فؤاد العروي يفضح عبثية الوضع البشري في رواية "دار جوليار"


زنقة 20 . وكالات

ثيرة هي المبرّرات التي تدفعنا اليوم إلى التوقّف عند الديوان القصصي الذي صدر حديثاً للكاتب المغربي الفرانكفوني فؤاد العروي تحت عنوان «قضية بنطال داسوكين الغريبة» (دار «جوليار»). فإن على صعيد لغته الرائعة التي تنمّ عن مهارات كتابية وتعبيرية نادرة، أو على صعيد تمكّنه الكبير من النوع «القصصي»، أو على صعيد ممارسته للنقد الاجتماعي بحسٍّ دعابي فريد، وبالتالي قدرته على جمع الهزل والجدّ داخل خطابٍ واحد، كل هذه الأمور تجعل من قراءة ديوانه الأخير متعةً حقيقية.

الديوان يتألف من تسع قصص متفاوتة الحجم، يُشكّل المغرب الإطار الجغرافي والتاريخي لخمسة منها، بينما تدور أحداث قصّتين في بروكسل وتنتقل بنا قصّة إلى باريس وأخرى إلى هولندا حيث يقيم الكاتب.

في القصة الأولى التي تمنح الديوان عنوانه، نتعرّف على موظّف مغربي كبير يدعى داسوكين أرسلته حكومته إلى بروكسل في مهمة شراء قمحٍ من أوروبا بأفضل سعرٍ ممكن. وبعد تمضيته سهرته الأولى في الفندق الفخم الذي نزل به، ينام داسوكين في غرفته ويستيقظ في اليوم التالي ليجد أن بنطاله الوحيد قد سُرق أثناء نومه. وبما أن موعده مع اللجنة الأوروبية في تمام العاشرة صباحاً - وكان نهار أحد - يضطّر إلى شراء البنطال الوحيد المتوافر في قياسه من متجر للألبسة العتيقة لكونه المتجر الوحيد المفتوح في المدينة. ولأن هذا البنطال لا يليق حتى بمهرّج، ينجح داسوكين في إتمام مهمّته ويحصل على القمح من دون مقابل كإعانة للعالم الثالث.

بطل القصّة الثانية مهندس مغربي يروي لنا، وهو في طريقه إلى منزله، عوارض الغربة التي تجتاحه في بلدٍ (هولندا) «يحتاج فيه إلى قاموس لشراء مِمْسَحة، هو الذي كان يحلم في تغيير العالم». ومن هذه العوارض: الشعور الثابت بعبثية حياته، فقدان نقاط استدلاله، التفكّك والانحلال. ولكن في نهاية القصّة يسترد رباطة جأشه فور تذكّره الرقّة التي تتمتّع بها زوجته الهولندية وتشكّل في نظره أثمن ما في العالم. ويتميّز هذا النصّ عن سائر نصوص الديوان بكتابته على شكل مقطعٍ يتكرر مرّات عدّة ويضيف العروي عليه في كل مرّة تفاصيل جديدة حتى تكتمل القصّة في النهاية.

في القصّة الثالثة، نتشارك بلبلة شاب مغربي يعيش في باريس ويتبيّن له، على أثر طلبه إخراج قيد من السلطات المحلية في وطنه الأم، أنه ليس من مواليد الرباط، كما يعتقد، بل من مواليد قرية يجهلها ولم تعد موجودة اليوم. وما قد نظنّه خطأ لدى السلطات المذكورة هو في الواقع حيلة وقف خلفها جدّه الذي كان يتقدّم إلى الانتخابات البلدية في هذه القرية ويطمح من خلال تسجيل أحفاده فيها إلى كسب أصواتهم لدى بلوغهم سنّ الرشد. وكما لو أن ذلك لا يكفي، يكتشف الشاب من طريق عمّه أنّ حتى تاريخ ولادته غير صحيح، مما يجعل منه شخصًا ليس غير مولود في مكانٍ محدَّد، بل شخصاً غير مولود على الإطلاق.

القصة الرابعة يرويها صحافي مغربي يرسله مديره إلى مدينة خربيكة الجبلية لإنجاز مقالٍ حول الشخصيات المهمّة فيها. وعلى رغم غرابة الموضوع، يذهب الصحافي إلى هذه المدينة ويقابل أبرز وجهائها فيتبيّن له أن مرجع عمل كل واحدٍ منهم هو حلاق المدينة، ما يدفعه إلى زيارة هذا الأخير في صالونه. ولأن الحلاق مجرّد شخص قروي ساذج، يصل الصحافي إلى استنتاج هو أن بلده قائم على فكرةٍ طاويّة: كل أشعة العجلة تتقاطر نحو الفراغ، وبفضل هذا الفراغ تتقدّم العربة.

وبعد قصّة نتعرّف فيها على رجل هولندي وامرأة فرنسية يدفعهما شعورهما المفاجئ بالعزلة إلى إلغاء قرارهما وضع حدّ لعلاقتهما الغرامية، وقصّة حارس خاص يثور على ربّ عمله الشاب بعد ملاحظته أن جميع رفاق هذا الأخير هم من عامّة الشعب مثله، يسرد العروي قصّة تعميمٍ أرسلته وزارة التربية في المغرب لجميع مُديري المدارس تحضّهم فيه على إضافة السباحة كامتحانٍ اختياري ضمن مسابقة الرياضة في برنامج البكالوريا، وبالتالي على اتّخاذ كل التدابير التي تسمح للطلاب الراغبين في اختيار هذا الامتحان بالقيام بذلك، ما يدفع أحد المديرين في مدينة الجديدة التي لا يتوافر فيها أي مسبح إلى اختراع مفهوم السباحة في الرمل.

وبينما نشاهد في القصّة الثامنة تلميذاً مغربياً سابقاً يعطي موعداً لمعلّمة مادّة الفلسفة في الصف الذي زرعت فيه الشك الميتافيزيقي داخل رأسه، ويطلب منها إعادته بريئاً وخالي البال كما كان قبل دروسها، تغوص بنا القصّة الأخيرة داخل حلم رجلٍ مغربي يعنّف فيه زوجته وابنه، قبل أن يستيقظ في الصباح ويتحضّر للمشاركة في تظاهرة من أجل... الحرّية!

باختصار، قصصٌ يستحيل اختصارها ببضع كلمات نظراً إلى الاستطرادات الغزيرة داخل كل واحدة منها التي تسمح للكاتب بالتطرّق إلى مواضيع مختلفة لا مجال هنا للخوض فيها. لكنّ ما لا بد من قوله هو أن العروي يعمد في بعض هذه القصص إلى تشريح وضع المهاجر الذي يواجه عملية اندماجٍ صعبة في مجتمعٍ جديد وعقبة اللغة الجديدة، وما يترتّب على ذلك من بحثٍ وضياعٍ على مستوى الهوية، كما ينقضّ بطرافة نادرة على الغباوة في كل أشكالها، سياسية كانت، أم اجتماعية. ولهذه الغاية، يبتكر شخصياتٍ مثيرة يُسقطها داخل حالات دقيقة ومضحكة في غرابتها تعكس عبثية الوضع البشري، ويولي أهمية كبيرة للشفهية التي تتجلّى من خلال الطُرَف والأحاديث التي يجمعها من هنا وهناك قبل أن يصوغها من جديد ويوظّفها داخل قصصه بفاعليّة كبيرة.

أما موهبته السردية فتجعله يمسك بأنفاس قارئه حتى خاتمة كل قصّة التي غالباً ما يصعب نسيانها، مستعيناً في ذلك بمستويات لغوية عدة وبأسلوبٍ متين تطعّمه فكاهةٌ ثابتة لا تمتّ إلى المجانيّة بأيّة صلة.









0 تعليق ل فؤاد العروي يفضح عبثية الوضع البشري في رواية "دار جوليار"

أضف تعليق


البحث في الأرشيف

البحث بالتاريخ
البحث بالصنيفات
البحث في الموقع

البوم : صور