"كُـوري" بشري إسمه مركز تيط مليل.. هكذا تعيش مريضات نفسياً ومسناًت ومعاقات في جناح واحد وأخريات في أجنحة خمس نجوم
زنقة 20
وصف المركز بـ«الكوري» لا يعني أبدا الحط من النزلاء، لكنه الوصف الأنسب للظروف التي يعيش فيها أشخاص تخلى عنهم المجتمع وأوتهم جدران المركز الذي لا تتوفر فيه أدنى شروط العيش الكريم. أوساخ وروائح نتنة: معاملة سيئة وظروف إيواء تفتقد لأبسط شروط الحياة الإنسانية: معاقون يتعايشون مع المسنين والمرضى النفسيين في نفس المكان، وأجنحة تضم بين ثناياها جميع الفئات العمرية. إنها الظروف التي يعيش فيها نزلاء مركز الرعاية الاجتماعية بتيط مليل، والذين مازالوا يعانون في صمت من تردي الأوضاع بأجنحة المركز، برغم المجهودات الكبيرة التي تبذلها الإدارة الحالية، من أجل تحسين ظروف العيش داخله.
ظروف لا إنسانية صعبة، إلا أن النزلاء الذين يرفعون شعار « حتى مش ما يهرب من دار العرس» لا يجدون إلا القبول بها في غياب من يتكفل بهم، وفي ظل الصمت المميت للمسؤولين، عن وضع المركز والتجاوزات التي تحصل داخله.
بوابة حديدية أنيقة يحرسها طاقم من رجال الأمن الخاص، أشجار ونباتات تتناثر هنا وهناك، تمنح المكان لونا أخضر يريح الناظرين. بنايات متفاوتة المساحة، يكسوها الأبيض والوردي، زينت مداخلها بـ«قرمود» أخضر اللون.
جمالية لا تخطئها العين، وهدوء لا تكسره سوى صيحات شغب طفولي، يبعث الحياة بالمكان. ولوهلة تخطئ التقدير، معتقدا أنك تلج مركبا سياحيا. لكن خلف الجدران الوردية لا وجود لأحلام وردية. كوابيس وآلام ودموع، تختفي خلف بوابة وجدران مركز الرعاية الاجتماعية تيط مليل، بضواحي مدينة الدار البيضاء.
بعد أن يستقبلك حارس الأمن الخاص، يفتح لك البوابة ويتعرف على هدف الزيارة ويمنحك تأشيرة العبور إلى داخل المركز. تبدو الأمور عادية وهادئة. قبل أن يتم استقبالك في الإدارة، وتقدم لك كل المعلومات المطلوبة بسلاسة كبيرة، يكون بعض نزلاء المركز سباقين لاستقبالك مكسرين ذلك الهدوء، وهم يمدون أيديهم إليك استجداءا للزائر المجهول.
تسول داخل الأجنحة وخارجها
« خويا دور معايا بغيت نشري السكر وأتاي ضرني راسي»، تقول إحدى النزيلات التي كانت تجلس بأحد الكراسي تحت أشعة شمس الظهيرة. كانت ترتدي ملابسها بشكل فوضوي وغير متناسق. تلبس سروالا طويلا أسود وفوقه تنورة زرقاء قصيرة، وتكتفي بارتداء «تريكو» مخطط.
ببشرتها السمراء التي لفحتها أشعة الشمس وشعرها القصير الذي قص بشكل غير متناسق، كانت تتبع كل قادم جديد وتحاصره محاولة تسول بعض الدريهمات القليلة، علها تستطيع توفير بعض احتياجاتها داخل المركز.
هي ليست الوحيدة التي تتسول القادمين الجدد، فأغلب نزلاء المركز من المتسولين الذين التقطتهم دوريات المساعدة الاجتماعية من الشارع لم ينسوا المهنة التي يمارسونها منذ سنوات في الشارع، ولم يتخلوا عنها حتى بعد ولوجهم لمركز تيط مليل واستفادتهم من خدماته.
لا يخلو جناح من أجنحة المركز الاجتماعي تيط مليل من الأشخاص الذين يستغلون أي فرصة لمد أيديهم لكل زائر جديد، يستجدون بعض الدراهم، وهو الشيء الذي يدل على ارتباطهم بمهنتهم الأصلية، التي تم انتشالهم منها وهم في الشارع، لأن أغلب النزلاء من المتسولين والمشردين.
ما يكرس هذا الوضع حسب المساعد الاجتماعي للمركز هو إصرار بعض المحسنين على توزيع النقود بشكل مباشر على المستفيدين، وهو الأمر الذي كرس في دواخلهم أن كل زائر هو محسن يرغب في توزيع المال عليهم فيتسابقون ليأخذوا حصصهم من المساعدات المادية.
مريضات نفسيا ومسنات ومعاقات في جناح واحد
غادرنا باب الإدارة واتجهنا رفقة أحد المساعدين الاجتماعيين صوب الجناح رقم 4 الذي طلبنا الاطلاع على حالته، ووضعية المستفيدات داخله .كانت المساحات الخضراء المحيطة بالجناح مليئة عن آخرها بملابس النزيلات، وأسرتهم التي وضعوها قبالة الشمس علها تزيل عنها بعضا من الروائح النتنة العالقة بها.
مع ولوجنا إلى الجناح بدت الأمور عادية بعض الشيء فالمكان تم تنظيفه للتو وآثار المياه مازالت على أرضية البهو، نساء افترشن الأرض طلبا لبعض الدفء من أشعة الشمس بعد أن تجمدت أطرافهن من شدة برد الشتاء القارس، إلا أن تنظيف المكان لم يمنع الروائح النتنة من الانبعاث منه، خاصة من المكان الذي تجلس فيه جميع النزيلات، والذي كانت تفوح منه رائحة التغوط، والبول نتيجة قضاء بعض النزيلات من المسنات أو المريضات نفسيا لحاجياتهن بعين المكان لعدم قدرتهن على التنقل إلى المرحاض، أو لبقاء الحفاظات عليهن لوقت طويل، مما جعل المكان تفوح منه رائحة تزكم الأنوف قبل الولوج إليه.
الجناح يجمع بين المريضات نفسيا والمسنات والنساء من ذوي الاحتياجات الخاصة، والذي تنقل إليه النساء من الجناح رقم 6 الخاص بالمريضات نفسيا وعقليا، بعد أن تتحسن حالتهن قليلا ليتم إدماجهن مع النساء العاديات، ويعتبر المساعد الاجتماعي أن المريض مادام يتناول دواءه في الوقت فإنه لا يشكل خطرا على باقي النزلاء الطبيعيين.
وعن الخلط بين المسنات والمريضات نفسيا والنزيلات من ذوي الاحتياجات الخاصة ،يضيف المساعد، أن النزيلة إذا تجاوزت خمس سنوات في المركز فإنها تربط علاقات خاصة مع بعض النزيلات، لذلك يصعب نقلها إلى جناح آخر أو إبعادها عن النزيلات التي أصبحت تربطها بهن علاقات وطيدة.
«ملي جيت لهنا ..بحالي معنديش العائلة»
إحدى نزيلات الجناح تعاني من إعاقة جسدية على مستوى رجليها، كانت تتكئ على سريرها في ركن قصي في الغرفة بعيدا عن هرج باقي النزيلات، كانت تخفي وراء ابتسامتها حزنا عميقا بدا واضحا في نظرات عينيها، اللتين اغرورقتا بالدموع بمجرد التوجه إليها بالسؤال عن سبب لجوئها الإرادي للعيش في مركز الرعاية الاجتماعية.
لم تكن مريضة نفسيا وإنما تخلى أهلها عنها هو الذي قادها إلى مركز الرعاية الاجتماعية تيط مليل، قدمت من مكناس إلى الدار البيضاء بحثا عن مركز يستقبل الأشخاص من ذوي الاحتياجات الخاصة، بعد أن رفض إخوتها وأهلها رعايتها، وقبول التكفل بمصاريفها.
عندما لم تجد مركزا خاصا باستقبال الأشخاص من ذوي الاحتياجات الخاصة المتخلى عنهم من طرف ذويهم، لجأت إلى أحد ممثلي السلطة طالبة منه توجيهها إلى أي مركز يقدم لها الإيواء، وينقذها من التشرد في الشارع والاحتياج للغير.
سابقت الدموع كلماتها، التي اختنقت داخل جوفها، لتكف عن الحديث تاركة المجال لدموعها التي قالت الكثير في صمت، ودون أن تنبس ببنت شفة، عن نكران ذوي القربى، ومعاناة تجاوزت حدود الجسد لتتحول إلى نيران تشتعل في قلبها كلما تم سؤالها عن ذويها، لتكون إجابتها «ملي جيت لهنا بحالي معنديش العائلة».
حاول المساعد الاجتماعي تهدئتها وطمأنتها، بأن الأمور ستتحسن في المركز في قادم الأيام بفضل مجهودات الإدارة الجديدة التي تحاول تحسين جودة الخدمات بالمركز.
روائح نتنة وأوساخ وظروف إيواء مزرية بجناح الفرز
غادرنا جناح النساء وتوجهنا صوب جناح الفرز الخاص بالرجال، الذي تنبعث منه على بعد أمتار من باب الدخول إليه رائحة البول التي تزكم الأنوف ويصعب تحملها. جناح يختلف عن باقي الأجنحة الأخرى بكون أبوابه مفتوحة وبإمكان المستفيدين به أن يدخلوا ويخرجوا منه كيفما شاؤوا.
أول ما يثير الداخل إليه هو الحالة المزرية التي عليها الجناح، الذي تعرف حيطانه جميع أنواع الأوساخ بعد أن بهت لون صباغتها، وأصبحت أسرتها بالية ومتسخة، لا يوجد هنا مكان لأغطية جيدة، كل شيء بال ولا يصلح للاستعمال الآدمي.
على أرضية بهو الجناح انتشرت الأوساخ في كل مكان، كما توزع الرجال والشباب الذين تحمل وجوههم علامات البؤس والفقر، وعدم الاهتمام على الأرض طلبا لبعض الدفء من أشعة الشمس. رجال بملابس رثة ومتسخة ووجوه مكفهرة وأظافر طويلة تحمل مختلف أنواع الأوساخ. بعض الأقدام كانت حافية فيما أخرى كانت ترتدي «صنادل» مختلفة.
جناح الفرز يجمع بين جميع الفئات العمرية من شباب ومسنين، ومرضى نفسيين وعقليين، يعلل دائما المساعد الاجتماعي الجمع بينهم بمساعدة الشباب للمسنين على قضاء حاجياتهم، بالرغم من وجود مستفيدين تم إدماجهم ويقبضون رواتب من أجل الإشراف على راحة النزلاء وتقديم يد العون لهم.
كان مستلقيا على أحد الأسرة بالقرب من مدخل الغرفة، قدم من بولمان رفقة زوجته وأولاده إلا أن الأقدار وكثرة المشاكل بينهما شاءت أن يطلقها لتحتفظ بأبنائها الثلاثة في حضانتها. انفصل عن أسرته واكترى غرفة بمفرده وبدأ يتردد على «المارشي» طلبا للشغل، وتوفير مصاريفه، بعد أن قضى ثماني سنوات من عمره في الجيش، ويغادره بعد ذلك ليتنقل بين عدة مهن.
تقدمه في السن جعل جسده ضعيفا وهنا وغير قادر على العمل كما كان عليه في السابق، وفراقه لزوجته ولأبنائه الذين لا يسألون عنه إلا عندما يحتاجون للمال، جعله يتجنب اللجوء إليهم في الأزمة التي ألمت به، في خريف العمر عندما لم يعد قادرا على العمل وكسب قوت يومه، وبالرغم من وجود أخته بأحد أحياء درب السلطان إلا أنه فضل اللجوء إلى مركز تيط مليل بدل اللجوء إليها.
«اللهم هنا ولا نمشي نتلاوح بين الديور»يقول الرجل الذي يرفض التخلي عن كرامته، وطرق أبواب أفراد عائلته الذين قد يستقبلونه وقد يرفضون ذلك، وتجنبا للإحراج رضي بالعيش في المركز برغم الوضع الذي عاش فيه لأيام والظروف المزرية التي عليها الجناح، إلا أنه يبقى أفضل من العيش في الشارع، في كثير من الأحيان، خاصة بعد أن تنكر له أبناؤه.
فشل في الإدماج الأسري وعدم القدرة على السيطرة على النزلاء
كان متكئا على أحد الأسرة، مكوما على نفسه، لا يظهر منه شيء، طلبا لبعض الدفء، الذي ربما لم يكن الغطاء البالي الذي يضعه عليه كافيا لبعث الحرارة في أطرافه التي تصلبت بفعل البرد، توجه إليه المساعد الاجتماعي بالحديث، فأخرج رأسه من تحت الغطاء.
اسمه «محمد» حاول المسؤولون بالمركز إدماجه بوسطه الأسري بمراكش مرات متعددة، إلا أنه لا ينفك يذهب حتى يعود مرة أخرى إلى المركز، وقد يذهب ويعود لأربع مرات في الأسبوع، مما جعل المساعد الاجتماعي يقرر وضعه مع النزلاء في جناح الفرز في انتظار استقراره على رأي، إما البقاء في المركز ليتم توزيعه على جناح آخر أو مغادرته بصفة نهائية.
مرور بسيط بين أسرة غرف الجناح يكشف الكثير من الأشياء التي يمكن أن تشكل خطرا كبيرا على نزلاء الجناح، الذي يجمع بين المرضى النفسيين والأشخاص الأسوياء، فبعض النزلاء يضعون بالقرب من أسرتهم أشياء قد تكون مؤذية بالنسبة للآخرين.
في غرفة أخرى اختلطت فيها روائح البول بالعرق والأقدام برائحة السجائر فاستحالت رائحة لا تطاق، رائحة تكون أول من يستقبل الداخل إلى الغرفة، كان داخلها مجموعة من الرجال مستلقين فوق أسرتهم منهم من يغط في نوم عميق ومنهم من يستلقي طلبا للراحة.
الملفت للنظر داخل الغرفة هو وجود بعض بقايا علب السردين بالقرب من أحد الأسرة، تناول صاحبها محتواها، واحتفظ بالعلبة لاستخدامها في وضع مخلفات سجائره فيها، وهو الأمر الذي يشكل خطرا على باقي المستفيدين خاصة منهم المرضى نفسيا وعقليا الموجودين بالجناح.
سؤال توجهنا به إلى المساعد الاجتماعي الذي أكد أن المستفيد يتعامل وكأنه في بيته وهناك بعض الأمور الاختيارية التي يقوم بها والتي لا يمكن منعه منها، فهناك بعض المستفيدين الذين يرفضون تناول مطعم المركز لذلك يلجأ إلى شراء ما يحب من الخارج، لكن في غياب التحسيس يمكن أن تصبح هذه الأشياء خطرة على الآخرين.
تيط مليل مركز لإيواء من يرفضهم المجتمع والمراكز الأخرى
هو من الأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة تم تحويله إلى المركز قبل سنوات من جمعية حماية الطفولة لالة حسناء رفقة أربعة أطفال آخرين أيضا من ذوي الاحتياجات الخاصة، ماتوا جميعهم بعد مدة من استقرارهم بمركز تيط مليل، ولم يبق منهم إلا هو، تم تحويلهم إلى المركز بعد أن حدث تغيير بإدارة جمعية لالة حسناء لحماية الطفولة، فتم التخلص من الأطفال الخمسة، بإحالتهم إلى مركز تيط مليل.
«تيط مليل كيشد أي حالة رفضت من طرف المراكز الأخرى» يقول المساعد الاجتماعي للمركز، في إشارة لكون المركز يستقبل كل الحالات التي لفظها المجتمع، وعجز عن توفير الرعاية الكافية لها، لكونه غير متخصص ويقبل بجميع الفئات الاجتماعية حتى وإن لم تكن تتوفر على الوسائل والكفاءات البشرية المهيأة للقيام بهذا العمل على أكمل وجه.
«كاينين جوج ديال المراكز في المغرب كيشدو الحالات بلا شروط تيط مليل ومركز عين عتيق»، يضيف هشام ،لأن جميع المراكز الأخرى تعرف بتخصصها، ولا تقبل استقبال الحالات إلا بشروط معينة، يتم احترامها كالتوفر على البطاقة الوطنية وأن يتجاوز سن المستفيد 62 سنة وأن يكون في حالة طبيعية، وهذه الشروط إذا توفرت فلماذا سيلجأ الشخص إلى مركز للرعاية الاجتماعية، يتساءل هشام.
فدوريات المساعدة الاجتماعية التابعة للعمالات تقوم بالتقاط المشردين والمتسولين والمنحرفين من الشارع، وتتوجه بهم نحو مركز تيط مليل، الذي يضم بين طياته جميع هذه الفئات، لحمايتهم من البرد والتشرد، دون أن تتدخل الجهات المعنية لتأهيل هؤلاء الأشخاص أو توفير الظروف المناسبة لهم للعيش في ظروف أفضل.
خاصة أن 28 في المائة من نزلاء المركز من المرضى النفسيين، الذين كانوا يعيشون بالشارع، والذين يحملون معهم إلى المركز جميع أنواع الممارسات التي كانت تمارس عليهم أو يمارسونها هم أنفسهم في الشارع، مما يجعل مهمة المساعدين الاجتماعيين صعبة جدا.
أجنحة خمس نجوم بمركز تيط مليل
المرور البسيط بين مختلف أجنحة مركز الرعاية الاجتماعية تيط مليل يظهر بجلاء الاختلاف الكبير والفرق الشاسع بين بعض الأجنة التي تصنف في خانة الخمس نجوم والتي يسكنها أشخاص، يتوفرون على جميع متطلبات العيش الكريم.
بهو نظيف تنتشر في جنباته بعض الكراسي والطاولات البلاستيكية، التي قد تحتاجها النزيلات للجلوس والاستمتاع بأشعة الشمس.
داخل غرف الجناح رقم 8 يظهر الفرق جليا، جدران نظيفة، وأسرة مرتبة وأغطية جميلة ودافئة، بالإضافة إلى وجود تلفاز من نوع «lcd» ولاقط قنوات، بالقرب من كل سرير توجد طاولة صغيرة تضع عليها كل نزيلة أشياءها الخاصة، وأوانيها التي تعد بها أكلها الخاص، وبعض المواد الأساسية لإعداد المشروبات والأكل، لأن أغلب نزيلات هذا الجناح يرفضن تناول وجبات المركز.
نزيلات الجناح رقم 8 يرتدين ملابس نظيفة ومتناسقة، وتبدو عليهن العناية بأنفسهن، من خلال جمال بشرتهن، وهيأتهن الخارجية، بالرغم من كون كل واحدة منهن تحمل حكاية مختلفة، جعلتها تختبئ خلف جدران المركز، طلبا لاستقرار مؤقت، كما هو الأمر بالنسبة لسعيدة التي كانت موظفة في إحدى الشركات الكبرى وكانت تتقاضى أجرا كبيرا لقاء عملها.
قامت سعيدة ببناء بيت لها خارج مدينة الدار البيضاء في إحدى القرى، نظرا لكونها تعاني من مرض في التنفس يمنعها من الإقامة بالدار البيضاء، توقفت سعيدة عن العمل، وأصبحت في حاجة للمال، وفي انتظار بيع إرث والديها، فضلت الاستقرار بمركز تيط مليل، بدل التنقل بين منازل أخواتها، تجنبا للمشاكل التي يمكن أن تخلق لهم بسببها.
سعيدة غير راضية على وضعية المركز، والمعاملة التي تعامل بها النزيلات من طرف المستفيدات اللواتي تم إدماجهن، واللواتي لا يتوفرن على أي مؤهل تعليمي يمكنهن من التعامل بشكل أفضل مع نزيلات المركز.
تخلي وغياب الرعاية لأطفال من ذوي الاحتياجات الخاصة يحتاج الأطفال لعناية خاصة، ومعاملة جيدة من أشخاص مؤهلين تربويا للقيام بهذه المهمة، لكن بمركز تيط مليل يوجد خمسة أطفال بجناح خاص بالأطفال، تشرف عليه امرأة عادية كانت من نزيلات المركز سابقا قبل أن يتم إدماجها.
الأطفال نزلاء مركز تيط مليل من ذوي الاحتياجات الخاصة، ويعانون من إعاقات ذهنية وجسدية، بعضهم لا يستطيع الحركة، لذلك يسود هذا الجناح الصمت المطبق، لقلة نزلاء هذا الجناح وعدم قدرتهم على ممارسة حياتهم بشكل طبيعي.
كان هناك طفلان في بهو الجناح أحدهما يجلس فوق «مضربة» فيما كان الآخر يغط في نوم عميق على حصير ويلتحف غطاءا باليا، في هذه الأثناء دخل من باب آخر طفل معاق ذهنيا يلبس سروالا رياضيا، تظهر عليه آثار البول، لم يكن مدركا لما يقع حوله.
إنه شفيق طفل معاق ذهنيا، يبلغ من العمر ستة عشر عاما. تخلت عنه والدته، المطلقة من والده ورمته في الشارع، بعد أن استقل كل واحد منهما بحياته ليبقى شفيق عرضة للشارع، بعد أن رفض والده ووالدته استقباله بالبيت.
تم استقبال شفيق في مركز الرعاية الاجتماعية بتيط مليل، بعد أن وجدته وحدات المساعدة الاجتماعية بالشارع، ليتم فيما بعد المناداة على والدته، التي أخذته معها إلى البيت، لكن بعد ذلك أعادته للشارع من جديد.
قامت إدارة المركز بالاتصال بالأم من جديد لاستقبال ابنها ببيتها، والاهتمام به، في إطار الإدماج الأسري، إلا أنها رفضت، مفضلة التخلي عنه إلى الأبد، وتركه بين أيدي من في المركز، بسبب إعاقته الذهنية.
غياب الأطر المؤهلة ومستفيدون مدمجون يعنفون النزلاء
أول ما يثير الانتباه في أجنحة المرضى العقليين رجالا ونساءا هو وجود أقفال وسلاسل على الأبواب، مفاتيحها لا توجد إلا مع المستفيدين، الذين تم إدماجهم للاشتغال في المركز في حراسة النزلاء وقضاء حاجياتهم بالرغم من عدم استفادتهم من أي تكوين يؤهلهم للقيام بهذه المهمة. حتى الإدارة ليس لديها نسخة من مفاتيح الأجنحة للتدخل في حال وجود أي طارئ.
أطلت بعينيها السوداوين من خلف البوابة المحكمة الإقفال بقفل كبير، تحمل على صدرها مجموعة كبيرة من المفاتيح، إنها نزيلة بجناح المريضات عقليا، تقوم مقام المرأة التي أوكلت إليها حراسة النزيلات بالجناح، والتي كانت غائبة عن الجناح لحظة وصولنا.
«آش باغيين تصوروا هنا هادوا راه غير مصطيين معندكم ما تصوروا من وراهم» أول عبارة تفوهت بها المستفيدة التي كانت مريضة نفسيا ،قبل أن تتزوج من مريض نفسي وتستقر بالمركز وتوكل إليها مهمة حراسة الجناح، مقابل راتب شهري. رفضت السماح لنا بالولوج إلى داخل الجناح.
داخل الجناح كانت إحدى المريضات عقليا تقوم بقلي البيض وأخرى تحضر القهوة. كان هناك مطبخ صغير في مدخل الجناح يحتوي على أواني وآلات حادة، ما إن ولجنا إلى البهو حتى بدأت في الصراخ على النزيلات المريضات نفسيا وعقليا «نوضي لبسي صندالتك، نوضي انتي من الضس، حيدي انتي من هنا».
لم تكترث حارسة الجناح لوجودنا ولم تلين من طريقة تعاملها مع المريضات، وإنما تمادت في سلوكاتها وصراخها حتى داخل قاعة الجلوس« نوضي انتي جلسي فوق السداري»، تقول وهي تجر امرأة مسنة وتدفعها للجلوس أعلى «السداري».
ما يحصل بجناح المريضات عقليا يقاس عليه ما يعانيه المرضى العقليون أيضا، الذين يتم احتجازهم داخل الجناح دون وجود أي عناية خاصة بهم، بإحدى غرف جناح المرضى العقليين والنفسيين، كان متكئا على السرير أمام التلفاز يدخن سيجارته، ويشرب شايه وهو يشاهد التلفاز، لم يكلف نفسه عناء فتح بوابة الجناح للمساعد الاجتماعي الذي كان يرافقنا.
اكتفى بمنح المفاتيح لأحد المستفيدين المريض عقليا أيضا، ليفتح باب الجناح لنا، هذا الأخير احتضن مرضى نفسيين وحالات من المرضى العقليين والمدمنين في حالة خطيرة، لا يسيطرون عليهم إلا بالأدوية، هذا الوضع أثار العديد من الاستفسارات حول كيفية تسليم جناح بكامله لشخص كان مريضا نفسيا.
«هادي من المشاكل اللي خلفاتها لينا الإدارة السابقة واللي كتشكل عائق لينا» يقول المساعد الاجتماعي، معترفا أن من بين المشاكل التي تعيق تحسين ظروف العيش داخل المركز، هي وجود هذه الفئة من المستفيدين الذين تم إدماجهم للعمل بالمركز في ظل الإدارة السابقة بالرغم من عدم توفرهم على الكفاءة والتكوين اللازم للقيام بهذه المهمة.
وجود مساعدين اجتماعيين فقط بالمركز، وغياب الكفاءات المؤهلة للقيام بالمساعدة الاجتماعية يجعلان الإدارة عاجزة عن إيجاد الحلول لهؤلاء المستفيدين الذين يفرضون سلطتهم على النزلاء والمرضى، ويستفيدون داخل المركز بشكل كبير، حيث يتوفرون على مساكن لهم ولأسرهم داخل مركز تيط مليل، وهو ما سيكون سببا في العديد من المشاكل مستقبلا. خاصة من طرف أبناء المستفيدين المدمجين للعمل في المركز، والذين يعتبرون أن المركز ملكية لهم، ولا يعترفون بسلطة الإدارة عليه.
مجيدة أبوالخيرات لـ"الأحداث المغربية".