الواقِع الحقيقي لـ"أنفكو".. هكذا يعيش المغاربة في غابة من البؤس وسط دواوير الأطلس


زنقة 20
أنفكو الواقعة في أحضان جبال الأطلس الكبير قرية منسية مازالت تسيل ومع مرور الشهور مزيدا من الحبر والكلام . لكن القرية  الطينية لم تكن سوى تلك الشجرة التي أخفت غابة من البؤس والتهميش . فسكان العشرات من الدواوير المحيطة بها يتقاسمون نفس المصير. مطالب التنمية، والخروج من دائرة الفقر لاتختلف إلا في تفاصيل تعمقها عزلة سنوية تمتد لشهور كاملة في السنة.

أنفكو بعد أسبوعين من ذوبان الثلوج. هدوء وترقب حذران. يمزقهما من حين لآخر صراخ الأطفال الصغار وهم يركضون ويلعبون بجوار القنطرة المؤدية إلى مدخل القرية. أدخنة « الفورنوات» المستعملة في الطبخ والتدفئة تعلو سطوح البيوت الطينية وتشق خيوطا رمادية في أديم السماء الزرقاء. برودة الطقس، وذوبان الثلوج بفعل التساقطات المطرية في الجبال المحيطة بها، يجعلان من البحث عن حطب التدفئة، طقسا يوميا، وواجبا يقوم به الجميع خاصة النسوة. من بعيد تراهن يتحركن بصعوبة، بظهورهن المقوسة، يتسلقن المرتفعات الجبلية، وهن يحملن فؤوسا وحبالا بحثا عن قطع الحطب في الأماكن المجاورة، أو في التقاط نبات « ايفسي» المنتشر بكثرة بهذه الجبال قصد استعماله في التدفئة، والطبخ.

خلال موسم التساقطات تنام القرية على وقع وعود عمرت لعقود طويلة. لكنها تصحو في اليوم الموالي، وقد حاصرتها جبال من الثلوج من كل  جانب علاوة على موجة برد قارسة تمتد لشهور عديدة في السنة. هذا هو حال قرية مدفونة بين أحضان جبال الأطلس الكبير. ساكنتها ألفت الانتظار طويلا قبل أن تكتشف نفسها وقبل أن يعلم الآخرون بوجودها.

ثلوج، وعزلة هذه السنة، لم تشفعا للمسؤولين من وزارات وقطاعات عمومية مختلفة، للتحرك لزيارتها وفك طوقها. والحقيقة أن أنفكو التي ضمخت الذاكرة الجماعية للمغاربة، منذ وفاة أزيد من ثلاثين رضيعا في سنة 2007 مازال سكانها على قناعة أن تهميشها لا ينفصل عن مصير العشرات من الدواوير المجاورة والمنتشرة بين جبال لا تبعد عنها سوى بكيلومترات بدء من دوار بوتغبالوت ، أيت حديدو، أيت ابراهيم ودوار تيغاغيشت، وتيلمي وتغادوين ودوار تدارت نبوحلو .. انمزي.. « ماترام كلشي يلا..» قالها «موحا» بالأمازيغية بنفرزة، وتعني « ماذا تريدون كل شيء موجود هنا» وكأنه يريد أن يطرد عنه وعن الساكنة، لعنة الانتظار القاتلة لمشهد قدوم قوافل المساعدات الإنسانية في موعد محدد من كل سنة، وكأن الجميع قدر له أن يعيش لشهرين من السنة فقط، أما بقية الشهور فالأمر لايعني الآخرين.

« نحن في حاجة إلى عمل دائم.. وأوراش حقيقية» عبارة ترددت على أكثر من لسان، لخصت الصورة القاتمة للأوضاع هنا. قالها «حمو» بدوره باستياء شديد. هذا الأخير صادفنا عودته للتو من تيغادوين، حيث كان في انتظار فرصة عمل هناك ليوم واحد لوضع دعامات خشبية لأحد البيوت الطينية هناك. لكن «فرحة » الحصول على عمل حتى وإن كانت لساعات قد أصابته بخيبة أمل. صاحب « المنزل» أخبره أنه لم يتوصل بالنقود من ابنه الذي هاجر إلى مدينة الدارالبيضاء للعمل. جل الأسر هنا تعتمد على ما يرسله أفراد أسرها من المدن الأخرى . يئس «حمو» أخيرا، ثم قفل عائدا على قدميه إلى أنفكو بعد أن تعذر عليه العثور على وسيلة نقل للعودة. فالطريق المؤدية إلى القرية عبر إميلشيل، ضيقة وهي عبارة عن منعرجات، وحفر بارزة، تقطع في وجه حركة المرور وتتحول إلى خطر حقيقي « الثلوج تحول العديد من المقاطع إلى مصائد لوسائل النقل» علق باستياء شديد.

لكن  رغم الخيبة، فقد كانت الابتسامة تعلو محياه كحال معظم القاطنين بأنفكو. فرص العمل تكاد  تصبح حلما و ترفا إن توفرت لأصحابها. هنا لاوجود لبرامج للإنعاش الوطني أو حرف مدرة للدخل  « كنربيو شويا دلماعز، ونحطبو من الغابة باش نسخنو ونطيبو.. هاد شي لي كاين »  يقول بضيق، وحسرة. مداخيل الأسر هنا شبه منعدمة، لذلك فالعيش بأنفكو معناه الشعور الدائم بالحاجة، وضرورة تسطير بديل لتدبير المعيش اليومي. « إذا كانوا لايرغبون في توفير فرص عمل، فلمالا يتم تخصيص تعويض قار للأسر الفقيرة؟».

شباب القرية  وأمام الفراغ والعطالة القاتلة، فضل طريق الهجرة بحثا عن مصدر رزق بطريقة أخرى. في أوراش البناء في المدن إن توفرت، قبل أن يعاودهم الحنين إلى  العودة  يوما ما لزيارة الأقارب قبل الرحيل من جديد، أو الالتزام بإرسال «حوالات» بريدية لأفراد العائلة بالقرية، لأجل البقاء. لذلك فلاغرابة أن يشكل الهدر المدرسي هاجسا بين صفوف التلاميذ خوفا من هذا المصير، نتيجة غياب إعدادية، أو مركز للتأهيل المهني رغم الوعود التي قدمت لأولياء الأمور بعد الزيارة الملكية للمنطقة مباشرة. فئة أخرى من الشباب، أجبرت على البقاء كحال «سعيد فاضيلي» من دوار تيلمي، مازالت تعلق الأمل في القطع مع واقع البطالة. الرسالة التي توصل بها من الديوان الملكي بخصوص تشغيله كانت تسكن تفاصيل حياته اليومية، علق بتفاؤل « أرسلت أربع رسائل عبر البريد المضمون، لكنني مازلت أنتظر جواب الخلاص والحصول على عمل مناسب..».

معاناة صحية لاتنتهي..

المعاناة الصحية وجه آخر لمآسي المنطقة. وقعها كان حاضرا بقوة في أحاديث الساكنة. ظهر ذلك جليا على حالة مرافقنا الذي تجاوز عقده الخامس. كان صوت سعاله يخترق صمت المكان وهو يحاول بصعوبة أن يجد له طريقا في الممرات الموحلة للقرية. قبل أن يستعيد أنفاسه قال وهو يشير إلى بناية المستوصف المطل علىالقرية « الإصابة بالأمراض التي يسببها البرد القارس خاصة أمر شائع هنا. الأدوية العادية التي تسلم إلينا لم تعد تجدي نفعا في العلاج.. ». يسترسل بامتعاض « زوجتي عادت خاوية الوفاض عندما توجهت إلى مستوصف القرية، للحصول على الدواء المناسب لابني الصغير الذي ارتفعت حرارته بشكل مفاجئ». خبر وفاة الرضيعة »حبيبة أمامو» منذ أربعة أسابيع والتي لم تكمل أربعين يوما ، نتيجة البرد القارس، مازال على الألسنة. « الوفاة كانت ناقوس إنذار، وقد أعادت إلى أذهان الساكنة المخاطر الصحية المحدقة بهم، وبأطفالهم  على الخصوص..» يعلق مرافقنا باستياء.

إحدى القاطنات بدورها بالقرية، كانت تراقب بحسرة من أمام بيتها الطيني، حركة الأطفال الصغار هناك قرب جدول مياه الوادي. الأم كانت قد فقدت فلذة  كبدها، منذ خمس سنوات تقريبا، خلال تساقطات الثلوج.  كانت فترة سوداء ، تقول والدموع تنساب على خديها، كانت المجهودات الذاتية في إنقاذ طفلها ذي الثلاثة أشهر لم تكلل بالنجاح، محاولات اسعافه فشلت، نتيجة غياب مستوصف آنذاك، وصعوبة الوصول إلى أقرب نقطة لتلقي العلاج. لكن ورغم مرور كل هذه السنوات، فإن نفس «الكابوس» المخيف مازال يتربص بالقاطنين هنا. بناء المستوصف بعد الزيارة الملكية لم يحل المشاكل الصحية العويصة هنا.  فلاوجود لراديو الفحص، أولأطباء اختصاصيين. أما الوصفات الطبية المسلمة من الطبيب غير الدائم، فإن المرضى  يعتبرونها حملا ثقيلا على أصحابها وعلى عائلاتهم إلى درجة أن منهم من يرفض تسلمها، لسبب بسيط أنهم لايستطيعون شراء الدواء من تونفيت أو من مركز إميلشيل وهما أقرب النقط إلى الساكنة.» كانداويو بلي كاين .. معنداناش لفلوس»  لذلك كان السؤال الذي تردد على شفاه عدد من الذين التقيناهم من النسوة بأنفكو هو » مادموا يعلمون أننا لايمكننا شراؤها، فلماذا لايوفرون لنا الأدوية لتجنيبنا المضاعفات؟ ». أما محنة سيارة الإسعاف التي وفرتها مؤسسة محمد الخامس للتضامن ، فبدورها كانت محط تذمر. فعائلات المرضى، ليس بمقدورهم توفير مبلغ مائتي درهم كواجب التنقل إلى تونفيت أو 350 درهما في اتجاه إقليم ميدلت لنقل المرضى.

« واش حنا فكينا مشكل هاذ الناس عاد نتوما»!

المسافة بين أنفكو ودوار تمالوت لاتتجاوز كلومترا واحدا، لكنها حسب أحد الفاعلين الجمعويين ،فهي تعد مسافة « ضوئية» ، فهو محروم من أبسط وسائل العيش، إذ لايتوفر على أبسط التجيهزات الأساسية، في الوقت الذي يتطلب الأمر أربعة أعمدة  مثلا لإيصال الكهرباء إلى الدور الطينية.  السكان يجهلون أسباب هذا «الإقصاء الممنهج». «من حق كل مواطن شيد منزله أن يستفيد من هذه المادة الأساسية وكذا من الماء الشروب » يقول باسو وهو من ضمن الفعاليات الجمعوية المحلية ، قبل أن يسترسل  «أسباب الإقصاء، تفسر دائما بالصراعات الانتخابية.. وتضارب المصالح »، نفس الأمر ينطبق على الوضع الصحي هنا. خلال زيارة وزير الصحة الحالي للمنطقة صرح أمام الساكنة بوضوح قائلا « هذا الناس راهوم مهمشين، والإدارات شبه فارغة.. » عبارة هي جزء من الحقيقة لكن هذه المرة على لسان مسؤول حكومي. السكان خلال الزيارة طالبوا بإنشاء مستوصف حقيقي بالدوار فرغم إقامة ما يشبه بناية «مستوصف» سنة 2004  فإنه مازال إلى حد الآن فارغا. لكن التساؤل المحير هو أن إنشاءه من طرف الجماعة كان بتعاون مع وزارة الصحة،  ليبرز السؤال عن المعايير المتخذة لبناء هذا المستوصف، والذي لايتوفر إلا على غرفتين ومطبخ. «رغم أننا نبعد بأنفكو بعدة كلمترات، إلا أن دوار ترغيست بدوره القريب من هذه الأخيرة يتوفر على مستوصف وعلى ممرض منتدب». لقد سجلت بالدوار وفايتان بتمالوت منها رضيعة لاتتجاوز الأربعين يوما، «لو كنا نتوفر على بنية صحية لفعلنا الشيء الكثير لإنقاذهما، ولكن للأسف الشديد نقطع كيلومترات عديدة للوصول إلى أنمزي، لنصادف هناك بواقع صحي مزري». المسؤول الجمعوي ختم تعليقه قائلا : «أما في حالة تنقلنا إلى انفكو، فإنهم يخاطبوننا « واش حنا فكينا مشكل هاذ الناس عاد نتوما».

لكن هذا المشكل ليس وليد اليوم بل إنه يعود إلى عقود عديدة، وهو مادفع السكان إلى مطالبة المسؤولين بزيارة المنطقة، وبالنسبة للعديد منهم فإن التركيز الشديد على أنفكو قد عمق من تهميش مشاكل الساكنة المجاورة لها،إلى درجة أنهم يعتبرون بأن أنفكو  ماهي إلا الشجرة التي أخفت غابة، عنوانها :مآسي في الصحة والتعليم، والحصول على المساعدات الضرورية لمواجهة عزلة الثلوج.

ونحن في طريقنا إلى أنفكو اعترض طريقنا أحد سكان دوار أيت علي وايكو. كان  «ويايا علي» منهمكا في تقليم شجر التفاح من نوع « ديليسيوس » في السهل الممتد بضفاف الوادي. كان يمسك بيده مقصا هي كل عدة العمل التي حصل عليها مؤخرا مما يسمى «مساعدات» لفلاحي المنطقة. قال «علي» بنبرة يائسة « المنطقة تعرف بمنتوج التفاح من النوع الجيد، لكن للأسف المساعدات المسطرة في المخطط الأخضر الذي أشرف عليه وزير الفلاحة في زيارته إلى المنطقة للرفع من مردوديته لاتصل إلى أصحابها ».ثم استطرد قائلا « حتى الصناديق المستعملة في نقل المنتوج لانتوصل بها.والسبب الإقصاء وتعدد الوسطاء من جمعيات لاتمثل إلا نفسها.».

قوافل ومساعدات بطعم المرارة..

قوافل المساعدات الإنسانية تراجع عددها هذه السنة مقارنة بالماضي القريب. مبادرات وإن اختلفت دوافعها لم تمر دون ملاحظات، بل لقد أثارت جدلا بين عدد من المقصيين منها مباشرة. إلى درجة أن عينة عريضة من الساكنة، كحال باسو، يعتبرها » نقمة « غيرت طبائع الناس هنا، وحولتهم إلى »  تواكوليين«. في انتظار حصولهم على بطانيات، ومواد غذائية..، وهي في نظره، تعمق الفقر أكثر من أن تقضي عليه. فاعلون جمعويون محليون، لم يترددوا في تصريحاتهم للجريدة في مطالبة الجهات الرسمية، بتحمل مسؤوليتها كاملة تجاه ساكنة الدواوير وبضرورة « خلق تنمية حقيقية هنا، بعيدا عن منطق المساعدات المناسباتية الذي لن يحل واقعا اجتماعيا وإنسانيا مأساويا مترديا بهذه القرية، ودواوير مجاورة ». نفس الرأي، لمسناه، أثناء استقائنا لشهادات القاطنين بالقرية، وباستثناء بعض الأوراش اليتيمة المتقطعة هنا وهناك، كإصلاح بعض الطرق أو بناء مرفق عمومي مازال قاب قوسين من أن تدب فيه دماء الحياة، »فإنه يسجل غياب بدائل وفرص عمل حقيقية والتي  تنعدم على طول السنة، مما يعمق من معاناتنا ..«. هكذا وصفت إحدى الشهادات الناطقة، بنوع من التبرم، الوضع بالقرية، قبل أن يختم قائلا » كلشي راه  مزلوط.. هنا.. «. بعض القوافل الطبية، التي زارت المنطقة، غالبا ما تخلف انتظارات بطعم المرارة لدى الساكنة.  إجراء عملية جراحية، أو متابعة العلاج لدى اختصاصي ، يعتبران من الأشياء المستحيلة، حيث يصعب الوصول إليها في ظل وضع مادي مزري ترزح تحته غالبية الأسر.. « كاين لي حتا الجلالة مقدروش احيدوها ليه من عينيه..» يختم موحا بمرارة شديدة، وهو يشق الطريق الضيقة وسط قريته الطينية، عائدا إلى بيته في انتظار أن تتحسن الأوضاع، وأن يحمل الربيع القادم بشائر جديدة.

عن: الأحداث المغربية









0 تعليق ل الواقِع الحقيقي لـ"أنفكو".. هكذا يعيش المغاربة في غابة من البؤس وسط دواوير الأطلس

أضف تعليق


البحث في الأرشيف

البحث بالتاريخ
البحث بالصنيفات
البحث في الموقع

البوم : صور