تـقـديـم الـضـمـانـات بين الطرفين الاسلامي و العلماني
زنقة 20 . الرباط
بقلم : محمد الساسي
بين الطرفين الإسلامي والعلماني، ينتصب جدار من التوجس والحذر والاحتراس.. كلا الطرفين لا يثق بالطرف الآخر ولا يُحْسِنُ به الظن ولا يطمئن إلى نواياه ولا يرى أن بالإمكان التعامل معه بكامل الأمان؛ وكلا الطرفين ينتظر، ربما، أن يُقَدَّمَ إليه ما يكفي من الضمانات على أن مصالحه الحيوية لن تُمَسَّ، في مرحلة من المراحل، إذا تأتى للطرف الآخر الوصول إلى السلطة أو احتياز أسباب القوة والغلبة أو الفوز بالأغلبية، وأن هذا الطرف "الغالب" سيظل، في جميع الأحوال، مراعيًا لما يتعين أن يترتب عن علاقات التوافق والتعاون، التي نشأت بين الطرفين في السابق، من نتائج والتزامات وتعهدات.
الإسلاميون يخشون، مثلاً، في حالة ما إذا تَمَّ التنصيص على مبادئ علمانية في الدستور، وأصبحت أيدي العلمانيين طليقة، وهم في مواقع التقرير، بسبب غياب سلطة مضادة وازنة، أن يؤدي ذلك إلى :
- العمل على فصل الدين عن المجتمع وعدم الاكتفاء بفصل الدين عن الدولة، ومحاربة مختلف أشكال التدين والالتزام الديني، والتضييق على المتدينين، وتجريد الدين الإسلامي من مكانته في الإعلام والمدرسة، وإلغاء وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية؛
- حل الجمعيات الدعوية والدينية أو وضع مزيد من العراقيل والمطبات في طريق عملها ومحاصرة أنشطتها؛
- الضغط على المجتمع للتخلي عن ديانته، وشن حرب على الدين الإسلامي؛
- إقفال المساجد أو خوصصتها، ووقف جميع أشكال الدعم العمومي عنها والتخلي عن تنظيمها ورعايتها من طرف السلطات العمومية؛
- إلغاء العطل الدينية وانسحاب الدولة من حقل تنظيم الشعائر ومن الإشراف على الاحتفالات والعادات الدينية؛
- حظر الأحزاب "ذات المرجعية الإسلامية"، بدعوى أنها تمارس التمييز بين المواطنين على أساس ديني، أو حرمانها من عدد من الحقوق المخولة لغيرها من الأحزاب؛
- السقوط في نوع من الطائفية والاقتتال المذهبي بسبب كف الدولة عن ترسيم المذهب المالكي السني وعن فرضه في الفضاء العام؛
- تعميق التوجهات المنافية للأخلاق، داخل المجتمع، تحت ستار حماية الحريات الفردية، وذلك بتشجيع انتشار العلاقات المثلية والانحلال والإجهاض والبغاء وشرب الخمر والعري والفن الساقط والجريمة والعنف والمس بالذات الإلهية والتفكك الأسري.
يرى الإسلاميون أن هناك قرائن متعددة تحملهم على الاعتقاد بأن العلمانيين قد يستغلون أية نقطة ضعف في البناء الدستوري والمؤسسي لكي يعيثوا في الأرض فسادًا ولكي يحاربوا الإسلام والإسلاميين، علانية، ويدوسوا على حقوقهم ويخنقوا أنفاسهم. القرائن التي تغذي تخوفات الإسلاميين تتجلى، مثلاً، في : 1- العلمانيون سبق لهم أن شغلوا مواقع التدبير العمومي ولم يثبتوا أنهم ديمقراطيون بالحق والحقيق، بل إنهم أَخَّرُوا قطار الديمقراطية عن موعده، وقبلوا بديمقراطية صورية تخدم مصالحهم، وتحالفوا، أحيانًا، مع الاستبداد ضد الإسلاميين، وساهموا في التضييق على العمل الإسلامي، ومسوا بشروط المنافسة الشريفة، وتشبثوا بفصول الدستور الأكثر محافظة لاستخدامها ضد الحركة الإسلامية، ولم ينتفضوا ضد الانتهاكات التي كانت هذه الحركة ضحية لها، ولم يعترضوا على منع الإسلاميين من جني ثمار كدهم الانتخابي وعلى تزوير النتائج الانتخابية لدوائر فاز فيها مرشحو الحزب الإسلامي؛ 2- الهوة السحيقة التي سقطت فيها العلاقات بين الأعضاء، داخل الحزب العلماني الواحد، تبين أن هؤلاء الأعضاء لا يستحقون أن يكونوا محل ثقة خصومهم، بعد أن فَقَدَ المنتمون إلى ذات الحزب الثقة في بعضهم البعض. الإسلاميون يعتبرون أنهم يستمدون قوتهم، اليوم، أساسًا، من قوة ارتباط المجتمع بالإسلام، ولذلك فلن يتورع العلمانيون، إذا ما أُتيحت لهم الفرصة وتَيَسَّرَ لهم الأمر، عن محاولة فك ذلك الارتباط لهزم الإسلاميين وإضعافهم.
ويخشـى الإسلاميون، كذلك، في حالـة فوزهم ووصولهـم إلى السلطـة أن يحاول العلمانيـون، مع ذلك، ممارسة نوع من ديكتاتورية الأقلية، بدعوى قدسية الحريات، مثل اعتبار عريضة لحفنة من الموقعين أو مظاهرة لبضع مئات من العلمانيين، أساسًا شرعيًا لإسقاط حكومة إسلامية منبثقة عن صناديق الاقتراع، بعد فشل خصومها في الفوز بثقة الناخبين.
العلمانيون، من جانبهم، رغم أن مجموعة منهم تحترم الإسلاميين وتقدر نضالاتهم وتضحياتهم ودورهم في حركة 20 فبراير وسلامة طوية قواعدهم وجماهيريتهم وترفض أن تُصَادَرَ حقوقهم، فإنهم يخشون، في حالة وصول الطرف الإسلامي إلى السلطة وتمكنه من وضع دستور يلائم توجهه، وإمساكه بأدوات ووسائل الحكم الحقيقية، أن يفرض أمرًا واقعًا في البلاد متمثلاً في :
- تكرار السيناريو الإيراني بكل عيوبه، والذي بدأ بتحالف الإسلاميين مع الشيوعيين ثم جرى التنكيل بهؤلاء، في ما بعد، رغم دورهم في نجاح الثورة، وانتهى الأمر إلى تكريس غياب أي إمكان للتداول السلمي بين الاتجاهات السياسية المختلفة وإلى الاقتصار على نوع من "التباري" بين ما يُسمى بالإصلاحيين وما يُسمى بالمحافظين داخل نفس الاتجاه السياسي القائم منذ عقود؛
- استعمال التقية، التي غدت منهجًا محبوبًا وجاريًا لدى الإسلاميين، للتحلل من التعهدات والالتزامات والتنكر لما تَمَّ الاتفاق فيه مع العلمانيين؛
- إقبار الديمقراطية بعد الوصول إلى السلطة، اعتمادًا على تصويت الأغلبية لفائدتهم، بدعوى الدفاع عن نموذج خاص للديمقراطية يلائم، في نظرهم، خصوصيتنا الحضارية، رغم أنه يحيد عن القواعد المشتركة في كل " الديمقراطيات"، واستخدام جزء من القواعد الديمقراطية (السيادة الشعبية – حق البرلمان في التشريع) للإجهاز على جزء آخر من تلك القواعد (الحريات والحقوق- فصل السلطات)، وتبرير كل من المس بحرية التعبير والاعتقاد، ومحاكمة النوايا، وحرمان المعارضة من حقوقها، بكونه يترجم "إرادة الشعب"؛
- إحياء طقس عبادة الشخصية وإحاطة الزعيم القائد و"الإمام" المبجل بالحصانة، ومنحه سلطاً بلا ضفاف ولا حدود؛
- التراجع عن المقتضيات الحديثة، المتعارف عليها، لتنظيم مختلف مناحي الحياة العصرية (الأبناك – الإدارة – التأمين – الإعلام – السير والجولان – الضريبة – الصحة – السياحة – الرياضة – الضمان الاجتماعي – التعمير – التجارة – التوثيق – الانتخابات – التشريعات – الأعراف و الأوفاق الدبلوماسية – المبادلات التجارية العالمية ....إلخ)؛
- حرمان المرأة من مكتسباتها، خاصة تلك المسطرة في مدونة الأسرة المغربية؛
- اعتماد نظام جنائي يقر بتر الأطراف ورجم الجناة، وإضفاء طابع دموي على أشكال الجزاء. كل قانون جنائي ينطوي على الردع، وكل ردع ينطوي على قدر من العنف، لكن، لا يمكن الاعتماد على العنف وحده كرد فعل عام في مواجهة الجنوح، ولم يعد العصر الحديث يقبل تجاوز قدر محدد من العنف؛
- المس بحرية اللباس وفرض الحجاب واعتبار غير المحجبة عاقة وخارجة عن دين الجماعة؛
- إقامة تمييز بين المواطنين المسلمين وغير المسلمين، والمس بحقوق الأقليات الدينية، واعتماد معيار القناعات الدينية في إسناد بعض الوظائف السامية؛
- محاربة الفن بدعوى التمييز بين الفن النظيف والفن غير النظيف، ضداً على القواعد المتعارف عليها، عالمياً، في هذا المضمار، وتحريم أنواع معينة من الرياضات والفنون (الباليه – نحت التماثيل)، وفرض المزيد من الرقابة على الأعمال الإبداعية، واعتماد معايير دينية في قراءة وتقويم الأعمال الفنية كبديل عن المناهج الحديثة للنقد الفني والأدبي، ومنع أنواع معينة من الموسيقى والإنتاج الدرامي، وإغلاق أماكن الترفيه والتسلية الخاصة بالبالغين، ومنع العروض الفنية لفنانين أجانب حاملين لقناعات مختلفة عن قناعات الحاكمين، والسماح بتبديد بعض نماذج التراث الإنساني؛
- شطب كل ما يتعلق بالتاريخ المغربي ما قبل الإسلامي من المقررات الدراسية، وإلغاء بعض المعارف، أو التضييق على تدريسها، كالفلسفة والنظريات الداروينية والفرويدية أو عرضها بشكل غير علمي..إلخ؛
- فرض التراجع عن قيم الفكر العقلاني والفكر النقدي والفكر المقارن في برامج التربية والتعليم، وشحنها بالمفاهيم المكرسة للانغلاق والتشدد الهوياتي، وشيطنة الآخر، بشكل منهجي، وإحياء تناقضات الماضي السحيق بيننا وبينه؛
- منع صناعة أو بيع الخمور والدخان، علماً بأن العلمانيين لا يجادلون في مضار هاتين المادتين ولكنهم يلتمسون طريقاً إرشادياً وتهذيبياً، وأقل عنفاً، في محاربتهما ويزكون الإجراءات الهادفة إلى حماية القاصرين، ومنع الإشهار الخاص بهما في وسائل الإعلام العمومي، واستمرار المعاقبة على السكر العلني؛
- إجبار الأسر التي ترتاد الشواطئ، طلباً للاستجمام، على توزيع أفرادها بين مصطافات الذكور ومصطافات الإناث، والتفريق، بالتالي، بين الآباء وأبنائهم، ومنع الاختلاط في القاعات الكبرى للرياضات والعروض ووسائل النقل والمؤسسات التعليمية.
يرى العلمانيون أن هناك قرائن متعددة تحملهم، هم، أيضاً، على الاعتقاد بأن الإسلاميين قد يستغلون مواقع السلطة والحكم لممارسة ما يعتبرونه "إعادة أسلمة" للدولة والمجتمع، ونسف الديمقراطية من الداخل، ومحاولة العودة بالتاريخ إلى الوراء، والإمعان في تركيز مظاهر التخلف. وأبرز قرينة، هنا، هي ما يكتنف حديث الإسلاميين عن الديمقراطية من غموض وتناقض؛ فبينما يقدم العلمانيون تصوراً واضحاً وقابلاً للتشخيص العيني، يتحدث جزء كبير من الإسلاميين عن تصور ليس له نموذج قائم على الأرض، اليوم، قابل للاقتباس دون مشاكل، ويطلبون من الآخرين أن يركبوا معهم قطاراً لا تُعرف وجهته، أو يقترحون إضافة "زوائد" إلى كيمياء الديمقراطية بشكل يُفْقِدُ هذه الأخيرة طعمها الخاص.