة تتخذ نفس المسافة من كل الأديان"، مفسرا ذلك بأن في تركيا 99 في المائة من المسلمين، لكن الدولة تساوي بينهم وبين الواحد في المائة المتبقين من المواطنين الذين هم على ديانات أخرى، لأن واجبها المساواة بين مواطنيها، وهذا هو معنى المواطنة كما يحدّده رئيس حزب إسلامي ديمقراطي، رغم أنه في مثل هذه التصريحات لا يتمّ اعتبار المواطنين "غير المؤمنين" والذين يشكلون نسبة هامة مسكوت عنها، تصنف ضمن المسلمين أو المسيحيين أو اليهود.
لم يعد الإسلاميون في بلادنا قادرين على قول "لا" لحقوق الإنسان، وهذا تقدّم ملموس وطفيف، لكنهم يقولون "نعم ولكن".. ، وهي مرحلة ينبغي أن تفضي بالتدريج إلى رفع "ولكن" والتخلي عن التحفظات، وتبني حقوق الإنسان الكونية التي هي في صالح الجميع، إسلاميين وعلمانيين، مسلمين وغير مسلمين، مؤمنين وغير مؤمنين، سودا أو بيضا عربا أو عجما، وهو المعنى الوحيد الذي يسمح بالتعايش السلمي والعمل المشترك في ظلّ القانون.