الصهد ورمضان.. عطالة إجبارية للكَراب وأمل في سخاء المحسنين
زنقة 20
في رمضان يتحول "الكرابة" إلى أطياف تذكر بالعطش، وحينما تفقد مياه القراب الجلدية أهميتها، لا يبقى أمام هؤلاء غير مد اليد، ليتحولوا إلى متسولين بألبسة خاصة قوامها أجراس نحاسية وقبعات "الصومبريرو".
حل رمضان ونضبت معه المياه من القربة الجلدية التي يتأبط بوشعيب سقاء الماء الذي يزحف بتؤدة نحو الستين من عمره.
تبدو القربة بأهدابها من بعيد كعنزة عنيدة لا تنفك عن كتفه، وإذ الحرارة مرتفعة خلال اليوم الأول من شهر رمضان الذي حل في كبد الصيف، فإن سقاء الماء الذي اعتاد أن يجوب أزقة الدار البيضاء، ليروي ظمأ العطشى، يمشي الهوينى وعيناه تمسحان الجوار ذات اليمين وذات الشمال بحثا عن أشخاص يطمع في جودهم عليه بدراهم تعفيه التضور جوعا وأسرته المكونة من ستة أفراد، عندما يحين موعد الفطور.
إنها صروف الزمن وضوابطها على بوشعيب فهو في عز القيظ، والناس صيام، يصبح أشبه بطيف يسيل لعاب المارين من قربه، لا يولونه الاكثرات لأنه يذكرهم بمياه باردة يشتهونها لإطفاء الظمأ، لكن ما العمل وما عسى بوشعيب الذي كان يقتات في الأيام العادية على عذوبة المياه التي يخزنها في جوف قربته، أن يفعل سوى مد يده لاستجداء هؤلاء وهم صائمون عطشى.
كلما حل رمضان، إلا وتحولت مهنة بوشعيب ذو الجسد الضئيل، ليصبح كما وصف بنبرة حزينة: "طلابا".
"الفلوس موجودة.. ولكن الما شكون بغاه دابا" ندت هذه العبارة من فم بوشعيب، ثم مط شفتيه معلنا غبطته لحجاج قيسارية الحفاري، تحسس جيبه حيث تقبع دراهم لملمها منذ الصباح، ثم عدل قبعة "الصومبريرو" المغربية التي يعتمر لتقيه أشعة شمس لا ترحم في رمضان، بينما كانت الكؤوس النحاسية التي تتدلى من حزام جلدي يحيط بخاصرته تتصادم محدثة صليلا خافتا.
استطاع بوشعيب "الكراب"، العيش لسنوات بتجارة الماء، يقطن بدوار الهراويين الذي يتكيء على رابية تطل على المدينة الغول، لكن جرعات الماء التي دأب على بيعها في الأيام العادية والتي يعتريها الصهد خصوصا، تجعله يرفع الرهان أمام زمن صعب، يتكالب عليه في حلف غير معلن مع أفواه أولاده الستة التي لا تقفل حتى تمتليء بطونهم.
"الصيف ضيعت اللبن" كما تقول العرب، ورمضان الذي سيلتهم أياما من هذا الصيف، قد يضيع على بوشعيب أموالا يجنيها حين يساوي كأس ماء يخزن باردا في جرته الجلدية درهما أو أقله حسب أريحية الظمآن، يحث الخطى بين الفينة والأخرى نحو بعض المارة، قال في تصريح صحفي، إن فراسته لا تخطيء فهو يستشف كرم هؤلاء منذ النظرة الأولى، "كل واحد وبلاكتو على وجهو ماشي على ظهرو بحال الطوموبيلات"، قالها بوشعيب وابتسامة واسعة قد احتلت وجهه، كان فرحا بعدما أمده رجل كان رفقة زوجته بعشرة دراهم، تنهد واستدرك موضحا أن الناس يعاملونه بطريقة مختلفة عن تلك التي يلقاها منهم بعض المتسولين، لأنهم يقدرون الظروف التي تجني على مهنته في شهر الصيام.
"أنا لست طلابا بالمعنى المعروف.."، انحبست الكلمات في صدر بوشعيب وتحولت حشرجة، قبل أن يطرق مفكرا وهو يبحث عن وصف يحسه أقرب إلى حالته من التسول، لكن ما باليد حيلة لأن جعبة بوشعيب لم تجد عليه بغير وصف "الطلاب"، بعدما فطن للأمر احتمى بعد ذلك بالصمت لحظة، ثم راح يرسل نظرات تجس كرم وجود الوجوه السائرة بمحاذاة مفترق الطرق غير بعيد عن قيسارية الحفاري في درب السلطان.
دعك بوشعيب عيناه الغائرتان وسط وجهه المحمر بيد تتخللها شقوق أحدثها الزمن، ثم أفاد أنه لم ينم كفاية، الليلة الماضية، فكما يجوب الطرقات صباحا متسولا ومستجديا، يعود بعدما يسدل الليل ستاره إلى عهده ويبيع مياهه لساعات قليلة تنتهي بحلول منتصف الليل، لتكون أوبته نحو الكوخ العشوائي الذي يحتضن أسرته بالهراويين.
غريب أمر بوشعيب فقد اختار مهنة "الكراب" منذ عشر سنوات مضت، تذكر كيف أن الجفاف عجل برحيله من منطقة عبدة ليستقر به المقام في الدار البيضاء، مدينة "اشري تمضغ..كري تبات" كما يحب وصفها، وبعدما اصطدمت رأسه بكثرة العراقيل التي اعترضته وحالت دونه والعمل، آثر أن يلتحف بهذا الزي الأحمر الباهت الذي يرتدي، ويقتني قبعة "الصومبريرو"، وينتعل صندلا جلديا لا يخفي أصابع قدميه، ويتيه بعد ذلك في عالم بيضاوي مجنون على طول السنة.
ارتفع صوت آذان العصر، رن الجرس الذي يحمله بوشعيب بعدما حركه، معلنا تنصله من مواصلة الحديث، لكن قبل أن يذوب وسط الزحام بكراج علال قال بنبرة حزينة إنه وخلافا للفلول التي تجوب قيسارية الحفاري، يتمنى تأخر موعد الإفطار حتى يتمكن من لم أموال تكفيه اقتناء الحليب والبيض لأبنائه كباقي الناس، خلال شهر رمضان الذي أفقد مياهه قيمتها.