قصة عجوز ألمانية تعيش رفقة سبعة كلاب بشقة واحدة بالدار البيضاء
زنقة 20
تكاد تكون أشهر شخصية في الدار البيضاء، مظهرها يشي بغموض سحري خفي. أكيد أن وراءها قصة مثيرة. هذا ما يتبادر إلى ذهن كل من يرى تلك السيدة الأجنبية الشهيرة، وهي تتجول رفقة بضعة كلاب بشوارع العاصمة الاقتصادية.
أجنبية مسنة وتعيش على نحو غريب، في شبه إفلاس، مع حيوانات؟ أمر يثير عجب البيضاويين، لكن قليلين بحثوا عن قصة «مارليس»، أكثر شخصية شهرة وغموضا بالبيضاء.. إليكم هاته القصة.
قبل أيام انتشر نبأ أن «الكَاورية» العجوز التي تجوب الدار البيضاء رفقة الكلاب ماتت. بدا أن الخبر غير عاد، ليست وفاة كبقية الوفيات التي تحصل كل يوم. الأمر يتعلق بشخصية شهيرة أضفى عليها مظهرها الشعث وهزالها الخطير مسحة غموض.
تبين أن الأمر محض إشاعة، «مارليس» مازالت حية.. تتنقل، كعادتها، بين أزقة وسط المدينة على النحو الذي لا يمكن ألا يستثير مارا بالمدينة.
التقينا «مارليس».. قضينا معها لحظات من يومها الذي تقسمه بين مشاغل روتينية.
من ألمانيا إلى المغرب
اسمها الكامل «مارليس والكينهورست»، هكذا خطته بأحرف لاتينية كبيرة على الورقة كي لا نخطئ في كتابة اسمها الذي قد يُعرف لأول مرة لدى الكثيرين.
جسمها الضئيل تقلص مع مرور سنوات عمرها الثمانية والستين. مازالت «مارليس» تحتفظ بتلك الملامح الأوربية المشرقة والشعر الذي لم يفلح الشيب في إخفاء ما كان عليه من شقر، منذ أيام صباها بـ«أيكس لا شابيل»، مدينة صغيرة في أقصى نقطة بغرب ألمانيا، تبعد عن كولونيا بـ60 كيلومترا. اسم المدينة فيه لكنة فرنسية، هي قريبة جدا من مدن شمال فرنسا. الناس يتحدثون الفرنسية هنا أيضا إلى جانب الألمانية، لهذا تجيد «مارليس» الفرنسية.
نحو 260 ألف ألماني يعيشون في هاته المدينة التي تضج بالكاتدرائيات وعبق القرون الأوربية الوسطى. هنا نشأت «مارليس»، لم تكن تعرف عن العرب إلا القدر الذي يظهره نحو 10 آلاف سائح يزورون مدينتها سنويا، قصد العلاج على الأرجح. هنا يوجد مستشفى جامعي له صيت عالمي. بين من أمضوا به فترات علاج الرئيس الفلسطيني الراحل، ياسر عرفات، والرئيس المصري السابق، حسني مبارك.
بدا أن «مارليس» لم تعد معنية بهاته الأمور ولا بذكريات مدينتها التي تبدو لها الآن بعيدة، والأكثر؛ باردة. «أصبحت مغربية الآن.. لا أفكر أبدا في العودة إلى ألمانيا. الجو متجمد هناك. هنا الدفء والشمس»، قالت «مارليس» وهي تجر كلابا بأحد أزقة مرس السلطان.
كان لـ«مارليس» زوج توفي منذ 32 سنة، ليس لديها أطفال. عائلتها الحالية هم سبعة كلاب وعشرات القطط التي ترعاها بمنزلها، بإحدى عمارات شارع «مصطفى المعاني». هناك التقيناها قبل أن نشاركها جزءا من رحلتها المسائية المعتادة.
كانت تتحدث الفرنسية، لم يظهر عليها أثر اضطراب أو مس. بدت عادية رغم طريقة حياتها غير العادية، على الأقل كما يراها الناس. جسدها منكمش على نحو مفزع، شعرها شاب لكن ظل محافظا على أثر لونه الأشقر. جلدها مجعد بسبب تقدمها في السن ونحولها الشديد.
لم تكن ترتدي سوى قميص بدون أكمام وسروال «جينز» بال شدته بسلسلة حديدية على خصرها كي لا يسقط من فرط نحولها. أحيانا تظهر متأنقة، تجوب وسط المدينة بفستان رث وحذاء ذي كعب عال، واضعة شيئا من «الماكياج»، محاولة ترميم وجهها الذابل الذي ظهرت آثار السنين التي عاشتها بين ثنايا تجاعيدها.
مدخل العمارة التي تقطنها كئيب. عند الباب حاوية قمامة بفناء مظلم تحت الدرج يجلس شخص برتابة. إنه حارس العمارة على الأرجح. أبواب الشقق مغلقة، بينها مكتب محام. الهدوء مطبق. سرعان ما يكسره نباح كلاب صادر عن شقة فريدة بالطابق الثاني. هنا تقيم «مارليس» رفقة كلابها وقططها.
نباح الكلاب يشتد كلما اقتربنا، تحاول تهدئتها. باب مغلق بقفل يؤدي إلى درج يقود بدوره إلى الشقة الضئيلة حيث تقطن «ماريس». الكلاب والقطط في كل مكان، رائحة قوية جدا. الجو كريه بالمكان. تستطيع «مارليس» تحمله على نحو غريب، سر من أسرار حياتها المتفردة.
الحياة مع الحيوانات
«ولدتُ سنة 1946 بمدينة أيكس لاشابيل بألمانيا. أنا هنا في المغرب منذ نحو أربعين سنة. قدمت إلى المغرب بدعوة من عائلة مغربية. كنت أتقن اللغة الفرنسية. الأمر سهل علي العثور على عمل في وكالات إشهار. تنقلت بين عدة وظائف. هناك من يدفع لي أجرا وهناك من لا يدفع»، تقول «مارليس» وهي مغرقة في تهدئة كلابها التي لا تكف عن الحركة.
«مارليس» لا تشتغل الآن. تقطن هاته الشقة التي كانت مملوكة لشخص إيطالي. مالكة الشقة الآن تسمح لـ«مارليس» باستغلالها. صديقة فرنسية لـ «مارليس»، كما تقول، هي التي تتكلف بدفع الإيجار، 1700 درهم كل شهر.
يوم «مارليس» يتوزع بين الاعتناء بالكلاب والطواف بها بين الأزقة لجمع ما تطعمها به. بقايا أكل ومخلفات جزارة. عند السابعة من صباحا كل يوم، تخرج لتتوجه نحو حديقة الجامعة العربية أو مسجد الحسن الثاني. تصطحب معها كلابها السبعة، القطط تتركها بالشقة.
تتذكر «مارليس» أول مرة احتفظت فيها بحيوان، وتقول: «صادفت، عندما كنت في الغابة، كلبا صغيرا وحيدا. اصطحبته معي وتكفلت به. منذ ذلك الحين وأنا أعتني بالحيوانات».
«مارليس» تجمع كلابا وقططا ضالة تجدها شريدة بالشارع. تقول إن لها شيئا خاصا يجعل الحيوانات المشردة تتبعها. تأخذها إلى الشقة حيث تسكن.
أحيانا، تصطحب معها قططا صغيرة، وعلى نحو غريب تجعل إحدى كلباتها ترضعها. عدد كبير من القطط التي تحتفظ بها نشأت بفضل حليب كلباتها. من المعروف أن القطط تنفر، بشكل غريزي، من الكلاب. لكنها كانت جميعها تعيش، في استكانة، داخل شقة «مارليس» الرثة.
حان موعد الجولة المسائية، عند السابعة تخرج «مارليس»، تجر كلبا من كلابها بواسطة حبال. وتترك الكلاب الأخرى تتبعها، الكلب السابع تركته في الشقة لحراستها.
في اللحظة التي تفتح فيها الباب المغلق بقفل، تنسل الكلاب بسرعة. تنزل الدرج محدثة صخبا كبيرا، وتخلف وراءها رائحة كريهة. تسمي «مارليس» كلابها بأسماء أجنبية. الكلاب لا تتوقف عن الحركة والتبول بالقرب من الأشجار وعند الجدران التي يمر عبرها هذا الموكب الغريب.
تمضي «مارليس» رفقة كلابها صوب محل جزارة بمرس السلطان، في الوقت ذاته من كل يوم تجد أكياسا بلاستيكية سوداء، داخلها أزبال، بينها بقايا عظام وشحوم. تنتقي «مارليس» أفضلها، تضعها في كيس بلاستيكي. صبي يخرج من محل مواد غذائية ليحرس المتجر لحظتها. ألف مرور «مارليس» وكلابها في هاته اللحظة. دوره إبعاد الكلاب عن الخضر التي يضعها بصناديق قبالة المحل التجاري.
تنصرف «مارليس»، عقب ذلك، إلى حديقة بالقرب من مستشفى ابن رشد. بعدما تذهب لممارسة رياضة المشي بحديقة الجامعة العربية، كما تقول، رغم أنها تمضي يومها كله في المشي. بالليل تسكن إلى شقتها، ليس لديها ماء أو كهرباء. تستعين بشمعة لمطالعة كتب، هوايتها الثانية بعد تربية الحيوانات. تقرأ «مارليس»، كما تقول، كتب علم النفس والبوذية. قرأت القرآن والكتاب المقدس من قبل، وتصر على أنها قرأتهما على طريقتها.
عالم «مارليس».. جحيم الجيران
«لم يحدث أن مرضت يوما، عندما تمرض الحيوانات أعالجها، وحينما تموت أضعها في كيس وأنقلها إلى بيطري يتكلف بها. كلابي مدربة ولا تهاجم أحدا، وأنا أيضا لا يهاجمني أحد. أتعرض بالطبع لمضايقات وتحرش.
كان الأمر مختلفا في السابق، عندما كان الناس ينظرون إلي على أنني سائحة. لكن تحرشهم بي الآن مختلف»، تقول «مارليس» قبل أن تضيف: «لعل إشاعة وفاتي أعقبت تعرضي لمحاولة اعتداء من طرف شخص يحمل سيفا بالقرب من مسجد الحسن الثاني، لكن لم يحدث لي شيء».
بدا أن «مارليس» تداري كثيرا من تفاصيل حياتها. هذه التفاصيل يعيشها جيرانها، على نحو مأساوي كما يبرزون. إحدى الجارات تقول: «لن نعيش على راحتنا هنا. أقاربنا لا يزوروننا. ضجيج الكلاب والحيوانات ورائحتها تسبب لنا أسقاما كثيرة. عيناي مريضتان بسبب الرائحة».
وأردفت الجارة، وهي تطلعنا، من وراء نافذة بشقتها، على المكان الذي تعيش فيه «مارليس» وحيواناتها، قائلة: «لم يستطع أحد أن يجبرها على الرحيل. في الحقيقة نرغب في أن تظل معنا، لكن عليها أن تبعد الكلاب والحيوانات. هي أيضا لا تنام في الليل، تظل تصرخ بشكل هستيري. ذات مرة قدم أعضاء جمعية إلى هنا وجهزوا لها منزلها بالأثاث واصطحبوا الحيوانات، وأخرجوا أكواما من الأزبال وفضلات الحمام والحيوانات، لكنها عادت لتدخل الكلاب التي تعيش فوق الأثاث. وجدتها أمي ذات يوم تأكل مع الكلاب بقايا أكل أعطاها إياها مالك مطعم بالقرب من هنا».
الجارة نفسها تروي قصة موت أحد كلاب «مارليس» قائلة: «في أحد الأيام رأيتها تنظف جربا ظهر على أحد الكلاب بمادة كيماوية، تحت شمس لافحة. عندما مات الكلب تركته إلى أن انتفخ. رأيت حينها ذبابا كبير الحجم لم تقع عيناي على مثله في حياتي. الرائحة كانت كريهة. استمر الأمر إلى أن حل موظفو مصلحة حفظ الصحة. احتججنا على هذا الوضع لكن لا أحد تقدم بحل».
ما زال كثيرون ينظرون إلى حياة «مارليس» بنظرة مشدوهة. حتى المسؤولون، لم يخطر على بال أحد التفكير في حل. ينتظرون مآل هاته العجوز الأوربية الغامضة التي تزداد أيام حياتها بعدد الكيلومترات التي تخطوها كل يوم، بطريقة عبثية، وبدون أن تكون في ذهنها أحلام. الأحلام، كما تقول«مارليس»، تركتها للفتيات الصغيرات.
إعداد: عزيز الحور لـيومية "الأخبار".