جـمـعـة الـغـضـب
تَمَّ تنظيم وقفة احتجاجية، شارك فيها المئات، أمام البرلمان المغربي في 11 يوليوز 2014، ضمن فعاليات يوم أُريد له أن يكون يوم جمعة الغضب المغربي، على إثر انطلاق فصل آخر من فصول العدوان الهمجي على الشعب الفلسطيني وشن الآلة العسكرية الإسرائيلية لحملة وحشية مروعة تفتك بالأبرياء وتهدم المنازل على رؤوس ساكنيها وتباشر العقاب الجماعي الأعمى وتنشر الرعب بين المدنيين.
عرفت الوقفة حدثاً قد يبدو للبعض بسيطاً، ولكنه مؤشر على وجود تباين عميق في الرأي والموقف؛ ذلك أن التضارب في الشعارات أدى إلى انقسام الوقفة إلى وقفتين وإلى نوع من "فك الارتباط" بين الجانب الإسلامي الذي كان يحمل أعلام حماس ويهتف مكبراً ويبدي، بطريقته الخاصة، تضامنه مع شعب يتعرض للتقتيل، ويستنكر المجازر الإسرائيلية الرهيبة، وبين الجانب "الآخر" الذي قام بمسيرة، لمسافة قصيرة، في شارع محمد الخامس ورفع الشعارات التي تَعَوَّدَ اليساريون على رفعها، في مثل هذه المناسبات، وبعضها يُذَكِّرُ بـ "أيام زمان".
واقعة انقسام الوقفة، هي دليل على وجود انقسام مغربي حاد في الموقف، اليوم، من القضية الفلسطينية. يتعلق الأمر بواقع نحاول إخفاءه، في الكثير من الأحيان، فنحن، كتيارات سياسية مغربية، مختلفون، جوهريا، في طريقة مقاربتنا لأصل المشكل وتصور الحل، حتى وإن شاركنا جميعاً في المسيرات، نفسها، وانخرطنا في الهيئات والمبادرات، ذاتها، الداعمة للشعب الفلسطيني(مثل مجموعة العمل الوطنية). لقد اعتبرنا، أحياناً، أن تجاهل الاختلافات القائمة بيننا، بصدد القضية الفلسطينية، سيخدمها وسيكون في صالحها وسينفعها أكثر مما سيضرها، وخلُصنا إلى أن المهم، ربما، هوأن ننجز وحدة التحركات والفعاليات في "الميدان" وأن نُظْهِرَ للعالم أجمع أن المغاربة يقفون "صفاً وحداً" في دعم الشعب الفلسطيني والتضامن معه في محنته والتنديد بالاحتلال وجرائمه.
اختلافاتنا، في الحاضر، ليست هي الاختلافات، نفسها، التي قامت بيننا في الماضي. اختلافاتنا، اليوم، أكثر حدة ورقعتها أوسع ووقعها أشد.
في الماضي، اعتبر الاتحاد الوطني لطلبة المغرب أن القضية الفلسطينية قضية وطنية. وقبلت الأحزاب الوطنية أن تتعاون، في إطار الجمعية المغربية لمساندة الكفاح الفلسطيني، مع رموز من الأحزاب التي سيُطلق عليها، في ما بعد، وصف الأحزاب الإدارية. هذا التعاون والتنسيق، في نفس الإطار التنظيمي، بين هذين النوعين من الأحزاب، كان يمثل سابقة، بكل المقاييس، وجاء بتزكية، أو ربما بتوصية، من الفلسطينيين. كان اليسار المغربي يرى أن النظام مقصر في القيام بواجباته القومية إزاء القضية. وصرح مناضلو"المنظمة السرية" الاتحاديون -الذين توبعوا، في بداية السبعينيات، بالتآمر ضد النظام، أمام القضاة- بأنهم كانوا يعبرون عن مناهضتهم لتهجير اليهود المغاربة إلى إسرائيل، وصرح مناضلون من اليسار الجديد، خلال محاكمتهم، بأنهم كانوا يعقدون لقاءات مع الشباب لشرح أبعاد القضية الفلسطينية، وأصدر قادة اتحاديون جريدة "فلسطين"، وانتظم في سلك المقاومة الفلسطينية عدد من المغاربة وسقط منهم شهداء (عبد الرحمان أمزغار، الحسين الطنجاوي، مصطفى قزيبر، عبد العزيز الداسر..إلخ).
وفي الماضي، توزع الطلاب والشباب المغاربة، أحياناً، بين مؤيد لهذا الفصيل الفلسطيني وبين مؤيد لذاك. واحتدت المناقشات حول أي الفصائل أكثر نضالية وأكثر جذرية، وكان الانتماء إلى اليسار الجديد، على وجه الخصوص، يعني رفض التفاوض بالإضافة، طبعاً، إلى رفض الاعتراف ورفض الصلح. ولهذا رُفع الشعار المعروف الذي لازال يتردد، إلى الآن، في الجامعات والمسيرات، وفي الكثير من المناسبات، ونصه هو التالي:
"قولو لتجار السلام فلسطين عربية
لاتفاوض لاسلام لاحلول استسلامية".
اليوم، وبعد ازدهار الحركة الإسلامية وتطور موقف نخب الأحزاب اليسارية وطريقة تعاطيها مع عناصر الملف الفلسطيني وانتهاج هذه النخب منحى أكثر واقعية، أصبحت نقط الخلاف بين الطرف الإسلامي، من جهة، والطرف اليساري والعلماني، من جهة أخرى، تتعدد وتتعمق، رغم اعتبار قطاعات واسعة من الطرفين أن قضية فلسطين يمكن أن تشكل مجالاً حيوياً لتجريب إمكانات التعاون المشترك والنضال الوحدوي؛ ولم يؤد بذل عدد من الخطوات، على هذا الصعيد، إلى صياغة أجوبة موحدة على عدد من الأسئلة الهامة، ومنها على وجه الخصوص :
- هل صوت فلسطين تمثله حماس أم مجموع الهياكل المنتخبة للشعب الفلسطيني؟ الإسلاميون يعتبرون أن فلسطين هي حماس وحماس هي فلسطين، فكراً وموقفاً وممارسة، وكل ماتقوم به حماس صحيح وسليم، دائما، ولايُمكن أن يُنسب إليها خطأ، وأن المعول عليه هو "الشرعية النضالية"، ولهذا فبما أنها رمز النضال الحق فلها، مثلاً، أن تفعل في غزة ما تشاء، كأن تعدم شباناً بدون محاكمة بتهمة العمالة لإسرائيل. وفتح، في نظر الإسلاميين، هي جماعة دحلان والرجوب، وهي الفساد عينه، والاغتناء غير المشروع، والتنسيق الأمني مع العدو، وأبومازن لا يمثل إلا، ما يسمونه، سلطة رام الله. لكن، لماذا لا نعتبر أن فتح هي الأسير البطل مروان البرغوتي والشهيد البطل ياسر عرفات وآلاف الأسرى الموجودين، اليوم، في السجون الاسرائيلية، وأن أبومازن رئيس منتخب يمكن، كأي رئيس، أن يرتكب أخطاء يحاسب عليها داخل المؤسات الفلسطينية؛ وأن حماس جزء من الشعب الفلسطيني وقوة مناضلة وصامدة قدمت جسيم التضحيات، ولكن هذا لا يمنحها الحق في تحويل غزة إلى إمارة مستقلة وفرض الأمر الواقع بقوة السلاح بدعوى التصدي لمؤامرة (وذلك، طبعا، قبل إنشاء حكومة الوحدة الوطنية). النسيج الفلسطيني غني ومتنوع ومشكل من حماس وفتح والجهاد والشعبية وكل الفصائل الأخرى، والقرارات التي تتخذها أو اتخذتها الأجهزة المقررة للشعب الفلسطيني تلزم الجميع، والتقدم للانتخابات يعني تزكية القرارات المنبثقة عن منظمة التحرير الفلسطينية. هناك فرق بين أن ندعم، هنا في المغرب، خط حماس ونرفعه إلى مقام المقدس، لاعتبارات إديولوجية، وبين أن ندعم ما يتوافق عليه الفلسطينيون وأن ندعو إلى تغليب خيار الحوار والتنسيق والمصالحة.
- هل نطالب بحدود 48 أم بحدود 67؟ الإسلاميون، على وجه الخصوص ومعهم بعض اليساريين أيضاً، يرددون اللاءات الشهيرة : لاصلح ولا سلام ولا اعتراف ولا مفاوضة، ويعتبرون إسرائيل مجرد كيان يجب أن يزول، والدولة الفلسطينية يتعين أن تُقام على كامل التراب الفلسطيني، والقمم العربية التي قبلت بحل الدولتين وبفلسطين في حدود 67، تمثل الأنظمة ولا تمثل الشعوب، وأن العدو لن يسمح بقيام فلسطين في حدود 67 أو بقيامها في حدود 48 ولذلك فالأجدر بنا أن نطالب بحدود 48 ! هذا الرأي يتجاهل المسار التاريخي الطويل للنضال الفلسطيني وما أثمرته جهود منظمة التحرير والالتزامات التي قدمها الفلسطينيون للعالم وأكسبتهم دعم أغلب بلدان المعمور وأفسحت لهم مكاناً تحت الشمس بكفاحهم المرير وتضحياتهم الجمة واقتدارهم الدبلوماسي، ولا يمكن اليوم أن يقلبوا ظهر المجن، وأن يتصرفوا كما لو كانوا الوحيدين في هذا العالم، أو يتعاملوا بمنطق أن العهود لا قيمة لها، ماداموا، منذ البدء، أعلنوا تمسكهم بالثوابت التالية : فلسطين في حدود 67،وحق اللاجئين في العودة، والقدس الشريف عاصمة للدولة.
التحليل الذي يذهب إلى أن التطور الديمغرافي بالمنطقة، في بيئة ديمقراطية علمانية وفي إطار ضمان حق العودة لعرب 48، قد يفضي، تلقائياً، إلى زوال اسرائيل، يستصوبه المقررون الإسرائيليون، أنفسهم، ولهذا يلحون على يهودية دولتهم، حتى لا يتحول حل الدولتين، في نظرهم، من صيغة (إسرائيل- فلسطين) إلى صيغة (فلسطين1- فلسطين 2). لكن الانطلاق، مثلاً، من أن هذا التحليل يبرر رفع شعار( تدمير إسرائيل) لا يخدم فلسطين، نهائياً، ويعيد إلى الأذهان الذكرى الأليمة لمقولة إلقاء اليهود في البحر ولأخطاء بعض الرموز الفلسطينية التقليدية التي تبنت فكرة التحالف مع الشيطان لحماية حقوق الفلسطينيين من الضياع.
- هل المرجعية الدولية ملزمة لنا أم لا؟ الحركة الإسلامية تتجه، عموماً، إلى تبني وجهة نظر قائمة على إعطاء الأسبقية ل " مرجعيتنا الخاصة" والانطلاق من عدالة وقدسية قضيتنا ومن خرق اسرائيل المستمر للقرارات الأممية ومن كون الأمم المتحدة هي لعبة في يد الكبار يصنعون بها ما يشاؤون، لترتيب الموقف الذي علينا أن نتبناه، من جهتنا،والمتمثل في نوع من "الرد بالمثل" والاستهانة بقيمةالالتزامات الدولية الواقعة على عاتقنا. إذا كنا نستنكر عدم احترام إسرائيل لمقتضيات المرجعية الدولية، فكيف نسمح لأنفسنا بالتحرر منها أو نأتي فعلاً أو قولاً يُفهم منه ذلك؟ المفروض أن الأمم المتحدة تعيش واقعاً نريد تغييره نحو الأحسن في اتجاه تكريس دورها كإطار للتجاوب مع حقوق الشعوب وتطلعاتها والانتصار لقيم السلم والتعاون والتعايش والتضامن الإنساني. الاعتراف الدولي بإسرائيل أمر واقع لا يمكن رفعه، ووجود مقعد لفلسطين في الأمم المتحدة له ثمنه، ونحن جميعاً في حاجة إلى الأمم المتحدة رغم عيوبها.
الخلاصة التي تنتهي إليها، منطقياً، بعض التحليلات الإسلامية، والتي لا يجري الإفصاح عنها صراحة، هي الانتصار لفكرة الانسحاب من الأمم المتحدة، وهذا يسمح لنا بالقول، ربما، أن أصحاب هذه التحليلات إما أنهم يزايدونأو لا يعيشون معنا، البتة، في هذا العصر !
وللأسئلة بقية...