دعارة الشارع بالبيضاء.. حكاية بئيسَات على رصيف الشوارع الراقية


زنقة 20

الخيط رفيع بين الجلاد والضحية في عالم الدعارة. حتى أن العين تكاد تخطئه عند رصد الظاهرة وهي تستفحل في الشوارع وبين الأزقة بمشاهد تجمع بينها الإيحاءات المداعبة للغزائز في بحث عن زبون قد يدفع المقابل نقدا وقد يدفعه ضربا. وهنا تكمن خطورة ذلك الخيط الرفيع الذي يختفي في قصص فتيات اخترن أن يكن صيادا لا صيدا أو «مصيدات». همهن الوحيد هو عدم الإخلاص لمبدأ الزبون الوحيد، في ما شعارهن «كم ستدفع؟» و«كيف ستمارس» و«غير دايز ولا شاد الليل؟». وبعد التمكن من تحقيق هذين الشرطين يكون قد تحقق هدف الإيقاع بمن حركته الرغبة في إشهار فحولته وإن لم يكن على علم بأنه قد حمل عند هؤلاء العاهرات لقب «الفيكتيم». وهن اللاتي لا يعرن أدنى اعتبار لكونهن مرمى كل نعوت الاتهام والشبهات، سواء كن بدويات أو مدينيات، قاصرات أو بالغات أو حتى طاعنات في السن، بالجلاليب أو «الميني جيب» طالما هن على استعداد تام للمتاجرة بنصف الجسد أو كله. وعيش الليل أكثر من النهار قبل أن ينتهي بهن الحال في بيت العائلة أو شقة الكراء أو في حضن زبون، أو ربما في الكاشو.
لثلاثة أيام متوالية جلنا مختلف المواقع المعروفة بهذا النوع من البغاء والمسمى «دعارة الشوارع أو الأزقة» بمدينة الدار البيضاء لتقترب أكثر من بطلاتها وهن يمارسن نشاطهن بعفوية من جهة، ويفضين عن قصد بما تحتفظ به صدورهن من خبايا وأسرار كانت في مجملها مآسي مزمنة من جهة أولى وجروحا على وشك الالتئام من جهة ثانية.

المكان شارع أنفا، والساعة في حدود الحادية عشرة و45 دقيقة، لكن لا شيء يحيل على هذا الوقت الليلي في مدينة ترفض التعايش السلمي مع شيء اسمه الهدوء على مدار 24 ساعة. فتيات بتنانير (صايات) قصيرة يتمايلين بغنج، وأخريات بسراويل جينز تطل من فوقها ملابسهن الداخلية. لكن الجميع برعن في تجميل وجوهن بمختلف المساحيق ومنهن من تنفث دخان السجائر في صورة تقترب إلى ما يشبه المترصد لفريسة قد يقودها حظها للبحث عن متعة عابرة. وذلك ما تم حين خفف أحد الوافدين من سرعة سيارته واقتربت منه شابة قصيرة القامة وبجسم مكتنز «كاين مانقضيو أ كوكو». بدا من تردد الزبون وكأنه حديث العهد بهذا العالم، لكن الشابة كانت أشطر منه برفع الحرج عنه وهي تفتح باب السيارة وتلقي بنفسها داخلها قبل أن يتواصل بينهما حديث قصير لم يمتد أكثر من دقيقتين، انتهى بانطلاق الاثنين إلى وجهة غير معلومة.

وما هي إلا نحو نصف ساعة حتى عادا وملامح الرضى بادية على وجهي كليهما. التحقت الشابة بمعشر رفيقاتها لتتعالى قهقهات التعليق على ما حكته لهن في همس وغمز، لم يقطعه سوى رنين هاتف إحدى المجتمعات التي أجابت عن مكالمة وجيزة تبادلت مع مخاطبها كلمات حميمية تنم على معرفتها المسبقة والجيدة به أنهتها بـ«إيه عرفتك دابا مزيان. صحابني فالأول واش شي رعواني بغا يتفلى. يالاه ماتعطلش أنا فالبليْصة..» وحتى تفي بما وعدت به، انزوت هذه الشابة التي تخطو نحو سن الثلاثين في مكان بقرب مؤسسة بنكية إلى أن ظهرت سيارة بيضاء اللون، ترجل منها شخص يبدو في عقده الخامس ببذلة أنيقة وربطة عنق، ليسأل المعنية بقدومه «فين هي واحد سلمى؟ بغيت نشوفها»، لترد عليه «سلمى بيرمانونس ألويْن»، لتخاطب رفيقاتها على الفور «نتقاشعو البنات. أدوماه..» في هذه الأثناء جاءت إحدى الفتيات محذرة صديقاتها من نافذة سيارة أجرة من الحجم الصغير «جمعو ريوسكم أدريات. راني كنت فشارع الزرقطوني وبانت لية العشيرة». وتقصد سيارة الأمن الوطني.

«ميرسي أحبيبة» كانت عبارة إحدى من وجهت إليهن المعلومة قبل أن تعرج على زقاق جانبي مثل ما فعلت أخريات، في ما لم تكثرت البقية، ومن بينهن نزهة، البالغة 32 سنة، التي بررت لامبالاتها بـ «هادشي ولفنا عليه. وإلى بقينا نتزراو كل مرة بكري طلّْعنا الورقة..»، مضيفة بنبرة الخبيرة «أنا بعدا كاع البوليس كيعرفوني. وعلى الرغم من إفادتها تلك التي حاولت من خلالها التأكيد على ما تمتلكه من ثقة في نفسها وهي تمارس مهنتها على جانب الشارع، إلا أنها كانت لا تتأخر بين الفينة والأخرى عن مسح المكان يمينا ويسارا بنظرات حذرة دون أن تغفل عن مداعبة شعرها والتأكد من كشف لباسها لأكثر ما يستر وخاصة صدرها الوافر.

وبقَسَمِها شددت على أنها كانت من خيرة الفتيات المستقيمات، غير أن الفقر عبَّد لها طريق هذا المصير، مجبرا إياها على تسليم جسدها لمن طلب طالما أن بقدرته تمكينها مما يسد رمقها ورمق ابنين في سن التمدرس. حاولت نزهة أن تنتقي عباراتها وتتعمد نطق بعضها باللغة العربية لتبين بطريقتها أنها على قدر من التعلم وتخطت عتبات المدارس «أنا قارية ووصلت حتى لإعدادي، ولكن ربي مابغاش نكمل كيف تمنيت ونصبح حتى أنا شي حاجة». فالتحقت بمعمل لصناعة الأقمصة، تتابع نزهة، وهناك تقرب مني «الشاف ديالي» لتتطور العلاقة إلى علاقة حب كان يغرقني خلالها بعبارات العشق ومستقبلي الذي سيكون معه أجمل مما أتصور، لكن وبمجرد أن بلغ مراده «شفتك ما شفتو»، لأجد نفسي في مواجهة مشكل يدري الجميع وقعه في أوساطنا الأسرية، إذ أصبحت محط كل علامات الاحتقار والإهانة، إلى أن التقيت يوما صديق سبب محنتي، وبعد أن حكيت له الواقعة مدني بـ 100 درهم على أساس ألا أتردد في الاتصال به كلما كنت في حاجة إلى أمر ما. ومع تراكم تبعات المسؤولية وتنكر عائلتي لي قصدته في لحظة معاناة ببيته، وبالفعل ساعدني بـ 200 درهم مقابل مشاركته الفراش. وكانت تلك المرة الأولى التي أتقاضى فيها أجرا ثمنا لتسليم جسدي، لتبدأ من هناك الحكاية التي أجهل كيف ستنتهي.

من سلاح الإغراء الشامل إلى حجز
الهواتف والكونطاك

حليمة، هي الأخرى لا يهمها، كما قالت، سوى أن تغنم من مغامراتها الليلية بـ «طرف ديال الخبز»، ملمحة إلى أن وضعها الأسري المتأزم سبب انحرافها «أسكن بحي عادل في الحي المحمدي داخل بيت يضم 5 إخوة عاطلين، وأب عاجز عن الحركة. في حين أن أمي متوفية قبل 8 سنوات»، وتستطرد هذه الشابة البالغة 29 سنة وهي تشعل سيجارة من عقب الأولى المنتهية، «تقدري تربحي في الصناعي 200 درهم في السيمانة»، وتقصد الحي الصناعي، لكن بالإمكان هنا أن تجني 500 إلى 1000 درهم في الليلة الواحدة. وهذا بطبيعة الحال، تستدرك حيلمة التي لا تنتظر السؤال لتتحدث، بعد اكتساب خبرة التعاطي مع هذا العالم، وكم من مرة «دازت عليا الدكاكة» وشحال من مرة «مشيت ورجعت غير مفرشخة». لكن اليوم أفرض شروطي وأحتفظ بكل الضمانات حتى لا أخدع وإن اضطرني الأمر إلى سرقة الكونطاك أوالهاتف النقال للمشكوك في جديته. وما إن لاحظت حليمة قدوم شابة شقراء بقوام ممشوق حتى قالت «شوف بحال هاذي ماخاصها حتى خير، دارهم لاباس عليهم في سطات ولكن جايا مزاحمانا». لتزيد وكأنها نسيت تفصيلا مهما في تعليقها «بحال هادو اللي كيفقصوك. لقاو كلشي فعائلاتهم واللي فيهم مامهنيهم. ماعرفت أش عاجبهم في حالنا». لتنهي بحسرة «حياتنا ليست سوى سير واجي إما في شارع يقصده المدير والبناي أو في مطاردة بوليسية إلى معندكش باش تفاصل على راسك».

الهاربات.. الممول الرسمي لشركة الدعارة المتنقلة

شارع أنفا لم يكن إلا بداية الحكاية التي تقتسمها معه مجموعة من النقاط الساخنة بمدينة الدار البيضاء. وأينما وليت وجهك بصدد شوارع من قبيل الزرقطوني ومحمد الخامس ومصطفى المعاني والكورنيش ومولاي يوسف وبيلفيدير ومحطة اولاد زيان و.. إلا وصدمتك مشاهد من نفس النوع مع بعض خصوصيات فئتي العرض والطلب. شابات لكل واحدة منهن قصة دفعتها للانضمام عنوة إلى قافلة عارضات الجسد، بيد أن، حسب ما رصدنا  القليل من محترفات دعارة الشارع بيضاويات والكثير منهن لاجئات من مدن أخرى وضواحيها، أو ما يصطلح عليهن في قاموس مقتحمي المجال والعارفين خباياه بـ «الهاربات». سلوى، البالغة 23 سنة، قدمت إلى الدار البيضاء وهي المنحدرة من مدينة خريبكة بعد أن افتضح أمر فقدانها شرف أنوثتها، ولم يعد لها مكان، حسب قولها، بين أفراد أسرتها الذين عُرفوا لسنوات طويلة بحسن السيرة ونبل الأخلاق «فكان خبر فقداني لبكارتي صاعقة حشدت الكل للانتقام مني، إلى درجة نجوت معها من موت محقق في العديد من المناسبات. وخاصة تلك التي كان يتحينها أخي الأكبر للإساءة بي».

وتردف الشابة التي التقيناها بشارع بوردو أن مجرد الرغبة في الإفلات من جحيم الجو الذي صارت تعيشه بعد الواقعة كان دافعا لمغادرتها المدينة الأم، لكن وأمام استحالة تدبير مصاريف الكراء والأكل واللباس جرتها إلى احتراف شتى أنواع الرذيلة، ولو أنها تشتغل نهارا نادلة بمقهى في منطقة سيدي معروف «تصور أن ما أتقاضاه من رب المقهى لا يتعدى 500 درهم كل نصف شهر، وثمن كراء غرفة فقط يكلفني 700 درهم. فكيف لي إذن أن أدبر باقي المبلغ دون اللجوء إلى عمل الليل». على الرغم من أن الأخير، تُشَبِّه سلوى التي كانت ترتدي قميصا شفافا وبشعر أسود ينسدل على الكتفين وملامح تكاد تختفي خلف طبقة سميكة من الماكياج، (تشبه الأخير) بالتيرسي فقد يكون ربحة وإما ذبحة، في إشارة إلى المخاطر التي تتهددها، والتي تجرعتها الكثير من العاهرات خاصة الغريبات عن المدينة، واللاتي تفضحهن لكنتهن أمام الزبائن. أما هاجس الخوف من ضربة طائشة لمخمور أو التعرض لقذف وسب دون سبب والارتعاش من رؤية دورية بوليسية، فتلك ثوابت صارت من المؤثتات اليومية لليالي أيامنا. تختم سلوى.

خريطة مصب منابع بغاء الشارع

حي بوركون: قريبا من شارع العنق حيث شقق متاخمة لمسجد الحسن الثاني معدة لليالي الملاح
شارع أنفا: شقق مجاورة لأحد الفنادق. التفاوض في شأنها بيد حراس ليليين ومقابل الليلية الواحدة في حدود 1000 درهم
الألفة: عمارات في إطار مجمع سكني بها شقق مفروشة بـ 4000 للشهر. في ما الليلة الواحدة بـ 500 درهم
المعاريف: قرب مركب تجاري معروف. شقق مجهزة بأثاث ومكيفات وأجهزة إلكترونية. أمر الوساطة للاستفادة من خدماتها موكول لحارس السيارات
بيلفيدير: قريبا من محطة القطار. إذ شقق مجهزة تعود لامرأة نافذة تدعى الحاجة
أحياء شعبية: سواء في حي السلامة أو مولاي رشيد أو مبروكة أو لالة مريم وغيرها، حيث يسهل كراء شقق مفروشة لشهر أو أكثر. بمبلغ يتراوح ما بين 2000 و3000 درهم.

العدد536 من أسبوعية "الوطن الآن"









0 تعليق ل دعارة الشارع بالبيضاء.. حكاية بئيسَات على رصيف الشوارع الراقية

أضف تعليق


البحث في الأرشيف

البحث بالتاريخ
البحث بالصنيفات
البحث في الموقع

البوم : صور