الدولة المغربية والسلفية الجهادية.. هل بدأ "ربيع المصالحة"؟


«هل سأتشرف بإلقاء خطبة الجمعة القادمة – إن شاء الله – بين يدي الملك؟». هكذا فاجأ الشيخ محمد الفيزازي متتبعيه على صفحته الخاصة بموقع الفايسبوك، عشية الأربعاء 26 مارس المنصرم. بعد مرور يومين على ذلك، ظهر الشيخ الفزازي في القناة الأولى، يدعو إلى شكر نعمتي الأمن والاستقرار بحضرة جلالة الملك، وذلك في سابقة من نوعها، بعد حضوره الإعلامي الأول إلى «بلاتو» برنامج حواري مباشر على القناة الثانية، حيث ظهر الفزازي مدافعا عن الثوابت والتوجهات الدينية للدولة، بعدما كان من أشد المعارضين لها.

دلالات كثيرة يخفيها هذا الحدث الهام، أولها تجدد انفتاح الدولة على التيار السلفي، والذي جاء بعد تراكم المراجعات الفكرية والمواقف المشجعة، التي قام بها بعض السلفيين على مستوى الأفكار والسلوك، خاصة بعد الانفراج التي طبع علاقتهم بالدولة، في أعقاب أحداث الربيع العربي، ليستفيد بعضهم من العفو الملكي، كمبادرة 14 أبريل 2011، التي عبدت الطريق لكل من محمد الفيزازي وعبد الكريم الشاذلي وآخرون لمغادرة أسوار السجن، واستفادة ثلاثة من رموز التيار السلفي من العفو الملكي في بداية 2012، وهم أبو حفص وحسن الكتاني وعمر الحدوشي.

من الصعب المغالاة في تبسيط الأهمية التي يوليها البعض إلى رمزية الحدث، لكن واقع الحال يشير إلى الإرادة الحقيقة للدولة والرسالة الواضحة الموجهة إلى أبناء التيار السلفي المتشدد من أجل بناء جسر من الثقة وتشجيعهم على الإعلان عن مواقف صريحة من إمارة المؤمنين والخيارات الدينية للمملكة. وبدون شك، فحدث إمامة الشيخ محمد الفزازي لجلالة الملك، يبقى بعد مبادرة 2011 وسابقة العفو الملكي من أهم الإشارات التي أعطتها الدولة في ملف حساس يحتاج لبعض الوقت قبل التوصل لطي صفحته بشكل نهائي، وكذلك للتدليل على رغبتها الحقيقية في تحقيق المصالحة مع معتقلي السلفية الجهادية، عبر حثهم على إجراء مراجعات فكرية عميقة للأطروحات المتعلقة بمواقفهم من العنف، والمشاركة السياسية المدنية، ومشروعية السلطة السياسية للدولة، بعيدا عن إشكالات المقاربة الأمنية والقانونية التي أحاطت بهذا الملف المعقد الذي تتضارب بشأنه وجهات نظر متعددة.

ولكن هذا لايعني أن الدولة تتحمل لوحدها مسؤولية طي الملف، طالما أن حل ملف معتقلي السلفية الجهادية يبدأ أساسا داخل البيت السلفي، من خلال حث الفعاليات السلفية المفرج عنها على إجراء حوار بناء مع المعتقلين السلفيين داخل السجون ودفعهم إلى القيام بمراجعة بعض الأفكار والمواقف اتجاه القضايا التي تشكل حاجزا أمام إقرار مصالحة شاملة، وعلى رأسها الديمقراطية والتعددية والمؤسسات الدستورية والوحدة المذهبية.

مراجعات السلفية الجهادية.. ضبابية المواقف واحتمالات الفشل

ظهرت أولى مبادرات المراجعات الفكرية داخل أوساط التيار السلفي الجهادي بالسجون بعد سنوات قليلة من تاريخ الأحداث الدامية لسنة 2003، حيث باشر عدد من مشايخ التيار ورموزه إلى تقديم إشارات إيجابية للسلطات تٌعبر عن حسن نيتهم وتدفع ببراءتهم من تهم شرعنة العنف وتكفير المجتمع والمؤسسات، وتوالت ابتداءا من 2006، الجلسات الحوارية بين ممثلين عن الدولة وسلفيي السجون من أجل إيجاد حلول لهذا الملف، ورغم أن تلك المراجعات نجحت في إقناع الكثيرين بتغيير أفكارهم من الملكية والمذهب المالكي وتكفير المجتمع، إلا أنها تفتقر حسب المتتبعين إلى رؤيا موحدة بسبب ضبابية مواقف سلفيي السجون منها.

مراجعات من داخل السجون

جاءت أولى المبادرات على يد علي العلام الذي دعا إلى محاربة الأفكار الخاطئة والانغلاق، ثم تلاه حسن الخطاب الذي يقضي عقوبة بالسجن 30 سنة لقيادة الخلية الإرهابية «أنصار المهدي». أطلق حسن الخطاب مبادرة أعطاها اسم «المصالحة الوطنية هي طريق المواطنة»، واعتبرها حصانة للتيار السلفي من الانزلاقات الفكرية وإعلان القطيعة مع الماضي، الذي يقول عنه حسن الخطاب، «ذلك الماضي الذي كان لايرى أي خيار في التغيير سوى الجهاد وأي مخالف سوى الضلال والانحراف».

ومن بين أهداف مبادرة الخطاب، طي أفكار الانغلاق والتطرف والعدمية وملائمة إدماج التيار السلفي، والتزم الخطاب في مبادرته بوضع «ميثاق شرف» يتضمن، الاعتراف بالملكية والتعهد بنبذ العنف وقتل الأبرياء تحت أي اسم كان وعدم تكفير المجتمع.

واقترح الخطاب لنجاح مبادرته، طرح مجموعة من الآليات، كإعادة تصنيف السجناء حسب الملفات والقناعة الفكرية ثم خلق برامج دعم لتقوية مفهوم المراجعة، وفسح المجال للشيوخ وطلبة العلم الذين اقتنعوا بضرورة العمل على أفكار المراجعات، بالإضافة إلى توفير الدعم اللوجيستيكي من كتب وطبع المراجعات ودعم معنوي للشيوخ حتى يتأتى لهم تغيير فكر الشباب.

أبرز المراجعات التي فجرت جدلا واسعا بين السلفيين، كانت مبادرة الشيخ الفزازي الذي راجع الكثير من مواقفه اتجاه المؤسسات والدولة، إضافة إلى المواقف المعتدلة للشيخ عبدالكريم الشاذلي، والتي تسببت له في تلقي انتقادات شديدة اللهجة من بعض الشباب السلفي المعتقل.

تعددت بعد ذلك مبادرات المراجعات الفكرية داخل سلفيي السجون، ومن بين أهم الذين أعلنوا عن مراجعات غير مسبوقة في تاريخ السلفية بالمغرب الشيخ عبد الوهاب رفيقي الملقب بـ«أبو حفص»، الذي طرح مبادرته «أنصفونا» في مارس 2010، والتي دعا فيها إلى اعتماد المذهب المالكي والرجوع إليه عند سن القوانين وإصدار التشريعات في مختلف جوانب الحياة، إضافة إلى إدانته للتفجيرات العشوائية التي تستهدف الآمنين في بلاد المسلمين.

لكن تلك المبادرات لم تحظى بالقبول التام داخل سلفيي السجون، بعدما تبرأ بعضهم من تلك المراجعات، معتبرين ذلك «إفلاسا حقيقيا» وأصدورا بيانات، نفوا فيها، أية علاقة لهم بالمراجعات التي أصدرها بعض الدعاة ولا بالمصالحة مع الدولة.

الدولة ومبادرات المراجعات الفكرية

على الرغم من تعدد مبادرات السلفيين، فقد تعاملت الدولة بحذر شديد معها، وظهر ذلك من خلال طول الوقت الذي أخذه مسار تقييمها ودراستها، وكذلك الخطوات التي اعتمدت في معالجة هذا الملف الحساس، خاصة بعدما اقتنعت الدولة بنفسها بوجود أخطاء في مقاربة هذه القضية.

وقع تقسيم السلفيين الجهاديين المعتقلين إلى ثلاثة أصناف، منهم الأبرياء من تهمة العنف والإرهاب، وعلى رأسهم رموز تيار السلفية الجهادية، ثم الشباب التكفيري الذي تأثر بالفكر المتطرف لمشايخ السلفية الجهادية ولم يتورط في سفك دماء الأبرياء، والذي وجب مناقشته عبر حوار فكري بناء. هؤلاء يقول عنهم الشيخ الفزازي في رسالة وجهها إلى جلالة الملك، «هذا المكث الطويل في السجن مكنني من الاختلاط بمعتقلي ما يسمى بالسلفية الجهادية ومن المعرفة الكاملة بمختلف الأفكار الرائجة بين هؤلاء المعتقلين وأيقنت اليقين التام بأن منهم مظلومين كثر يستصرخونكم من أجل إنقاذهم من غيابات السجن وأنهم متعطشون إلى العودة إلى مجتمعهم الذي استوحشوه»، ثم هناك المتورطين في عمليات إرهابية دموية، الذي يتوجب محاكمتهم طبقا للقانون.

كانت بوادر تغيير الدولة لطبيعة مقاربتها في الملف واضحة، في الوقت الذي كانوا لا يزالون في السجن، واستمر هذا التحول بعد الإشارات التي أطلقها مشايخ السلفية الجهادية داخل السجون، فعلى سبيل المثال، أصدر الشيخ محمد الفيزازي، فتاوى ضد المظاهرات ولصالح الحفاظ على وحدة البلاد تحت قيادة الملك. وأثناء وجوده في السجن في عام 2009، انتقد الفيزازي صراحة دفاع تنظيم «القاعدة» عن الإرهاب. وعلى نحو مواز، فإن مبادرة «أنصفونا» التي كتبها الشيخ السلفي أبو حفص، وغيرها من المبادرات الطوعية التي تعهد فيها سلفيون آخرون بالتخلي عن خطاب التكفير، ساهمت في انفراج العلاقة المتوترة بين الطرفين.
على الرغم من هذه التحولات الإيجابية، فلم يكن من الواضح، ما إذا كان سلوك السلفيين يشير إلى انسلاخ حقيقي عن ماضيهم أم أنه مجرد خوف من المكوث في السجن أم كلا الأمرين، لكن يبقى الأمر المهم، هو تجاوب الدولة

مع هذه المبادرات، التي توجت في أعقاب أحداث الربيع العربي، باستفادة بعضهم من العفو الملكي، كمبادرة 14 أبريل 2011، التي عبدت الطريق لكل من محمد الفيزازي وعبد الكريم الشاذلي وآخرون لمغادرة أسوار السجن، وكذلك استفادة ثلاثة من رموز التيار السلفي من العفو الملكي بمناسبة عيد المولد النبوي 2012، وهم أبو حفص وحسن الكتاني وعمر الحدوشي.

العود وتأثير الحرب السورية

رغم الانفتاح الإيجابي للدولة على الملف السلفي، عبر سابقة العفو الملكي على رموز السلفية الجهادية، فمازال العديد من سلفيي السجون، يرفضون التوقيع على رسائل العفو، معتقدين أنهم غير مضطرين للتراجع عن اتهامات غير معنيين بها أصلا، بينما هناك آخرون انخرطوا في مشاريع مراجعات تتهدها سياقات ظرفية مرتبطة بمناخ الحرب السورية وتأثيرها على الجيل الجديد من الجهاديين المغاربة، وأخرى متعلقة بارتفاع حالات العود داخل أوساط المعتقلين السلفيين، كما أظهر ذلك مسلسل تفكيك الخلايا الإرهابية انطلاقا من اعتقال عناصر خلية أنصار المهدي صيف 2006، إلى الشبكات الإرهابية الأخيرة، إضافة إلى التخوف من تكرار ما حدث في سنة 2007، حينما قام عبد الفتاح الرايضي الذي غادر أسوار السجن بتشكيل خلية من الانتحاريين انفجر بعضهم في مقهى بسيدي مومن وآخرون في حي الفرح بالدار البيضاء. الأمر الذي يثير المخاوف بشأن كبير لدى السلطات، هو سفر العشرات من السلفيين المتابعين في قضايا إرهاب سابقا إلى سوريا بأعداد أكبر وتشكيل مجموعاتهم الجهادية الخاصة، وهي كلها أمور من شأنها تعقيد مسلسل المراجعات الفكرية داخل السجون وتزيد من احتمالات فشلها…

إعداد: محمد كريم كفال لـ "الأحداث المغربية".









0 تعليق ل الدولة المغربية والسلفية الجهادية.. هل بدأ "ربيع المصالحة"؟

أضف تعليق


البحث في الأرشيف

البحث بالتاريخ
البحث بالصنيفات
البحث في الموقع

البوم : صور