الـحـضور الروحي
بقلم : محمد الساسي
كان حلول الذكرى الرابعة لانطلاق مظاهرات حركة 20 فبراير 2011 مناسبة لتنظيم وقفات رمزية، ولنشر مقالات تحليلية ودراسات، في الصحافة، عن الحركة، وللإعلان عن صدور كتب جديدة تتناول الموضوع ذاته؛ وهكذا صدر كتاب (مسار ومآل حراك مغربي من أجل الحرية والكرامة) عن جمعية أنفاس الديمقراطية، وكتاب (وُلِدَ يوم 20 فبراير) لدنيا بنقاسم، وكتاب (حركة 20 فبراير : محاولة في التوثيق) عن جمعية الوسيط من أجل الديمقراطية وحقوق الإنسان. هذه الإصدارات تنضاف إلى كتاب عبد السلام البقالي(l’an 1 de la Cyber Démocratie au Maroc)، وكتاب محمد العسري (مشروعية مطالب حركة 20 فبراير)، وإلى الأبحاث الجامعية التي هي قيد الإعداد...إلخ.
الكتاب الصادر عن جمعية الوسيط يوثق للحركة من خلال التحقيب والشهادات والصور، ويضع بين يدي القارئ مجموعة من الشهادات التي أدلت بها نخبة من رموز حركة 20 فبراير ومن أبرز نشطائها، في لقاء تواصلي نُظِّمَ بالهرهورة يومي 02 و03 نونبر 2013. وكان أهم ما تناولته تلك الشهادات، في نظرنا، هو توصيف الحركة من "الداخل"، أي من خلال الجموع العامة والعلاقات الإنسانية والتنظيمية والسياسية بين النشطاء والنقاشات حول العلم الوطني وحول الملكية البرلمانية وحول المساواة بين الرجل والمرأة ومهرجان (موازين) والإكراهات التي فرضت ابتداع فكرة "الأنوية الصلبة" ودور تنسيقية الرباط العملي الذي كان أشبه بدور القاطرة، أحيانًا، بالنسبة إلى حركة لم تكن لها قيادة وطنية ولم يكن لها ناطقون رسميون باسمها.
ومن المعلوم أن النظام أفلح في عزل الديناميات الاحتجاجية عن بعضها البعض ووضع، بواسطة دستور وحكومة جديدين، ترتيبًا سياسيًا لم يكن متوقعًا، نجح من خلاله في الحد من زخم حركة 20 فبراير، ثم تمكن من استرجاع المبادرة. وهو يحاول، اليوم، أن يعود بالمغرب، تدريجيًا، إلى مرحلة ما قبل 20 فبراير 2011؛ وتبين أن هاجسه الأساسي كان هو إطفاء "الحريق" بدون تقديم التنازل الجوهري المطلوب.
القراءات التي تنصب، حاليًا، على حركة 20 فبراير، بما فيها تلك الصادرة عن بعض نشطائها أو المشاركين فيها أو بعض داعميها، تتجنب إسدال ثوب القداسة عليها والذي كثيرًا ما كان يُسدل على مثيلاتها من الحركات بسبب منبعها "الجماهيري"، وتحاول البحث عن أوجه الشبه وأوجه الاختلاف بين أثر الفعل الشبابي الفبرايري، في المغرب، والأثر السياسي الذي تخلفه الحركات السياسية الشبابية التي تشهد، اليوم، صعودًا مثيرًا في بعض بلدان أوروبا (إسبانيا – اليونان). يتعلق الأمر، هنا، ببلدان حققت انتقالها الديمقراطي؛ أما في المغرب، فقد كان أمل النواة الشبابية، خلال مرحلة المخاض في مواقع التواصل الاجتماعي، هو خلق حركة تدشن مسلسلاً يفضي إلى الانتقال المغربي الحقيقي.
وتتساءل القراءات، المشار إليها، عن مدى وجود علاقة بين مآل حراك 20 فبراير ومآل الانتفاضات التي عرفتها المنطقة "العربية والمغاربية"، وتسير، عمومًا، في اتجاه الإقرار بوجود منحى تراجعي عام، لم يستثن المغرب، وبأن دور النخب التقليدية الهرمة، المشبعة بثقافة سياسية قديمة، كان حاسماً في إعاقة أكثر الانتقالات بالمنطقة. لقد أظهر "الربيع" وجود تناقض صارخ بين تصورات جيلين.
وتتساءل القراءات، أيضاً، عن طبيعة التناقضات "الداخلية" التي ساهمت في تحجيم مفعول الحركة وتأثيرها. هل التناقض الوحيد كان بين صف الإسلاميين، من جهة، وصف العلمانيين، من جهة ثانية، أو بين " المعتدلين"، من كلا الصفين، من جهة، و"المتشددين"، من كلا الصفين، من جهة أخرى؟ لقد عانت الحركة من وجود تناقضات عدة، في نفس الوقت، وليس من وجود تناقض واحد. كان هناك "إجماع" على "إسقاط الاستبداد" و"إسقاط الفساد"، ولكن ذلك لم يكن يعني وجود اتفاق حول نموذج النظام السياسي الذي يمثل بديلاً عن الاستبداد والذي يخلق البيئة السياسية المناسبة لمحاربة الفساد واستئصال جذوره.
في الذكرى الرابعة لحركة 20 فبراير، اعتبر الكثيرون أن الحديث عن فشل الحركة بات مشروعاً، تماماً، بعد خسوف وجودها المنتظم بالشارع وعدم توصلها إلى فرض تحقيق هدفها الأصلي. ولكن، هل يسمح لنا ذلك بالإعلان عن موت الحركة ونهايتها وتحولها إلى جزء من الماضي؟
الشباب الذي بادر إلى تدبيج النداءات الأولى للتظاهر، في الشارع، حَرَّكَهُ حافز الوصول بالمغرب إلى شاطئ الديمقراطية، على متن قارب تتحرك أشرعته وفقًا لخط سير الانتقال، كما حددته الترتيبات والدروس والمواصفات التي أفرزتها التجارب الانتقالية الأخيرة في العالم، ويمكن أن نتعرف على ملامح هذا الحافز إنطلاقا من المتن المطلبي الذي أُنتج من طرف المؤسسين في البيت الافتراضي. الكثير من التحليلات لا يتردد، اليوم، في تأكيد حصول فشل واضح على هذا المستوى. لكن بعض الأصوات، من داخل حزب العدالة والتنمية، يقترح مقاربة أخرى في تقييم حصيلة حراك 20 فبراير، ويرى أن الحزب تصرف كممثل سياسي للنشطاء الفبرايريين في المؤسسات، وكمؤتمن على رسالة الحراك الأصيلة، وأنه استوعب المطالب الشبابية و "عقلنها" وأدمجها في مسار إصلاحي شامل هو قيد التحقق، وأن المغرب يعيش، بالتالي، ثورته الحقيقية، وأننا نجحنا في ما أخفق فيه الآخرون، وربحنا رهان الإصلاح دون أن نخسر الاستقرار.
لكن الحكم على نجاح أو فشل مشروع حركة 20 فبراير يجب أن نتوصل إليه من خلال تأمل مصير البنود التي تضمنها دفتر المطالب العشرين. وهكذا فالانتخابات، التي أدت إلى تقلد بنكيران منصب رئيس الحكومة، تمت في سياق تقليدي ولم تختلف نوعياً عن سابقاتها، ولم تستوعب عدداً من القوى الفاعلة في الشارع؛ والدستور، الذي جرى الاستفتاء عليه، رغم بعض الإيجابيات التي وردت فيه، لم يف بمتطلبات بناء نظام ملكية برلمانية حقيقية في المغرب؛ وما صاحب الحملة الاستفتائية من مظاهر مخزنية يترجم غياب إرادة سياسية للانتقال؛ ولم يجر تعيين حكومة وحدة وطنية لرعاية المرحلة الانتقالية المأمولة؛ ولم يُنتخب مجلس تأسيسي؛ ولم يُوضع برنامج إصلاحي وطني متوافق عليه لتدبير مرحلة الانتقال وخطة شاملة لمحاسبة المفسدين ومساءلة مقترفي الجرائم الاقتصادية والسياسية؛ ولم يَجْر إطلاق سراح المعتقلين السياسيين وإلغاء القوانين الماسة بالحريات ومراجعة ملفات تفويت الأراضي الفلاحية؛ ولم تُباشر حملة للتطهير الإداري وإعادة هيكلة الأجهزة الأمنية وحل المجالس والهيئات غير الخاضعة للإشراف الحكومي؛ ولم تُخَفَّض أجور "الكبار"؛ ولم تحل مشكلة وجود الأحزاب "الإدارية" التي شكلت أداة في يد السلطوية للتزوير والتزييف والإفساد وتنصيب مؤسسات صورية...إلخ.
هل سقوط بلدان "الربيع" في مستنقع الاقتتال والفوضى وبين مخالب الاستبداد العائد، يعني، في حد ذاته، أن ما يعرفه المغرب هو انتقال، رغم عدم استيقاء الحالة المغربية لمقومات الانتقال؟ هناك من يريد أن يسوق"الاستقرار"على أنه انتقال وأنه ثورة حقيقية، رغم أن أي "استقرار" بدون ديمقراطية هو مجرد استقرار هش.
إن فشل حركة 20 فبراير في فرض التأسيس للانتقال الديمقراطي، الذي طال انتظاره في بلادنا، لا يفيد، بالضرورة، أن الحركة ماتت وانتهت؛ فهي، إذا كانت لم تُوَفَّقْ في تحقيق الهدف الذي حددته نواتها الأصلية، ولم تستطع ضمان استمرار التظاهر المنتظم في الشارع كشكل نضالي متقدم لانتزاع الحق في حياة ديمقراطية حقة، فإنها، مع ذلك، مازالت حية، كفكرة، تفعل فعلها في أذهان شرائح واسعة من المواطنين وتوجه بعض مواقفهم وأنشطتهم وتشحذ يقظتهم وتنمي لديهم روح التدخل ومواجهة الخروقات والعسف.
حركة 20 فبراير تساهم، اليوم، في تغيير منظومة تفكير الإنسان المغربي، الشاب على وجه الخصوص، وتمرنه على تجاوز الخنوع والخوف من السلطة وعلى رفض الانتظارية، وتذكره بأن السلطوية ليست ضرورية لكي يعيش شعب ما في أمان واطمئنان وبأن لا بديل عن الديمقراطية وأن لا مستقبل للاستبداد في عالم اليوم. ولقد تأكد، من خلال الانتفاضة ضد العفو على كالفان وضد طقوس حفل الولاء، أن روح 20 فبراير مازالت حاضرة. وتتجلى بعض تمظهرات هذا الحضور، اليوم، في مبادرات القراءة الجماعية، مثلاً، وخطوات بعض الشباب المدرسي من أجل تغيير النظام التعليمي، وتأسيس مواقع جديدة على الأنترنيت، وبث نوع جديد من تسجيلات الفيديو القصيرة، وفي المعارك التي تخوضها بعض الأجيال الجديدة من المهنيين وفي أشكال جديدة من الفن والإبداع...
والكتابات والمناقشات الجدية والهامة، التي نُشرت –بمناسبة الذكرى الرابعة- في الصحف والمواقع الإلكترونية، والتي لم تعرها وسائل الإعلام العمومية اهتماما يُذكر، تمثل، هي نفسها، دليلاً على استمرار "الحضور الروحي" لفكرة نبيلة إسمها 20 فبراير.