أثرياء الغفلة.. شكون هما؟ وكم يراكمون من الثروات دون علم الدولة؟


زنقة 20

في البدء كانت الفكرة، ومعها السؤال: "هل توجد مناجم لا سلطة للدولة عليها ويستغلها نافذون خارج أية رقابة؟"، ثم صار السؤال بعد الرد بالإيجاب: "كم يراكم مستغلو هذه المناجم من الثروات دون أن تعلم عنهم المؤسسات المعنية شيئا؟ وكيف تسللوا، في غفلة من الجميع، إلى عمق الأرض ليستخرجوا المعادن النفيسة ويبيعونها خارج أرض الوطن ويحصلوا على الملايير؟ وهل هي مافيات منظمة أم مجرد أفراد استغلوا تكاسل الدولة عن حفظ ثرواتها؟
الساعة تشير إلى السابعة والنصف صباحا من يوم الجمعة 4 يناير 2013. المكان: محطة الحافلات، والوجهة بوابة الجنوب الشرقي للمغرب ميدلت، عبر "مكناس" وصعودا نحو "الحاجب" و"أزرو".
هنا الثلوج تحتل كل شبر من سفوح وقمم جبال الأطلس المتوسط، تنبئك بواقع مرير يعيشه أبناء وبنات "زايدة " و"تانوفيت" و"أنفكو"، وهي قرى مترامية على طول الجبال الحاجبة لمناطق المغرب العميق. من هذا الواقع تبدأ رحلة البحث عن حقيقة مناجم ورثها المغرب من المستعمر الفرنسي ولا زالت تجود بثروات خيالية خارج أية مراقبة.
"واش كاين مناجم لا سلطة للدولة عليها ويستغلها نافذون خارج أية رقابة؟"، سؤال طرحناه على أول من إلتقيناهفي الساعات الأولى من صبيحة يوم السبت 5 يناير، قرب محطة الحافلات: "راه كين "حَجْرة" عدنا في البلاد كتباع لمركانيين بالملاين"، هكذا أجاب هذا الشاب الساهر على تقديم الخدمات لعابري السبيل في انتظار بزوغ شمس الصباح.
إذن لقضية البحث ما يبررها، وللسؤال دواعيه، والإجابة أكثر من واضحة على أن هناك مناجم تجود بمعادن نفيسة وقطعة حجر تباع للأمريكان بالملايين، شيد بها البعض إمبراطوريات مالية ضخمة، وأوصلت غيرهم إلى مراكز القرار السياسي، كما ضمنت للبعض الآخر تأشيرة السفر إلى بلاد العم سام، ولم تغير شيئا من واقع حال منقبين يجنون دراهم معدودات، ويحرم عليهم قطعا الاتجار فيها دون المرور عبر الوسيط.
هذا جزء من الحقيقة تكشف بعض فصوله زيارة  لدهاليز كهوف "إمي بلادن" و"أحولي"، حيث الثروة تختلط بغبار الموت والحرمان والعيش تحت الأرض لأيام دون رؤية ضوء النهار.

الخيط الأول.. تجار الأحجار
خالد وزهير، اسمان مستعاران  لشابين في الثلاثينات وافقا على مضض بالحديث إلينا، شريطة إخفاء هويتهما، لكشف بعض من حقائق التنقيب داخل كهوف المناجم المهجورة.
 الدليلان اللذان سيرافقاننا طيلة رحلة البحث تاجران، ويقولان إنهما يتوفران على رخص التنقيب عن المعادن والأحجار بعيدا عن كهوف "إمي بلادن"، جنوب "ميدلت"، ونزولا اتجاه صحراء مدينة "الراشدية"، ويؤكدان من خلال معطيات موثوقة، حسب تعبيرهما، وجود حجر داخل منجم "إمي بلادن" المهجور، يستخرج كما المعادن الأخرى، مثل الفضة والزنك وسوريزيت وغيرها، بشكل غير قانوني ودون رقابة الدولة.
وعن المستفيدين من الحجر حديث الكل داخل المدينة، قال خالد وزهير، وغيرهما كثير، إن منتخبا هو من يحتكر شراءه وبيعه للأجانب، ويحرم على أي كان، وحتى المنقبين، الاستفادة من العائدات كاملة، لأن ذلك يعرضهم للمتابعة القانونية لغياب سند قوي يحميهم.
وعلاقة بالمنتخب الذي يمثل المدينة والقرى المحيطة بها تحت قبة البرلمان، والمستفيد حصريا، التقينا بأخيه صدفة داخل مقهى فندق "أطلس"، ناديناه بعد أن عرفنا عليه دليلانا، اللذان طلبا بإلحاح عدم ذكر ما كشفاه لنا عن الحجر، وخاصة عن ثمنه.
كان الرجل أقل تجاوبا مع الأسئلة، وحين يرد على بعضها يتكلم ببرود، وبدا للحظات غير مكترث لوجودنا، كما رفض الحديث عن الثمن الحقيقي لقطعة الحجر التي يتحدث عنها الجميع هنا، واعتبر أن من ينبش في ذلك تحركه الصراعات السياسية لا غير، بل اتهم حزبا بعينه بمحاولة زعزعة صورة أخيه داخل المدينة.
أخ المنتخب قدم رواية مغايرة لما يتداول عن السوق السوداء للتجارة في الأحجار النفيسة واستخراج المعادن المتواجدة في باطن الأرض، وقال إن وزارة الطاقة والمعادن على علم بذلك، وهناك رخص بالعشرات تمنح لمنقبين يستغلونها بشكل مباشر أو يكرونها لآخرين.
هذا المصدر ظل طيلة حديثه يتجنب الخوض في نقاش الثمن والقيمة الحقيقية للأحجار، وكيف يتم تصريفها داخل وخارج المغرب، وكتعبير عن عربون ثقة منه دعانا إلى زيارة متحف أحجار يقيمه أخوه داخل فندق يملكه بالمدينة، وحينها انتهى كلامنا مع من يعتبره العارفون بخبايا تجارة المعادن والأحجار الآمر والناهي في سوق تروج داخلها ملايين الدراهم.
عدنا إلى حيث بدأت رحلة بحثنا بعد أن عقدنا العزم على شد الرحال إلى كهوف "إمي بلادن"، البعيدة عن ميدلت بحولي 12 كيلومترا، هناك سينكشف وجه من وجوه حقيقة روايات عديدة.

داخل كهوف مظلمة
هي أشبه بمغارات "علي بابا".. هنا لا تحتاج لكلمة السر كي تفتح. ثماني حفر تشكل الصخور المتراصة حولها بوابات لم تعر الظروف المناخية من شموخ دعائمها شيئا، تخترق سطح الأرض، وتظهر فقط حين تنظر إليها من الخارج تشعبات وطرقات ضيقة مظلمة.
كانت ستكون الإطلالة قصيرة بغرض توثيق مصدر المعادن والأحجار النفيسة، فجأة أثارت انتباهنا حركة غير عادية عند أحد الأبواب الثمانية: رجل نحيف الجسد يظهر من خلال كومة الأتربة وهو يقفز كي يصل إلى المخرج، وفي الأخير عرفنا أنه لم يكن سوى أحد المنقبين يعود أدراجه من الداخل بعد انقضاء يوم مضن من البحث.
تحدث إليه أحد الباعة الذي اصطحبنا بسيارته الخاصة إلى الكهوف، فعرض علينا زيارة أماكن الحفر للتعرف عن قرب على ضالتنا، وكان يحمل على كتفه محفظة سوداء اللون يظهر من شكلها أنها لغرض نقل ما يجود به اليوم داخل السراديب الضيقة، رافقناه حيث يعمل بالحفر ليل نهار للعثور على ضالته.
كان من الصعب التجول داخل تلك الكهوف والرجوع إلى نقطة الانطلاقة دون دليل يعرف جيدا كل تفاصيل هذا المكان الموحش والقاسي. هي أزيد من 10 كيلومترات ممتدة تحت سطح الأرض بطابقين سفلي وعلوي، وحفر فرعية نحتتها معاول ومطارق وفؤوس المنقبين.
هنا كلما صوبت ضوء هاتفك النقال أو مصباحك يتراءى أمامك لمعان متفرق هنا وهناك، وهي قطعا أحجار تجذبك بلونها المميز الذي يظهر بين الأبيض والأصفر، وأخرى زرقاء اللون.. هنا تحتضن الأرض 15 في المائة من "الرصاص المفضض"، ومعدن "الكحل"، ونسبة قليلة من حجر "سوريزيت".
سألنا دليلنا عن المدة التي يمكن أن يقضيها في الداخل، فكان الجواب: "إلا بغيت ندخل بين 70 و100 درهم مغديش نفوت نهار، أو كين ناس لي كتسكن في هاذ الكهوف بلا ما تخرج ما بين خمسة عشر يوما وشهر". وعن السر في البقاء طيلة هذه المدة وفي ظروف صعبة، أضاف: "راه كلشي كيطلب زهرو يطيح على لكوشة".
قد يتساءل البعض: "كيف يستمر الاعتكاف هنا في غياب المأكل والمشرب طيلة هذه المدة؟ وكيف يغير المنقبون بطاريات مصابيحهم؟"، مرة أخرى يجيب هذا العالم بخبايا كل شبر مررنا به: "راه ناس تجيب معها الماء أو ممكن تلقاه فشي عيون لداخل أو كطيب أو ضوي بلكربيل".
خرجنا من الكهوف وكأننا ولدنا من جديد، وسمعنا عبارة يتداولها كل التجار والمنقبين: "لكوشة.. واش سهل الله فشي خيط يوصلك لكوشة".

هجرة الحظ
حماد وهرو منقبان، حصلا على عشر سنوات إقامة في الولايات المتحدة الأمريكية، بعد أن ظهرت صورتهما على غلاف مجلة تهتم بالأحجار والمعادن النفيسة، أشارت إلى أن صاحبينا من المنقبين عن " لكوشة ".
يروي أحد المقربين من المنتخب الذي يتاجر في هذه الحجارة النفيسة أن "حجرة الحظ" الجالبة للملايين لا يمكن أن تباع دون المرور من بين يديه. هذا الشخص بدأ من الصفر، وكان يعرض بضاعته من حجارة الزينة أمام أحد فنادق المدينة، وفي أحيان أخرى يتوسط لتجار "الكحل" كي يجلبه من مناجم "أحولي"، فتحول بفضل الأحجار الثمينة كما حجر "لفانا"، وهذه تسميته المحلية، إلى ثري، فمنتخب محلي، فممثل للأمة، وذلك لمكانة الحجر في قلوب الأجانب، وخاصة الأمريكيين منهم.
حجر "لفانا"، صلب حكاية استغلال الكهوف المهجورة بـ"إمي بلادن "، تقول كل المعطيات المتطابقة التي أفاد بها تجار الأحجار والمعادن، وأبناء المدينة، والعارفون بخبايا الحفر داخل الكهوف، إنها تباع بأزيد من 300 مليون سنتيم للأجانب، توجد على شكل يسمى "كوشة لفانا"، تلك الحمراء منها تعد الأندر والأجود والأغلى ثمنا.
بالعودة إلى حديث المقرب من إمبراطور بيع "لفانا"، أكد أن القطع المستخرجة من "إمي بلادن" تصل إلى بورصة "توكسون" في مدينة بولاية "أريزونا" الأمريكية، التي تحتضن سنويا أكبر سوق للمعادن والأحجار الكريمة، والخرز، والحفريات والمجوهرات، وكذا الأعمال الفنية الفاخرة التي تصنع منها، بل أكثر من ذلك تعرض داخل مختلف المعارض الدولية قطعة نادرة من حجر يسمى "فانا دينيت باريتين" وجد في نفس الكهوف التي زرناها، وتجنى من ورائه آلاف الدولارات لقاء رؤيته فقط.

كيف تستخرج "كوشة لفانا"؟
"تطلق صفارة الإنذار داخل مدينة ميدلت"، هكذا يوصف المشهد عندما يشاع بين الوسطاء خبر عثور أحد المنقبين على "كوشة لفانا". البحث عنها ليس بالسهل، ولا تصيب ضربة "المطرقة والبيران" كل مرة، بل هناك من يبحث لأزيد من خمس عشرة سنة منذ أن عممت معلومة قيمتها المادية بين المنقبين والتجار.
ويفسر دليلنا الذي التقيناه عند مدخل كهوف "إمي بلادن" كيفية العثور على "لكوشة"، إذ أن معدن "لكحل" هو من يقود إلى مكان اختبائها في باطن الأرض، ويعطي إشارة على وجودها، يوضح المنقب، بظهور ما يصطلح عليه بـ"رشة لفانا"، وهي عبارة عن قطع أحجار برتقالية اللون أقرب إلى شكل "البلورات"، تترسب فوق قطع حجرية اسمها "باريتين"، تظهر بعد ذلك في شكلها النهائي على شاكلة أصابع.
وعند اكتشافها، تحفر المساحة المحيطة بها على شكل دائرة، ويوضع إناء دائري الشكل (الطاسة) تحت كومة التراب الممسكة بـ"كوشة لفانا"، ثم تلف بعد اقتلاعها في قطعة ورقية غالبا ما تكون جريدة، وهو ما يفسر وجود العديد من أوراق الجرائد المتناثرة داخل حفر الكهوف.
 ويستعمل حجر "لفانا" في صناعة مختلف المعدات المضادة للرصاص، وفي الزينة، وشكله أقرب إلى الألماس، كما يصعب حكه عند عملية التغيير من شكله.     
ويحكم منطق بيع "لفانا" الثقة العمياء للوسطاء والتجار في مستخرجها، إذ يتفاوض على ثمنها دون رؤيتها، وغالبا ما تكون مخبأة داخل قرية "إمي بلادن". يقول مثل متداول بين الحفارين: "لفانا لي شافها عندك داها ليك باش ما بغا"، وهو ما لا يدع مجالا للشك أن العملية ككل تدخل في إطار التجارة السوداء لهذا النوع من الحجر الكريم.
وكانت "لفانا" تشترى من مصدرها في السابق بثمن لا يتجاوز خمسة آلاف درهم، قبل أن يرتفع إلى ما بين خمسة وخمسين ألف درهم وسبعين ألف، ويضاعف هذا الثمن مئات المرات ليصل، كما ذكرنا في السابق، إلى 300 مليون سنتيم وما يزيد للقطعة الواحدة. ويظهر الفرق الكبير بين ثمن الشراء من مكتشفيها الأصليين وثمنها في السوق الخارجي شكل الاستغلال والاغتناء الفاحش دون عناء في مادة يجب أن تصنف ضمن الثروات الوطنية التي تجلب منفعة متساوية للجميع، أو على الأقل لكل المتدخلين في مسار وصولها إلى كبريات أسواق الأحجار الكريمة والمعادن في العالم.

معادن أخرى في السوق السوداء
ليست وحدها "لفانا" ما يستخرج من كهوف مناجم "إمي بلادن"، فهناك حجارة أقل قيمة زرقاء اللون تدعى "سوريزيت"، القليل من الغرامات منها تباع بـ45 ألف درهم، ويباع حسب الحجم ( الحجم بين 5 سنتيمتر و 7 سنتيمتر) مابين 70 و80 ألف درهم، وهذه قيمة الجودة المتوسطة.
كان لنا خلال الجولة إلى كهوف "إمي بلادن" فرصة رؤية أحجار "سوريزيت" والتقاط صورة لها من يد تاجر أحجار، شدد في حديثه إلى أن مصدرها بعيد عن الكهوف التي زرناها، وأكد أنه يتوفر على رخص للتنقيب واستخراج الأحجار داخل نقط بعيدة عن "ميدلت" في اتجاه الجنوب.
وبعيدا عن كهوف "إمي بلادن" في اتجاه قرية "أحولي"، حيث ينشط استخراج "لكحل" و"النحاس" بكثرة، ينهمك عمال سابقون بالتنقيب داخل المنجم الذي بقيت منه الأطلال فقط، بعد إغلاقه من طرف "المكتب الوطني للاستثمارات المعدنية". وكما وجدناهم خلال وصولنا إلى عين المكان، ينهمك رجال وشباب في ملء الأكياس بما استخرجوه طيلة اليوم، وآخرون صادفناهم في الطريق على مقربة من ضفاف وادي "ملوية" يستعينون بـ"تريبورتور" ودراجات هوائية لنقل حصتهم من الأكياس المملوءة بالمعادن.
وجوههم شاحبة، وأجسامهم هزيلة، والكثير منهم فقد عمله داخل نفس المنجم، ومنهم من لم يجد حصته ضمن صندوق الضمان الاجتماعي ويضطر إلى الاستمرار في نفس الحرفة ولو خارج "إطارها القانوني".
كان العمال المنجميون يعيشون فترة ازدهار صناعي واجتماعي بين سنتي 1958 و1975 في عصر شهد الازدهار الاقتصادي، يقول الباحث لحسن اَيت الفقيه، الباحث في ورقة أعدها بمناسبة لقاء كانت قد نظمته مجموعة مناجم ومنتدى بدائل المغرب، والنسيج الجمعوي للديمقراطية والتنمية، لمناقشة مساهمة المناجم في التنمية المحلية: "كل شيء تغير اليوم، وأصبحت الكهوف المظلمة تجود بدراهم معدودات لقاء بيع كيلوغرامات قليلة يستخرجها بسطاء بثمن بخس، فمعدل الدخل اليومي للفرد في أحسن الأحوال لا يتجاوز 50 درهما، دون ضمانات صحية أو تأمين عن الحوادث المنتظر وقوعها في أي لحظة بسبب تآكل دعائم المغارات، والسراديب المؤدية إليها".
"إمي بلادن" و"أحولي" مفخرتان بالنسبة للمستكشفين الفرنسيين الذين جابوا إفريقيا، ووصلوا إلى ما وراء قمم جبال الأطلس، من بينهم شارل دو فوكو، الذي كتب الكثير عن رحلته إلى "حوض ملوية" سنة 1883، مسهلا بذلك اكتشاف خيرات المنطقة التي علم بها الفرنسيون حسب المؤرخين سنة 1907.

ثروة تختلط بغبار الموت
هناك روايتان تقدمان سببين لإغلاق المناجم بالمنطقة، الأولى ترجح فرضية انتشار مادة "الزرنيخ" السامة واختلاطها بمياه "واد ملوية"، وهو ما شكل خطرا على المحاصيل والأحواض المائية التي يمر منها الواد. أحد أبناء المنطقة يحضر لشهادة الدكتوراه في الموضوع، يوضح  أن الرياح بدأت في حينها، أي خلال استمرار أعمال التنقيب، في حمل مادة "الزرنيخ" نحو سد "الحسن الثاني"، ويتسبب ذلك في الموت البطيء للإنسان والمواشي بفعل تسربها إلى الدم.
أما الرواية الثانية فتفيد بأن إغلاق المناجم المتواجدة بالمنطقة راجع لسوء التعامل العلمي والتقني من قبل الشركة التي عوضت "Penarroya بينارويا"، إذ تركت منسوب المياه يرتفع إلى مستويات قياسية وصلت إلى أزيد من 500 متر، وهو ما صعب عملية "الاستمرار في حفر الأرض، مما رفع كلفة التنقيب، خاصة أمام  تراجع أسعار معدن الرصاص في السوق العالمية، مما عجل بتوقف الاستغلال المنجمي نهائيا في الثمانينات من القرن الماضي".   
وخلفت المناجم وراءها أمراضا انتشرت بين المنجميين وعائلاتهم، خاصة مرض "السيليكوز" الذي يصيب الرئتين. وتؤكد أحكام قضائية صدرت لفائدة مجموعة من العمال المنجميين المتقاعدين أن شبح "السيليكوز" لازال يطوف داخل الكهوف، ولن يسلم منه كل من أصر على الاستمرار في احتراف التنقيب واستخراج المعادن.

أين الدولة؟
باغتنا الليل ونحن في طريق العودة إلى ميدلت ، وأثار انتباهنا عند الصعود من عمق الجبال وقوف أصحاب "تريبورتورات" المحملة بأكياس مملوءة غالبا بمعدني "الكحل" و"النحاس" على جنبات الطريق، جلهم اختار منتصفها ولم يكملها للوصول إلى أقرب نقطة من قرية "إمي بلادن"، فجأة تظهر سيارتان من نوع "ميرسيديس 207"، الأولى بيضاء اللون والثانية زرقاء. السيارتان، وكما أسر لنا بذلك التاجران اللذان التقيناهما، تستعملان لنقل ما تم شراؤه من طرف الوسطاء، وهو حصيلة المنقبين الذين يشتغلون لحساب تجار ما.
"أين الدولة، وهل ما يتم داخل المنطقة في غفلة عنها؟". صادف وجودنا بميدلت مثول مجموعة من الأشخاص أمام المحكمة في حالة اعتقال، بتهمة الاستخراج والاتجار غير القانوني في مادة "الجبص" المتواجدة بدورها بكثرة في المنطقة.
وحسب المعطيات التي تتناقل عن الملف، فالمتورط الحقيقي في استخراج المادة بقي بعيدا عن المساءلة القانونية، أما الضحية فهم مستخدمون لديه حجزت البضاعة بين أيديهم.
من الصعب الاستمرار في استخراج كنوز من باطن الأرض وترويجها في الخارج دون أن تعلم بذلك السلطات المحلية على الأقل، فالجميع يعلم أن بميدلت تشكيلة تضم أزيد من 30 نوع حجارة تصنف ضمن خانة الأجود في العالم. خلال جلسات الحديث مع مختلف المتدخلين والعارفين بسوق تجارة الأحجار والمعادن لمحوا إلى أن العامل الجديد بالمدينة حاول التدخل في الملف، لكن جهات أخرى منعته من ذلك، ووصفت له الوضع بالمستنقع الموحل.
رغم كل هذا الكلام تبقى "ميدلت" والقرى المحيطة بها على حالها، إذ لم تستفد مدن "حوض ملوية" طلية سنوات خلت من غناء باطن أرضها بالمعادن النفيسة، التي يفترض أن ما استخرج منها شيدت به العاصمة الفرنسية "باريس"، فالمدينة كانت ثاني مستفيد من نعمة الكهرباء بعد مدينة الدار البيضاء، لكن واقعها اليوم بعد انقراض الصناعات المنجمية تغير، وتحولت من "باريس الصغيرة"، عاصمة المعادن والأحجار الكريمة، إلى عاصمة "التفاح" بعدما تحول ساكنوها إلى الإنتاج المعاشي.
في ميدلت، وغيرها من المدن التي تشبهها، ما بقي من كنوز في جوف الأرض وداخل كهوف مهجورة ينهب في سرية، ويستغل بشكل أبشع من الماضي، فلا ضمانات للمنقبين والحفارين، خاصة وأنهم عرضة في أي وقت للمساءلة القانونية، كما أن شبح "السيليكوز" يتربص برئتي كل واحد منهم، فيما يستفيد أباطرة منظمون جيدا يمسكون بخيوط التنقيب والتسويق من عائدات تخطئ طريقها إلى خزينة الدولة. هنا، وكما باقي أشكال الاستغلال الجائر، تختلط التجارة بالسياسة، الأولى تمول والثانية تمنح الحصانة، لتستمر بذلك لعبة الريع، لنطرح السؤال: "هل اكتملت تفاصيل جريمة الريع المنجمي؟".

عن مغرب اليَوم









0 تعليق ل أثرياء الغفلة.. شكون هما؟ وكم يراكمون من الثروات دون علم الدولة؟

أضف تعليق


البحث في الأرشيف

البحث بالتاريخ
البحث بالصنيفات
البحث في الموقع

البوم : صور