الملك: إفريقيا تواجهُ تحديات جديدة.. وهذا مصير مدينة الداخلة
زنقة 20
وجه الملك محمد السادس رسائل قوية إلى المشاركين في منتدى كرانس مونتانا، المنعقد بالداخلة من 12 إلى 14 مارس الجاري.
وفي ما يلي نص الرسالة الملكية التي تلاها رئيس الحكومة عبد الإله بنكيران :
” الحمد لله، والصلاة والسلام على مولانا رسول لله وآله وصحبه. أصحاب الفخامة والمعالي والسعادة، حضرات السيدات والسادة، إنه لمن دواعي سرورنا وسعادتنا أن نتوجه للمشاركين في هذه الدورة لمنتدى “كرانس مونتانا”، التي تلتئم تحت رعايتنا السامية، والتي خصصت أشغالها لإفريقيا، بمشاركة شخصيات من مشارب متعددة، تحظى بصيت عالمي أكيد.
وإذ نرحب بكم جميعا في المغرب، وبالتحديد في مدينة الداخلة، جوهرة جنوب المملكة، فإنه لا يفوتنا أن نهنئكم على اختياركم الموفق، لاسيما بالنظر للموضوع الرئيسي لمنتداكم. فالنموذج التنموي الجديد لجهة الصحراء، الذي تبنته المملكة، يطمح بالفعل إلى تحويل هذه المنطقة إلى قطب للتلاقي بين المغرب العربي وإفريقيا جنوب الصحراء.
وفي هذا السياق، فإن مدينة الداخلة مدعوة لاحتلال موقع محوري ضمن القطب الاقتصادي الإفريقي المستقبلي، المندرج في إطار السعي إلى تعزيز السلم والاستقرار في منطقة جنوب الصحراء.
وينبثق هذا النموذج التنموي الجديد من رؤية سياسية طموحة، قائمة على جيل جديد من الإصلاحات المؤسساتية التي تعتمد الجهوية المتقدمة ركيزة لها.
ومن هذا المنطلق، تتطلع المملكة المغربية إلى استثمار الخصوصيات المحلية لكل منطقة من مناطقها، والنهوض بالحكامة المحلية الجيدة، وبلورة سياسات عمومية، على صعيد الجهات، تضمن نجاعة تدخل الدولة وشراكتها مع الجماعات الترابية.
وفي هذا الإطار، فإن مصير مدينة الداخلة، هو أن تصبح منصة للمبادلات متعددة الأشكال، بين الفضاء الأطلسي، ومنطقتي المغرب العربي والساحل.
ويشكل التنوع الكبير في الأطراف المشاركة في هذا المنتدى، من مؤسسات رسمية، ومجتمع مدني، وفاعلين اقتصاديين، باختلاف انتماءاتهم وأطيافهم، علاوة على أهمية المواضيع المطروحة للنقاش، عاملا من العوامل التي من شأنها تعزيز ثقتنا في ت،لك،م الاختيارات الاستراتيجية، الهادفة إلى انبثاق قارة، إفريقية، متضامنة، تتطلع بكل عزم نحو المستقبل الواعد.
وما ذلكم إلا تقدير، منكم للعمل الدؤوب، الذي نقوم به، في سبيل خدمة قارتنا. فالمغرب ما ف،ت،ئ يبذل قصارى جهوده، من أجل قيام قارة إفريقية حديثة وطموحة، ومبادرة ومنفتحة، قارة، فخورة، به،ويتها، وقوية برصيدها الثقافي، ولها القدرة على تجاوز الإيديولوجيات المتقادمة.
وفي هذا السياق، نود أن نوجه تحية خاصة للسيد جون بول كارترون، الذي نجح في وضع تجربته الغنية والمتنوعة، في خدمة القضايا النبيلة، من خلال الحوار والتشارك.
ومما لا شك فيه، أن الاختيار المنطقي والعقلاني لأرض الصحراء المغربية، من لدن، المؤسسة، المرموقة، التي يمثلها، يشكل عاملا من عوامل النجاح والتوفيق.
أصحاب الفخامة والمعالي والسعادة، حضرات السيدات والسادة، إن موضوع التعاون جنوب-جنوب وتنمية إفريقيا، الذي اخترتموه محورا لأشغالكم، يكتسي أهمية بالغة وآنية، ويعكس دون شك، الطموح الذي يحدونا جميعا، لجعل القارة في صميم الاهتمامات الجيوسياسية، الدولية الكبرى.
وفي هذا الإطار، لا بد،، للتعاون جنوب-جنوب أن يأخذ بعين، الاعتبار، المعطيات الجديدة التي أتى بها القرن، الواحد والعشرون، ويساير، التوجهات، الكبرى التي أفرزتها العولمة، بكل تجلياتها. وفي السياق ذاته، ما فتئنا ندعو إلى تعاون فعال، ومتضامن،، من خلال التوظيف، الأمثل للفرص التي يتيحها التعاون الثلاثي، سواءً على المستوى الإقليمي، أو مع دول الشمال، شريطة، أن ينخرط هذا التوجه، ضمن مقاربة، مبنية، على الاحترام المتبادل والتوازن، ومراعاة مصالح كل الأطراف.
إن المملكة المغربية، التي جعلت من التعاون جنوب-جنوب ركيزة من ركائز سياستها الخارجية، تعمل كذلك على تطوير شراكات مثمرة، عبر انفتاحها بالقدر، المطلوب، مع شركائها في كل من أوروبا وأمريكا الشمالية وآسيا. وذلكم بالضبط، هو نموذج الشراكة متعددة الأبعاد، القائمة على تعبئة العديد من الأطراف، الذي يتوجب علينا المثابرة من أجل النهوض به، لتحقيق المزيد من الرخاء والنماء في إفريقيا. إن قارتنا هي التي دفعت أكثر من غيرها الثمن غاليا، خلال فترة الاستعمار، وإبان، الحرب، الباردة،، ولا زالت تعاني للأسف الشديد، من آثارهما إلى يومنا هذا.
فالحدود التي ورثتها بلدان القارة عن، المستعمر،، لا تزال تشكل في الكثير من الأحيان، البؤر، الرئيسية، للعديد، من الاضطرابات والنزاعات، ولا بد لنا، نحن أبناء إفريقيا أن نبتكر السبل، الكفيلة، بتحويلها إلى فضاءات مفتوحة للتلاقي والتبادل المثمر، بين المجتمعات الإفريقية.
كما تخترق، القارة خطوط متعددة، للتصدع، الاقتصادي والسياسي والثقافي، تتسبب، في اندلاع، جملة، من الأزمات، متعددة الأشكال، في حين أن تعدد، وتنوع ثرواتها البشرية والطبيعية الهائلة، يجدر، بهما أن يكونا، على العكس من ذلك، أفضل، حافز، على الاندماج، والتكامل، بين مكوناتها المجالية، الشيء الذي سيسهم في محو آثار التجزئة التي تعرضت لها القارة وعانت منها، إبان الاستعمار، وذلك ما كان يعمل على إذكاء التوترات السياسية والعرقية، خلال تلك الفترة.
وعلاوة على ذلك، تواجه القارة وضعا أمنيا هشا ومتفاقما. ذلك أن العديد من المناطق الإفريقية، أضحت تعيش اليوم، تحت تهديد أخطار جديدة وعابرة للحدود، مثل، الإرهاب، والجريمة، المنظمة، والاتجار، في المخدرات، والاتجار، في البشر، والتطرف، الديني. وكل هذه التحديات الكبرى، تتطلب منا ردا جماعيا، وتدعونا للتفكير سوياً، والتشاور، بشأن الإشكالية الأمنية.
ومع ذلك، فإن إفريقيا اليوم، هي أيضا القارة التي تتوفر، أكثر من غيرها، على مؤهلات متعددة الأبعاد، تتيح آمال العالم في غد أفضل، مما يبعث على التفاؤل ويغذي طموحاتنا وآمالنا المشتركة.
– فنسبة، النمو الاقتصادي في إفريقيا، هي الأعلى منذ سنة 2000، بينما ارتفع حجم مبادلات القارة التجارية مع بقية العالم بأكثر من 200 في المائة خلال نفس الفترة.
– كما سيبلغ عدد سكان القارة ملياري نسمة بحلول سنة 2050، الشيء الذي سيمكنها من توظيف هذا الرصيد الديموغرافي الهائل، خاصة الشباب، لتعزيز موقعها على الخريطة الاقتصادية للعالم.
– وتتوفر القارة على أكبر رصيد من الثروات الطبيعية، التي يتعين استثمارها لخدمة التنمية البشرية المستدامة لساكنتها.
– وهي أيضا القارة التي تتعزز، فيها يوما بعد يوم، الديموقراطية والحكامة الجيدة.
وهذا ما يجعلنا نخلص إلى القول أن إفريقيا توجد اليوم، في مرحلة مفصلية، من تاريخها، وتحتاج لوضع استراتيجيات وأدوات، وآليات، مبتكرة لدعم مسيرتها نحو التقدم.
ولتحقيق هذا الهدف، لا بد لإفريقيا أن تتحرر، بصفة نهائية، من قيود الفترة الاستعمارية من ماضيها، وتنظر بكل عزم نحو المستقبل، وأن تتحلى بالمزيد من الثقة بنفسها وبقدراتها الذاتية.
كما يتعين على إفريقيا، أن تعمل على بلورة ودعم شراكات، تعود، بالنفع، على جميع الأطراف، وعلى الرفع، من حصتها في خلق، القيمة على الصعيد الدولي، والدفع بالاندماج الاقتصادي الإقليمي إلى الأمام، وخلق فضاءات مشتركة للرخاء، تضمن حرية تنقل الأشخاص والسلع.
كما أن إفريقيا في حاجة، إلى الاستثمار على نطاق، واسع، في بنياتها التحتية وتحسين ظروف عيش مواطنيها.
وعلاوة على ذلك فإن إفريقيا في أمس الحاجة، إلى موارد طاقية لإنجاح جهودها التنموية.
وفي هذا المجال، بالذات، تتوفر القارة على موارد هائلة، للطاقة، المتجددة،، التي ينبغي تعبئتها لتحقيق التنمية المستدامة.
وفي هذا الصدد، تستمد فكرة تطوير، مشروع، خاص، بالطاقات المتجددة وجاهتها بالنظر للفرص الغنية التي تتيحها إفريقيا الأطلسية، في مجالي الطاقة الريحية والشمسية.
ولا تقل صواباً عنها ضرورة تعبئة آليات التعاون البيني الإفريقي فقد علمتنا دروس التاريخ أن الترابط والتكافل الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، هو شرط، أساسي، لتحقيق الإقلاع. لذا، فإن المغرب يدرك تمام الإدراك أن أي جهود، معزولة، لتحقيق التنمية، مآلها الفشل.
أصحاب الفخامة والمعالي والسعادة،
حضرات السيدات والسادة، يضع المغرب إفريقيا ضمن الأولويات الاستراتيجية لسياسته الخارجية، وهو اختيار ينبع من انتمائه الجغرافي للقارة الإفريقية ومن تاريخه العريق، الذي كان له بالغ الأثر في بناء هويته وتشكيل ثقافته الإفريقية.
ومن هذا المنطلق، فمن الطبيعي جدا أن يتعزز التوجه الإفريقي للمملكة، جاعلا منها قطبا للاستقرار والتنمية الإقليمية والإشعاع الثقافي والحضاري.
وقد تجسدت إرادتنا لتعزيز التعاون مع الدول الإفريقية الشقيقة على أكمل وجه، من خلال الزيارات المتوالية التي قمنا بها للعديد من بلدان القارة. حيث مكنت هذه الزيارات من إنجاز مشاريع ملموسة، وإبرام العديد من اتفاقيات التعاون، همت شتى الميادين.
إن المملكة المغربية التي كانت دوما ترفض تلكم النظرة المتشائمة بشأن حال ومآل القارة الإفريقية، لتدعم وتدافع عن مبدأ العمل بمسعى راسخ ونابع من إرادة حقيقية، من أجل انبثاق “إفريقيا جديدة”، وهو الهدف الذي نتطلع ونصبو إلى تحقيقه ونسعى بكل حزم وعزم لبلوغه. إن السياسة الإفريقية للمغرب ترتكز على مقاربة شمولية ومندمجة وإدماجية، ترمي إلى النهوض بالسلم والاستقرار وتشجيع التنمية البشرية المستدامة وصيانة الهوية الثقافية والروحية للسكان، في إطار احترام مبادئ حقوق الإنسان كما هو متعارف عليها عالميا. وتتميز هذه السياسة بكونها لا تقتصر حصرا على الفاعلين الحكوميين، بل تتجاوزهم إلى الفاعلين الاقتصاديين من القطاع الخاص، الذين ترسخ إيمانهم وانخراطهم في هذا التوجه، شأنهم شأن كل مكونات المجتمع المدني.
وبهذا الخصوص، يهدف المغرب إلى دعم جهود البلدان الإفريقية الشقيقة من أجل بناء اقتصادات قوية، من خلال نقل الخبرات وتكوين الموارد البشرية والاستثمار في المجالات الحيوية للاقتصاد وحشد الموارد.
وعلى صعيد آخر، وبالنظر للأهمية التي تكتسيها التكتلات شبه الإقليمية، ما فتئ المغرب يدعو إلى إحياء اتحاد المغرب العربي، الذي يحتفل هذه السنة بعيد ميلاده السادس والعشرين. كما تضطلع المملكة بدور جد فاعل ضمن تجمع دول الساحل والصحراء، الذي يعقد قمته القادمة على تراب المملكة، علاوة على مواصلة مسار تقاربها المثمر مع العديد من المنظمات الإقليمية بكل من غرب ووسط إفريقيا.
أصحاب الفخامة والمعالي والسعادة، حضرات السيدات والسادة، لا يسعنا إلا أن نعبر عن سرورنا بمبادرات منتداكم الرامية إلى النهوض بالتعاون بين بلدان الواجهة الأطلسية للقارة الإفريقية.
وفي هذا الصدد، تعد مبادرة إطلاق “نادي إفريقيا الأطلسية”، خلال هذا اللقاء، خير تعبير عن إرادتنا المشتركة لدعم التنمية والاندماج الإقليمي لقارتنا، وتشجيع انفتاحها على واجهتها الأطلسية.
لقد ظل هذا البعد الهام من العمل الإفريقي المشترك طي الإهمال لفترة طويلة، بينما لا يمكن للمحيط الأطلسي إلا أن يشكل حافزا للتنمية، وجسرا للانفتاح والتفاعل والاندماج بين البلدان الإفريقية المحاذية له.
وهناك مبادرة أخرى لا بد من التنويه بها، وهي مبادرة إطلاق “منتدى المرأة الإفريقية”، التي ستمنح المشاركات فضاء للحوار وتبادل وجهات النظر. كما تشكل هذه المبادرة مناسبة سانحة للمطالبة بتمتيع المرأة الإفريقية بكامل حقوقها، وحثها على الإسهام الفعال في جهود التنمية لكل بلد على حدة، ذلك أن قارتنا تحتاج إلى حشد كل طاقاتها وتجميع قواها من أجل تحقيق الأهداف المنشودة. وفي هذا الصدد، ما فتئنا نولي أهمية خاصة للنهوض بأوضاع المرأة ودعم مشاركتها في مختلف المجالات، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. كما أننا لا ندخر جهدا في سبيل تحقيق المناصفة بين المواطنات والمواطنين، كما رسخها الدستور الجديد للمملكة.
أصحاب الفخامة والمعالي والسعادة، حضرات السيدات والسادة، في الختام، نتوجه بتحية إكبار لمنتدى كرانس مونتانا، ولرئيسه السيد جون بول كارترون، على تخصيص اجتماعات المنتدى لهذه السنة، لإفريقيا والأفارقة. كما لا يفوتنا أن ننوه بالعمل الدؤوب الذي انخرط فيه المنتدى، منذ أكثر من ثلاثة عقود، في سبيل تحقيق التقارب والتعايش بين الثقافات والحضارات.
وسيجد منتدى كرانس مونتانا في المملكة المغربية، الاستعداد الدائم لتقديم الدعم اللازم، من أجل إعطاء المزيد من الإشعاع لمساعيه، التي تخدم قضايا السلم والتنمية.
كما نتوجه بالتحية للمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة، ولمديرها العام، الدكتور عبد العزيز بن عثمان التويجري، لمساهمتها الفعالة في تنظيم هذه التظاهرة الهامة، ولجهودهما المشكورة من أجل ضمان نجاحها. وإذ نرجو أن تتكلل أشغالكم بالتوفيق والنجاح، نتمنى لكم مقاما طيبا في بلدكم الثاني، المغرب.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته “.