قصة عمر "نص بلاصة".. بائع البيض الذي تحول إلى أسطورة في عالم المال والأعمال بدعم من الحسن الثاني
زنقة 20
منذ أن انسحب اليهود من المشهد التجاري في المغرب، تقاسم الأمازيغ وأهل فاس الريادة الاقتصادية، وبدا وكأنهما يوزعان الأدوار، حيث اشتغل الطرف الأول في مجال التجارة بالتقسيط قبل أن يقتحم عالم المقاولة، لاسيما في مجال النقل والصناعات الغذائية على غرار مول أتاي وأيت امزال وعابد وبوفتاس وأكوزال وأكورام وأبا عقيل والتيسير وأيت منا والصويري وصولا إلى أخنوش.
أما الفاسيون فاهتموا بصناعة النسيج والجلد والبناء، فيما اختار أهل الريف التجارة قبل أن تصبح الهجرة إلى الخارج طقسا من طقوس حياتهم.
لكن القاسم المشترك بين الفئتين ونقطة الالتقاء هي الدار البيضاء، إذ نادرا ما نعثر على سوسي اختار الاستقرار في فاس، أو فاسي يمارس تجارته في سوس، وكأن الأدوار وزعت بشكل مدروس.
تقول الدراسات التي لامست قضايا الهجرات الداخلية، إن الأب أو رب الأسرة هو المنارة التي يهتدي إليها المهاجرون، فأينما استقر به المقام يستقطب أبناءه وأفراد عشيرته. وأرجع كتاب «واتربوري» هذه الظاهرة إلى نوع من «العادة التي استقرت وسط العائلة السوسية، فأينما ذهب الأب يتبعه الأبناء وأفراد العائلة. إن الطفل الصغير الذي يبدأ حياته العملية كمساعد في متجر يندمج على مرور السنين في دواليب المهنة والوسط، ويستعد للحصول على مكانته في سن الرشد، ومن الأسباب والعوامل التي تسهل هذا المنحى ـ الذي يكاد يكون عاما ـ أن المقاولة السوسية ترتكز بالأساس على العلاقات العائلية وعلى التمويل الأسري ونادرا ما تلجأ إلى الغير».
لكن الحس التجاري ينمو مع أبناء مناطق سوس وحاحا وفاس وجبالة، رغم الاختلاف الحاصل في طبيعة النشاط التجاري، بل إن بعض العائلات اختارت التحالف عبر مؤسسة الزواج بالرغم من التنافر القبلي، مما عزز حضورها على الساحة الاقتصادية.
يبدأ الأمازيغي مساره بالتجوال بحثا عن الاستقرار بينما ينشد الفاسي الاستقرار بالتجوال، فيقتحم عوالم خارجية، بل إن هذه الفئة لا تتردد في ركوب مركب السياسة للإبحار نحو عوالم أخرى، فيما يتردد «غريمه» في نيل صفة رجل سياسة، لأنه يعتبرها عنصرا مبطلا للقول الأمازيغي المأثور «أغراس أغراس»، رغم وجود أسماء أمازيغية اختارت السياسة رغم علامات التشوير والحذر التي ترفعها القبيلة في وجه كل من داهمه عشق السياسة، كما هو الشأن عند عبد الله إبراهيم والفقيه البصري وبنسعيد أيت إيدر وبوفتاس وغيرهم، في زمن سيطر فيه أهل فاس على حزب الاستقلال، دون أن ينتبهوا إلى أبواب غرف التجارة والصناعة والفلاحة التي ظلت مفتوحة في وجه خصومهم التقليديين في عالم المال والأعمال.
هناك إجماع على وجود علاقة وجدانية بين الأمازيغ خاصة «أهل سوس» والثروة، إذ تحول أبناء الدواوير الذين كانوا يركضون حفاة، في ظرف وجيز إلى رؤساء مجالس إدارات ومسؤولين عن شركات كبرى، وانتقلوا، على حد قول محمد جامع أستاذ التاريخ في جامعة القاضي عياض بمراكش، «من دور التاجر الوسيط إلى دور المنتج والمستورد والموزع. وبفضل قدراتهم على التكيف».
في ظل سجال المال والأعمال، وحركية السلطة والنفوذ، سطع اسم عمر التيسير الذي بنى كثيرا من الطرق التي نسير عليها، وأنشأ مرافق كبرى في زمن كان فيه من الصعب على شركة مغربية إبرام صفقات تتعلق بالأشغال الكبرى كالطرق والقناطر والسدود والمساجد والمركبات الرياضية.
ارتفعت أسهم عمر في عالم يتنفس هواء المنافسة، عالم لا يخلو من مكائد الرأسماليين، عالم يمشي فيه التيسير على الحبل وهو يعي صعوبة المسار العسير، نحو الشهرة والجاه. لكن الرجل وخلافا لكثير من رفاق دربه، كان يفضل السير بجانب الحائط، في زمن لا يمكن أن «تملك فيه أموالا وخيرات كثيرة وتسير بجانب الحائط، فإذا اغتنيت فإنك تدخل إلى الدائرة التي قد تضيق عليك»، فسوس العالمة تحولت مع مرور الزمن إلى سوس التاجرة، بل إن مدن تيزنيت وتافراوت وغيرهما من حواضر المنطقة تحولتا إلى مناطق لإنتاج الوجاهة المالية بالخصوص، بل إن بعض العائلات أرسلت أبناءها إلى الخارج لتلقي العلم في أكبر المدارس والمعاهد، فتغيرت النظرة «الاستصغارية» التي كان ينظر بها الآخر للسوسي.
صحيح أن الصعود إلى قمة هرم عالم المال والأعمال، يتطلب الحصول على صفقات ذات الدفع العالي، وعلاقة بالقصر والحكومة، أو كما قال رجل الأعمال المغربي كريم التازي، «الفئات الثرية تمت مساعدتها من طرف النظام لكي تكبر وتنمي ثروتها». لكن عمر التيسير شكل الاستثناء لأنه لم يكن مسنودا من أي جهة سياسية أو اقتصادية، سوى الجهد والتفاني والإخلاص. بل إنه ظل بعيدا عن حفلات زفاف المال بالسياسة، منهمكا في تفقد مشاريعه التي عمت البلاد في مغرب ما بعد الاستقلال، مكتفيا بالانتماء إلى بورجوازية «وطنية» ليست لها امتدادات في شجرة العائلة، لأنه انطلق من نقطة تحت الصفر، ليصبح فوق الجميع.
يسجل التاريخ لعمر اغتناءه بطرق شرعية، بفضل رهانه على قطاعات مدرة للمال، خاصة في فترة كان فيها المغرب في طور البناء، وكانت عملية إحصاء الأثرياء مستحيلة، لأن المندوبية السامية للتخطيط تجد سهولة في إحصاء الفقراء لكنها تعجز عن تقديم أرقام صحيحة حول الأغنياء.
لقد وجد عمر نفسه في مواجهة الحياة وعمره لا يتجاوز 12 سنة، كان مجبرا على إعالة أسرته في ما يشبه المعادلة المعكوسة، فاختار تجارة البيض بالتقسيط قبل أن يتحول إلى أكبر «طاشرون» في المغرب.
لم يكتب للرجل أن يحضر حفلات تدشين كثير من الأوراش التي فتحها، وغادر الحياة الدنيا كما دخلها، مات الرجل في 26 ماي 1979 بأحد مستشفيات مدينة مارسيليا، لكن ثروته لم تجد نسخة طبق الأصل من الوالد كي تصبح لها امتدادات في تاريخ الاقتصاد الوطني، رغم أن أبناءه الثلاثة لم يوزعوا الكعكة، وفضلوا أن يظل اسم الوالد حاضرا ولو في إطار جمعية للأعمال الخيرية تحمل اسمه.
في أحد دواوير تمنار، «حاضرة» منطقة حاحا وعاصمة الأركان، ولد عمر التيسير، في هذا الربع من المملكة واجه الفتى قسوة الحياة وقسوة الطبيعة أيضا، لكنه تسلح بالتحدي وقرر القفز فوق كل الحواجز الطبيعية والبشرية، ليصنع لنفسه شخصية ملقحة ضد الإحباط، الذي يظهر ويختفي في مغرب صنفه الاحتلال الفرنسي في خانة المغرب غير النافع.
ولأن عمر ولد وفي فمه عبارة «أغراس أغراس»، فإنه شمر مبكرا على ساعد الجد، وقرر خوض معاركه مع كسرة الخبز وعمره لا يتعدى 12 سنة. كان يعرف أن مشوار الألف ميل يبدأ بالخطوة الواحدة، فقرر أن يبدأ مساره بالقفز لا بالمشي، سلاحه الطموح وفكر يقظ وذكاء خارق، استعان به لاختراق عالم رجال الأعمال من خم الدجاج.
بدأ عمر حياته في عالم «البيزنيس» بفكرة جهنمية، أعفى من خلالها نساء دواوير تمنار من التنقل إلى السوق، إذ كان يشتري منهن ما جمعنه من بيض، دون أن يسلمهن مقابل البضاعة، لكن الفتى كانت عملته «الكلمة» فأسس علاقة ثقة مع محيطه، وحين يبيع البيض يسلم لمزوديه ما بذمته. هكذا نال الفتى شهرة في منطقة حاحا وأصبح موردا لرزق الكثير من الأسر، مما شجعه على توسيع نشاطه ليصبح في ظرف وجيز بائعا للبيض بالجملة، ومزودا رئيسا لأسواق تمنار وسميمو بهذه المادة الغذائية.
ظل عمر يتنقل بين الدواوير مشيا على الأقدام متحديا الظروف الطبيعية الوعرة، مصرا على شق طريق المجد من أصعب المسالك، بل إن أصل اللقب الذي التصق به في حياته ومماته، يعود إلى إصراره على التنقل في حافلات نقل المسافرين التي تربط بين مراكز المنطقة، دون أداء الثمن الكلي للتذكرة، حيث يكتفي لصغر سنه بأداء نصف الثمن، مانحا لمسافر آخر فرصة مشاركته في المقعد الواحد. مما جعل سائقي ومحصلي الحافلات وأيضا «كورتيات» المنطقة يلقبونه بـ»عمر نص بلاصة».
من أرباح عائدات بيع البيض، تفتقت عبقرية الفتى على مسالك أخرى مدرة للدخل، لكن بجهد بدني وفكري أكبر، يتجاوز جمع البيض.
مبدع فكرة الاقتصاد التضامني
انقطع عمر عن جولاته بين الدواوير، وقرر الاشتغال في مجال آخر، فراودته فكرة جمع الحجارة بدل البيض، يقول أحد أفراد عائلته إن شركة فرنسية كانت بصدد بناء طريق يربط المنطقة بأكادير، وكانت تحتاج إلى كمية من الحجارة المكسرة، لاستعمالها كأسس لبناء الطرق، قفزت إلى ذهن عمر فكرة جهنمية، فجمع حوله شباب الدواوير وشرح لهم المشروع المدر للدخل، طالبا منهم اقتناء مطارق كبرى والاشتغال بكسر الحجارة، على أساس أن يشتري من كل شخص كمية الحجارة التي كسرها في نهاية كل يوم، وحين يجمع أكواما من «المكسرات» يبيعها للفرنسيين الذين يشرفون على شركة تعبيد الطريق، على أن يقوم بأداء ما بذمته لفائدة أبناء المنطقة الذين انشغلوا بكسر الحجارة في ما يشبه الأشغال الشاقة، لكنها منحتهم عائدا ماليا أفضل بكثير من مداخيل بيع البيض بالتقسيط.
لمس أحد المهندسين الفرنسيين جدية الشاب عمر، واقترح إلحاقه بالشركة التي عهد إليها ببناء طرقات المغرب غير النافع، لكنه كان يفضل العمل بعيدا عن أوامر المشغلين، خاصة في ظل ظرفية سياسية تتميز بصدام بين الوطنيين والفرنسيين.
كان أغلب أبناء حاحا يفضلون الهجرة إلى الدار البيضاء، للاشتغال في مجال التجارة بالتقسيط، على غرار أبناء سوس، لكن عمر كان يميل إلى الاقتصاد التضامني في شكله البسيط، بجعل أبناء المنطقة يحصلون على المال بعمل ذاتي، وهي الإرهاصات الأولى لما بات يعرف في تعاقدات سوق الشغل بـ»العطش» أي أن الراتب يكبر ويهزل حسب الجهد المبذول.
ولأن المقاولة الفرنسية أعفيت من اقتناء آليات لتكسير الحجارة، كما أعفيت من اقتناء الكمية اللازمة من الحجر، فإن سواعد المنطقة قد انخرطت في سوق الشغل بنوع من الاستقلالية، ودون إكراهات ساعات العمل، إذ اقتصرت العلاقة على محاور وحيد من أبناء تمنار اسمه عمر.
زلزال أكادير.. رب ضارة نافعة
شاءت الأقدار أن يؤسس عمر مقاولته الصغيرة، ويقتني عتادا بسيطا وشاحنة ويقرر الاشتغال في بعض المشاريع الصغرى، التي يفوضها له أصحاب المقاولات الكبرى، رضي بقسمة ونصيب الزمن، ودخل تدريجيا عالما آخر، خاصة أنه ودع العمل الجانبي بوداع المستعمر الفرنسي للمغرب، حينها آمن أن الفرصة قد لاحت ليساهم في بناء وطن خارج للتو من نفق الاستعمار.
من الصعب جدا أن يجد رجل أعمال عصامي موقع قدم في عالم المال والأعمال، في ظل وضعية سياسية واقتصادية تميزت بالغموض، إذ أن خزينة البلاد لم تكن قادرة على تحقيق الاستقلال المنشود، مما جعل العمل مع «المخزن» مخاطرة غير محمودة العواقب.
في شهر رمضان من سنة 1960 استيقظ المغرب على خبر الدمار، بعد أن داهم زلزال عنيف مدينة أكادير بلغت قوته 6.7 على سلم ريشتر، حولها في ظرف ثوان قليلة إلى مدينة منكوبة، كان عمر يقف بين حشود المواطنين وهو ينصت بإمعان لخطاب الملك الراحل محمد الخامس أثناء زيارته لأكادير بعد أربعة أيام وتفقد أحوالها، بينما كانت شاحناته وجرافاته منخرطة في مسح ذيول الدمار وإزاحة أكوام التراب والإسمنت، استوعب الرجل جيدا قولة محمد الخامس الشهيرة: «لئن حكمت الأقدار بخراب أكادير، فإن بناءها موكول إلى إرادتنا».
اشتغلت مقاولة عمر التيسير إلى جانب الجيش الملكي بقيادة الجنرال ادريس بنعمر، الذي وفر الخيام العسكرية، وقامت شاحنات عمر بنقل المساعدات الإنسانية والمؤن الغذائية، فيما كانت جرافاته تمسح مخلفات الدمار من أحياء تالبورجت وفونتي وأحشاش. ولم يتوقف دوره عند الإسعاف والإجلاء، بل ساهم في بناء مدينة أكادير الجديدة على بعد ثلاثة كيلومترات إلى الجنوب من الموقع الأصلي للهزة. بل إنه أنشأ مقرا اجتماعيا للشركة في هذه الحاضرة الجديدة كي يكون أقرب إلى مواقع العمل الذي فتح فيه عشرات الأوراش.
انطلق الرجل في إعمار المدينة الثكلى، مما جعله يحقق أرباحا خيالية، وهو ما جعله يحظى باستقبال ملكي، حين سمع الحسن الثاني الذي خلف والده محمد الخامس، بجدية عمر ودوره الكبير في استبدال الغم بالفرح، منذ ذلك الحين ارتفعت أسهم الرجل الذي اشترى أسهم شركة فرنسية، واقتحم مجالات أخرى أغلبها «مكاتب» تابعة للدولة على غرار المكتب الشريف للفوسفاط والمكتب الوطني للماء الصالح للشرب والمكتب الوطني للسكك الحديدية والمكتب الوطني للكهرباء وغيرها.
مقاولة التيسير تنجز أول طريق سيار
قبل أن تفوز شركة الحاج عمر التيسير، بصفقة بناء الطريق السيار الرابط بين الدار البيضاء والرباط، نالت تنويه الملك الحسن الثاني، بعد أن أنجزت الطريق الرابط بين مراكش وأكادير عبر أسكرود، وسط جبال الأطلس الكبير، مما فك العزلة على كثير من المناطق التي عانت من ضعف البنيات الطرقية.
لم يكتب لعمر أن يرى نهاية مشروع الطريق السيار، الذي أنجز شطره الأول الرابط بين الدار البيضاء وبوزنيقة، يقول أحد أقرباء عمر إن مغالطات تميز موضوع الطريق السيار، خاصة حين يتحدث البعض عن عجز مقاولة التيسير عن استكماله، «الشطر الأول من «لوطوروت» انتهى في الآجال المتفق عليها رغم الصعوبات المالية، لأن الحكومة لم تكن تقدم حينها مبالغ مالية مقدمة أو عند انتهاء مرحلة من مراحل المشروع بل كان الأداء يتم بعد الانتهاء بل بعد سنتين من تدشين المشاريع، كان الوضع صعبا في ظل الجفاف والاحتقان الاجتماعي الذي ميز نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات، لكن عمر أوصل المشروع إلى شط الأمان، وهذا يحسب له دون الاستعانة بشركة أجنبية، فقط بسواعد مغربية وكفاءات شابة تحمل شواهد عليا في مجال الطرقات والقناطر».
مات عمر قبل أن يتحقق حلم ربط العاصمتين الإدارية والاقتصادية بطريق سريع، لكن أبناءه قرروا استكمال الطريق، قبل أن تقف إكراهات عديدة دون تحقيق أماني ماتت بموت عمر.
أساطير حول أشهر مقاول مغربي
أحيطت حياة عمر التيسير الشهير بلقب «نص بلاصة» بكثير من الحكايات الأسطورية، منها ما تجاوز الحقيقة ومنها ما لامسها في تفاصيلها الدقيقة. لقد كان اسم عمر مرادفا للثراء، حتى أصبح المغاربة يتداولون قولة مأثورة تقول «مالك شكون أنت نص بلاصة»، كناية على أصحاب الجاه. كما قيل إن كثرة شاحناته وآليات مقاولاته بلغت عددا يصعب حصره، حتى أصبحت كثير من حوادث سير الشاحنات تتم بين آليات في ملكية التيسير، فيضطر رجال الأمن أو الدرك الملكي إلى تحرير محاضر حوادث بين شاحنتين في ملكية نفس المقاولة ونفس الشخص.
ويروى عن عمر أنه منع من ولوج فندق في باريس، لكن حارس البوابة اكتشف أن الشخص المغربي الممنوع من ولوج الفندق هو أحد أكبر المساهمين فيه، ونسجت الروايات الشفاهية حكايات عن اقتنائه لمطعم لمجرد خلاف مع نادل، لكن كل هذه الحكايات تفتقد للحقيقة، لأن عمر لم يكن بهذه التفاهة الفكرية التي تجعله يشتري فندقا أو مطعما لمجرد الرغبة في الاستعلاء، إذ أن شخصيته هادئة وطباعه لا تميل إلى التسيد، وحسه الاقتصادي المتطور يمنعه من دخول متاهات المزايدات المجانية، التي لا يجني منها سوى الوجاهة الزائفة.
لكن الرواية الصحيحة هي التي ارتبطت باستقباله من طرف الملك الراحل الحسن الثاني، والذي سمع عن عصاميته، فوجه له سؤالا غريبا: ماذا كان سيصبح عمر لو تعلم وتابع دراسته بدل دخول عالم المقاولات مبكرا؟.
رد عليه عمر بسرعة: كنت سأصبح ساعي بريد أو كاتبا عموميا في أحسن الأحوال.
ربت الملك على كتف الحاج وقيل إنها المرة الأولى التي ينحني فيها الملك لتحية مواطن.
طرق وسدود وملاعب ومساجد
بعد أن أصبحت شركات عمر التيسير «مقربة» من الحكومة ومن القصر، ونظرا لإعجاب الملك الحسن الثاني بنباهة وعصامية عمر، أسندت كثير من المشاريع الكبرى لمقاولة «الحاج» الذي كان بدوره يفوض بعض المشاريع لزملائه في المهنة، بل إنه تحول مع مطلع الاستقلال إلى رائد الأشغال الكبرى، ونافس بقوة كبريات الشركات الفرنسية التي هيمنت على سوق التشييد والبناء، ليصبح أول مغربي يتكلف بمشاريع كبرى كالطرق والسدود والقناطر، قبل أن يلج زميله لطفي المجال بقوة بتوجيه من عمر.
فوضت الحكومة المغربية بقرار من الملك الحسن الثاني لشركات التيسير بناء مشاريع أخرى خارج المغرب، لاسيما في إفريقيا إذ بنى في العاصمة الغينية كوناكري جامعها الكبير، كما بنى الجامع الكبير بدكار على أيدي مهندسين وعمال مغاربة، وشيد منارة مرتفعة ترى من بعيد ومركزا ثقافيا ومدرسة لتعليم مبادئ الدين واللغة العربية، وعين الحسن الثاني شركة عمر لبناء مسجد بليبروفيل عاصمة الغابون على مساحة تصل إلى 3500 متر مربع، بمقدورها أن تتسع لخمسة آلاف مصل، وتم البناء وفق نمط مغربي تقليدي وجلب إليه مئات الحرفيين المغاربة، استمرت الأشغال من 1978 إلى 1983، ولم يكتب لعمر حضور مراسيم التدشين في العاصمة الغابونية، لأنه انتقل إلى عفو الله بعد سنة من انطلاق الأشغال.
لم يقتصر مجال اشتغال مقاولات عمر على الطرق والمساجد، بل ساهم في بناء المركب الرياضي الأمير مولاي عبد الله، لكن بسواعد صينية.
السياسة الحقيقية تصنعها الجرافات
لم يكن عمر مغرما بالسياسة، فقد رفض مرارا الانخراط في الهم السياسي، أو دخول الانتخابات التشريعية، وحمل بطاقة حزب سياسي مهما كان لونه، لكنه كان حريصا على دعم رموز الحركة الوطنية عن بعد، ومساعدة رجال المقاومة ماديا ولوجيستيكيا، دون أن يمارس السياسة في العلن، لأن السياسة لدى عمر هي سياسة بناء وطن خارج للتو من نفق الحجر والحماية.
كان الملك الراحل الحسن الثاني يرغب في اقتحام الأثرياء الأمازيغ لعوالم السياسة، بل يحكى أنه اقترح على الثري السوسي إدريس وموح تأسيس حزب سياسي فرد عليه قائلا: «نحن لا نفقه في السياسة، لكننا نملك أهم شيء وهو الجدية في إنجاز العمل أغراس أغراس». لكن كثير من السياسيين الذين ربطوا علاقات مع عمر كانوا يحملون قبعات سياسية، بل إن عبد الله إبراهيم الوزير الأول لأول حكومة بعد الحصول على الاستقلال كانت أصوله أمازيغية، ويقال بأنه دعم مقاولين سوسيين وساهم في ركوبهم قطار الثراء. وعرف حزب الاستقلال وجود رؤوس أموال من سوس وحاحا، قبل أن يختار الكثيرون حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية على غرار عبد الله الصويري رفيق درب عمر والذي تسيد غرفة الصناعة والتجارة لسنوات.
تابع التيسير المشهد السياسي عن بعد، وعاش فترة الانتخابات الأولى بعد الاستقلال المقامة في 8 ماي 1960 والخاصة بتجديد مكاتب غرف التجارة والصناعة، وما ترتب عنها من فوز كاسح للاتحاد الوطني للقوات الشعبية بأغلبية المقاعد في الدار البيضاء والرباط وطنجة والقنيطرة ومكناس وسيدي سليمان وسطات والجديدة والقصر الكبير، في حين أنه لم يقدم أي مرشح بمدينة فاس، مما يكشف عن هيمنة أبناء سوس على الانتخابات القطاعية. قبل أن يسطع نجم السوسي ناجم أبا عقيل الذي أسس حزب العمل.
وفاة مفاجئة تنهي مسار شركات عمر
في نهاية شهر أبريل من سنة 1979، تعرض عمر التيسير لحادث عرضي حيث التوت قدمه وهو يهم بصعود سلم مكتبه، هوى الرجل من الأعلى وارتطم رأسه بدرج، قبل أن يدخل في غيبوبة، نقل على وجه السرعة إلى إحدى مصحات الدار البيضاء، ولكن حالته الصحية لم تتحسن، بل ازدادت سوءا، حينها تقرر نقله إلى مستشفى لاتيمون في مارسيليا بتوصية من أحد الأطباء، لأن النزيف الدموي كان خطيرا، مما أدخل «الحاج» في غيبوبة، استأجر مجلس الأسرة طائرة خاصة أقلت الأب المغمى عليه إلى مدينة مارسيليا، هناك خضع لعملية جراحية على يد اختصاصيين في جراحة الدماغ، لكن الرجل ظل في غيبوبته التي دامت عشرين يوما انتهت بوفاته في 26 ماي 1979. ظل صهره حريصا على مرافقته في أصعب وضعية صحية عاشها، لكن مشيئة الله كانت فوق كل الآمال والتوسلات، لتنهي أسطورة رجل عصامي تحول إلى أحد بناة مغرب ما بعد الاستقلال.
دفن الفقيد بمقبرة الشهداء في موكب جنائزي رهيب، وحين عاد أبناؤه إلى البيت لتلقي التعازي أجمعوا على الاستمرار في مشوار الألف ميل الذي لم يكتب للأب إنهاؤه. خلف الراحل ثلاثة أبناء وهم فاطمة الزهراء ورشيد ثم أمينة. وحين انفض المعزون عقد الأبناء اجتماعا طارئا حضره بعض المقربين كالصويري وبوفتاس، وخرجت توصية تقول «نحن على عهد الفقيد سائرون»، ليعهد لرشيد باستكمال المسار، لاسيما وأن الراحل مات تاركا 20 مشروعا قيد الإنجاز في الداخل والخارج، مما عجل بقرار الاستمرار.
قبل وفاة عمر، كان بصدد الاستعداد للاستقرار في مدينة مراكش، مما يجعله قريبا من مشاريعه التي بدأت تكبر في المنطقة الجنوبية، وفي الهضبة الفوسفاطية، لكن لا مرد لقضاء الله.
مقاولون يستنيرون بتجربة التيسير
لم يكن عمر محتكرا لسوق المقاولات، فقد كانت شركات فرنسية وأخرى مغربية تنافس بقوة في فترة كان الاقتصاد الوطني يجتاز نفقا مظلما، لكن التيسير كان يقول إن ما يميزه عن بقية الشركات الأجنبية هو اعتماده على كفاءات وسواعد مغربية، وأن التعاقد معه من طرف الحكومات المتعاقبة على البلاد يعفي خزينة الدولة من أداء مبالغ الصفقات بالعملة الصعبة، وهو مكسب كبير لمالية المغرب.
ويقول أحد رفاق دربه إنه لم يكن يجد حرجا في مساعدة شركات أخرى على الظهور، رغم اشتغالها في نفس المجال المقاولاتي، مضيفا أن الراحل «كان وراء ميلاد مقاولة لطفي، صديقه الذي كان يجالسه في تيزنيت وأكادير ويسدي إليه النصح، فقد كان لطفي يملك شاحنتين وضعهما رهن إشارة مقاولة عمر، الذي كان يسدد له مقابلا ماليا شهريا على خدمة «وضع شاحنتين رهن الإشارة». وفي أحد اللقاءات ساعد عمر صديقه في اقتناء عشر شاحنات دفعة واحدة، على أن تؤدى أقساط ديون شرائها من عائداتها، وبعد ذلك كبرت المقاولة وقرر لطفي الاستقلال بعمله، باقتراح من «الحاج»، الذي فوض له الاشتغال نيابة عنه في مشروع لفائدة المكتب الشريف للفوسفاط باليوسفية، فبدأت رحلة المنافس الأول لشركات التيسير». بعد سنة عن رحيل التيسير، تيسرت الأمور للطفي الذي نال صفقة بناء الجدار الدفاعي بالصحراء المغربية بقرار من الجنرال الدليمي. وكان ذلك آخر قرار يتخذه الدليمي قبل وفاته في الحادثة الشهيرة.
رئيس جامعة الكرة شاهد على العصر
رغم أن عمر قضى أزيد من عشرين يوما في المصحة قبل أن ينتقل إلى عفو الله، فإن مقاولاته لم تكن مهيأة لهذا التحول، لاسيما أنه من الصعب تدبير شركات الراحل بنفس اليقظة والحضور الذهني والنباهة المقاولاتية. صحيح أن مجلس الأسرة عمل بتوصية الأزماني وبوفتاس والصويري، وقرر الاستمرار في المعركة التي بدأها الفقيد وهو فتى لا يتجاوز العاشرة من عمره إلا بسنوات قليلة، إلا أن تدبير أزيد من ستة آلاف عامل من مختلف التخصصات ومئات الآليات وعشرات الأوراش المفتوحة بدا أمرا صعب في غياب خليفة قادر على استلام المشعل بنفس إقدام وذكاء عمر.
كان عبد الله غلام، الرئيس الحالي للجامعة الملكية المغربية لكرة القدم، مستشارا ماليا لعمر التيسير، فاضطر إلى قبول قرار الاستمرار على مضض، لأنه كان يؤمن بأن الشركة ستزول بزوال صاحبها، لذا عمل إلى جانب آخرين، باستشارة مع ابنه، على تدبير المرحلة على نحو آخر، فبيعت كثير من الآليات لشركات أخرى من أجل تسديد رواتب العمال الذين لم يقبلوا بالوضع، ومنهم كثير من الكفاءات التي انتقلت بشكل نهائي إلى شركات منافسة.
بدأ عبد الله غلام مشواره في طاقم أول ثري من أصول أمازيغية نافس الشركات الأجنبية، وانتهى به المطاف مستشارا ماليا لعزيز أخنوش الذي يشكل الجيل الجديد لأثرياء سوس.
أمينة التيسير: علبة أسرار الراحل
رغم أنها الأصغر من بين أبناء عمر، فقد ظلت أمينة تناضل من أجل استمرار صرح عائلة التيسير. وتملك أمينة، وهي زوجة عمر الصويري نجل المرحوم عبد الله الصويري، الذي قاد قطاع التجارة والصناعة والفلاحة والخدمات سنوات، إرادة فولاذية في صيانة الموروث الذي خلفه الراحل، إذ تتصدى لكل من يحاول وضع خاتمة الإفلاس في «جنيريك» قصة عمر «نص بلاصة»، وتنتابها بين الفينة والأخرى حالة غضب كلما رسمت بعض الأقلام سيناريو لنهاية والدها مخالف لواقع الحال.
تقول أمينة إن جميع أملاك والدها لازالت في الحفظ والصون، وأن الاتفاق الأسري كان صارما، حيث تم منع توزيع الإرث ورفض تقسيم تركة الوالد. «للأسف هناك بعض الأقلام التي تحدثت عن إفلاس والدي رحمه الله، ومنها من اختلق سيناريو لرحيله، والبعض يتعامل بنوع من التحقير المكشوف لرجل يجب أن يكرم لأنه وطني وساهم في بناء الوطن»، تضيف أمينة، التي تعيش حياة هادئة كأم لثلاثة أبناء. لكنها تتمرد على نمط حياتها هذا، بالانخراط في العمل الجمعوي، خلال جمعية تنموية تحمل اسم والدها عمر التيسير، وأن كان هذا الهم يجب أن يتقاسمه معها كل من عايش الراحل، ليكون مساره قدوة للجيل الجديد من رجال المال والأعمال.
إعداد: حسن البصري لـيومية المساء، عدد 2293