الأوراش الكبرى
بقلم : محمد الساسي
يفيد خطاب العرش الأخير، ضِمنًا، بأن الذين انتقدوا، على قلتهم، "سياسة الأوراش الكبرى"، في الماضي، والذين شككوا في قدرتها على أن تشكل قاعدة للإقلاع الاقتصادي المأمول والذين كشفوا عجزها عن المساهمة، جوهرياً، في تحسين أوضاع أوسع الجماهير الشعبية، لم يكونوا على خطإ ولم تحركهم، بالضرورة، نوازع المزايدة والعدمية.
هناك تحليلات خارجية وداخلية نبهت، خلال مرحلة "الربيع"، إلى ما يتهدد المغرب من مخاطر نتيجة استمرار التفاوتات الاجتماعية واتساعها وحذرت من حدوث انفجار اجتماعي بسبب وجود مغربين : مغرب "الذين يملكون كل شيء" ومغرب "الذين لا يملكون أي شيء".
وهناك تقرير هام، مؤرخ في يونيو 2010، أنجزته حلقة التحليل الاقتصادي، التابعة لمؤسسة عبد الرحيم بوعبيد، طرح سؤالاً عريضًا : هل المغرب الرسمي يتوفر، حقًا، على استراتيجية للتنمية الاقتصادية؟ وقَدَّمَ عناصر للتفكير من أجل إقلاع اقتصادي واجتماعي.
اعتبر التقرير أنه من الصعب الخلوص إلى أن المغرب يتوفر على تلك الإستراتيجية أو أنه يوجد على طريق الإقلاع الاقتصادي رغم التقدم المسجل منذ نهاية التسعينيات؛ فإذا لم نكتف بمقارنته بالماضي، وقارناه بما كان يمكن تحقيقه في ضوء الإمكانات المتاحة والظرفية الدولية والمحلية الملائمة (2002-2003) وفي ضوء ما حققه منافسونا، فإن هذا التقدم يظل محدودا جدا، وهناك إجماع للمراقبين الخارجيين على أن المغرب لم ينجز أي تقدم دال في ترتيبه الدولي.
ونبه التقرير إلى أنه لا يمكن الاعتماد فقط على السياحة والعقار ومشاريع البنية التحتية لتحقيق الإقلاع المطلوب، فالسياحة وحدها لا يمكن أن تكون محركا للاقتصاد المغربي، والنشاط العقاري يغرق في بحر المضاربة متلاطم الأمواج ويؤدي إلى تعميق توجه لا تصنيعي، وتعزيز البنية التحتية ضروري وليس كافيا.
وأشار التقرير إلى أن المغرب يعاني من إكراهين : الأول مرتبط بالاقتصاد السياسي، فأسس التنظيم السياسي القائم ليست في صالح التنمية، والنظام الانتخابي معيب ويؤدي إلى تحالفات هجينة، والهندسة الحكومية غير ملائمة وغير وظيفية، وهناك تعدد للفاعلين العموميين غير الحكوميين بصلاحيات ممتدة وخارجة عن الرقابة البرلمانية والحكومية؛ والإكراه الثاني مرتبط بـ"الأمية الاقتصادية"، ويتجلى ذلك، أساسا، في عدم دراسة الجدوى على أسس علمية دقيقة، وتجاهل دروس الماضي وتكرار الأخطاء، ووضع سياسات عمومية لا تتوفر لها شروط النجاح.
وسجل التقرير وجود خصاص مريع في شروط الحكامة الاقتصادية، وافتقار المخططات القطاعية إلى التناغم والانسجام، وخضوع السياسات العمومية إلى نظرة قصيرة المدى، واتخاذ القرارات بدون أن يسبقها نقاش واسع وعميق حول مرتكزاتها ودون أن تتوفر مقومات الشفافية وحرية التوصل بالمعلومات الضرورية في شأنها.
وأوصى التقرير بإعمال قواعد الشفافية، وممارسة المسؤولين الحكوميين لصلاحياتهم الطبيعية، وعرض المشاريع على النقاش العام قبل اعتمادها، وإعمال المعايير المعروفة لتقويم السياسات العمومية، وترشيد أجهزة الرقابة والتتبع.
وجاء في نص الأرضية المنبثقة عن المؤتمر الوطني الثالث للحزب الاشتراكي الموحد (دجنبر 2011) أن ما سُمي بالمسلسل الديمقراطي" قد انتهى إلى حسم النظام، بشكل انفرادي وسلطوي، في التوجهات الأساسية للدولة (..) انطلاقاً من أن برنامجا ملكياً هو الطريق الوحيد للتنمية. حاول النظام أن يحيط بسياج من القداسة "الأوراش الكبرى" التي لم يخضع تحضيرها لنقاش وطني، والتي لا تنصهر في بوتقة رؤية تنموية منسجمة ومتكاملة، بل تَمَّ إعدادها في مكاتب مغلقة باسم خبرة غير محايدة في الأصل، بل مُسْتَنْفَرَةٍ لخدمة مصالح خارجية ولوبيات اقتصادية معينة، وفرضت على الشعب المغربي أداء كلفة غالية دون أية ضمانات بأن نتائجها الفعلية على الأرض توازي حجم تلك الكلفة..".
إن هناك، إذن، حاجة ماسة إلى طرح نقاش سليم حول سياسة الأوراش الكبرى، خاصة أن خطاب العرش الأخير يمثل، من بعض الوجوه، تخليًا جزئيًا عن نوع من الثقة المطلقة التي كانت للعهد الجديد بنفسه، في مرحلة ما، وعن قناعته الكبرى بحتمية نجاح مشروعه التنموي وقدرته على أن يشكل سلاحا فتاكا لمحاربة الفقر والبطالة والبؤس والفوارق الاجتماعية. كان النظام يرى أن هذا المشروع يتعين ألا يرتهن إلى حسابات السياسة والسياسيين وأنه يحتاج، فقط، إلى أطر مؤهلة تمتلك الخبرة والكفاءة وتجيد الإنصات لنبض الشعب وتتقن ممارسة فن القرب، وأن المطلوب هو اتخاذ القرارات في دائرة ضيقة واعتبار التكنوقراط مؤتمنين على مستقبل المغرب وبديلا عن السياسيين، وتجنيد نخب سياسية جديدة لمواكبة إيقاع ملكي قَدَّرَ النظام، ربما، أن النخب القديمة لم تعد قادرة على مواكبته. هذا الطرح يعتبر أن بعض المراحل تحتاج إلى قليل من الديمقراطية فقط لكسب رهان التنمية.
إن "الإصلاحات" السياسية التي عرفتها البلاد منذ 15 سنة لم تفض إلى تغيير جوهري في نمط توزيع السلطة. و"الإصلاحات" الاقتصادية والاجتماعية لم تفض إلى تغيير جوهري في نمط توزيع الثروة. ظل الحكم خاضعا لتوجه رئاسي واستمرت الوصاية من أعلى على الحقل السياسي ورفض بناء نظام للحريات يقر بحق جميع الناس في مناقشة جميع القرارات. وفُرِضَ على الحقل الاقتصادي والاجتماعي أن يمتثل إلى مجموعة من العناصر التي يتلخص أهمها في:
· بقاء القرار الاقتصادي والاجتماعي الأساسي حبيس إرادة الحلقة المركزية المتمثلة في القصر والمؤسسات المالية الدولية وشريحة طبقية "مخزنية"، مما أربك بشدة آليات المحاسبة؛
· توظيف القانون لخدمة مصالح فئوية على حساب النجاعة الاقتصادية ومصالح أوسع الشرائح الاجتماعية (القرار السابق القاضي بتمديد الإعفاء الضريبي في القطاع الفلاحي)؛
· ظهور فئة جديدة من محظوظي المرحلة (تمتيع منعشين عقاريين بامتيازات خاصة على أساس تحكمي)؛
· رسوخ علاقة السلطة بالمال (تحقيق المزيد من مخزنة الاقتصاد وتفويت فرص الاستفادة الوطنية من استثمارات أجنبية بسبب استعمال النفوذ السلطوي في خدمة فاعلين اقتصاديين معينين)؛
· بروز ممارسات ريعية واحتكارية جديدة؛
· عدم وضع خطة جدية ومتكاملة وفعالة لمحاربة الفساد؛
· غياب مشروع شامل لمحاربة جمود الإدارة وضعف مناخ الاستثمار؛
· اختناق مسالك دوران الثمار التي يفترض أن تفيض عن الأوراش الكبرى.
وعلى العموم، فإن المشكل المتعلق بالأوراش الكبرى، وبمجمل البرامج الاقتصادية والاجتماعية التي تم تطبيقها خلال الـ15 سنة الماضية، لا يتمثل، فقط، في مدى ملاءمة القرار، كما أشار إلى ذلك الخطاب الملكي، أي في كون "الأوراش والإصلاحات" لم تنتج الثمار المرجوة منها ولم تساهم جوهريا في تحسين ظروف عيش أغلبية السكان وفي الحد من الفوارق، بل المشكل هو، أيضا وأساسا، مشكل مَصْدَرِ القرار، أي الجهة التي مارست سلطة إصدار القرار. القضية الجوهرية، اليوم، هي كيف يرتد القرار إلى مصدره الأصلي، أي إلى المُنْتَخَبِين، ولا تتحول أية جهة أخرى إلى بديل عن هؤلاء، وبالتالي، كيف تخرج الملكية من حقل القرار الاقتصادي والاجتماعي وتقتصر مهمتها على لعب دور المؤتمنة على التسليم الدوري لسلطة هذا القرار إلى المنتخبين عقب كل انتخابات، وتضمن بذلك استمرار سير المؤسسات. وكل قرار اقتصادي أو اجتماعي تتخذه سلطة أخرى، غير سلطة المنتخبين، هو قرار خاطئ، مبدئيا، من الوجهة الديمقراطية مهما كانت درجة سلامة بنائه الداخلي.
وقد سجل بعض الملاحظين وجود تباين بين خطاب رئيس الحكومة عن الحصيلة، أمام البرلمان، وخطاب الملك بمناسبة عيد العرش، والذي قدم فيه تقييما للحصيلة. خطاب بنكيران قَدَّمَ قراءة مفعمة بمعاني الارتياح والإشادة، وخطاب الملك قَدَّم قراءة حافلة بالنقد والاستفهام والنسبية. ورغم أن الحصيلة التي يتحدث عنها بنكيران هي حصيلة الفترة التي مرت من عمر التناوب الثاني، والحصيلة التي تناولها الملك بالنقد هي حصيلة فترة مُلكه، فهل يُعَدُّ مثل ذلك التباين أمرًا طبيعيًا في سياق مؤسسي ديمقراطي؟ وما الذي كان يتعين صنعه على مستوى العلاقات بين المؤسسات لضمان انسجام القرارات التي تنبثق من القراءتين مع إفرازات الحقل الانتخابي؟ وإذا كانت سياسة الأوراش الكبرى قد تقررت في ظل دستور 1996، فهل سيجري تطبيق التوجه المستفاد من الخطاب الملكي، بخصوص مراجعة هذه السياسة أو إصلاح أعطابها، بنفس الطريقة التي جرى بها تقريرها أم إن دستور 2011 سيفرض تعديلاً ما على تلك الطريقة؟