بوليساريو الداخل
مع عودة ملف الصحراء إلى واجهة النقاش، من المشروع أن يُطرح السؤال عن نوع الخطاب والسلوك الرسميين، اللذين سينتجهما النظام والأحزاب السياسية بهذه المناسبة، وعما إذا كان سيتم تغيير المقاربة والمنهج المتبع في معالجة قضية الصحراء، سواء داخل الأسرة الوطنية أو مع الآخر.
هل سنكتفي مرة أخرى بالإلقاء باللائمة على الآخر ونحجم عن القيام بأي نقد ذاتي ونتجنب الاعتراف بالأخطاء وبنقاط الضعف القائمة في الموقف المغربي.
صحيح أن المغرب استطاع تملك عدد من نقاط القوة الأساسية، ويتمثل ذلك في وجوده على الأرض، وطريقة تدبيره لاسترجاع وادي الذهب، والحفاظ على علاقة جيدة مع موريطانيا، وعدم الانجرار إلى حرب مع الجزائر، وتشييد بنية تحتية مهمة بالصحراء، وضمان شروط الحياة العادية والآمنة بالمنطقة عمومًا رغم بعض المناوشات بين الفينة والأخرى، وبناء الجدار العسكري، وطرح فكرة الحكم الذاتي، والاهتمام بالتراث الحساني...إلخ.
مع ذلك، تظل نقاط الضعف كثيرة ومتعددة، ومنها مثلاً خرق حقوق الإنسان في الصحراء كما يقع في الشمال أيضًا، وتواصل مظاهر السلطوية والتحكم والشطط، والحياد عن أصول الحكامة في التدبير، والسماح بانتشار أشكال متعددة من الريع، وانعدام سياسة شمولية ومنهجية لمحاربة الفساد ولاجثثات أسسه، وضعف الأداء الدبلوماسي، والتوسل، في الترافع، إلى خطاب تقليدي ماضوي وعتيق، واستعمال وسائل لانظامية في الاستقطاب، واعتبار ولاء شيوخ القبائل كافيًا، وإخضاع الانتخابات العامة لترتيبات من أعلى..إلخ.
لكن نقطة الضعف الأساسية، التي يجب أن نبحث عن أساس جديد لمعالجتها، أيًّا كان "الحل" الذي سيتم اعتماده وأيًّا كانت التطورات التي سيعرفها الملف والمسالك التي سيعبرها، هي أن جزءًا من أبنائنا في الصحراء، أصبح يعتبر بأن بناء دولة في الصحراء، هو المطلوب وليس شيئًا آخر.
يتعلق الأمر بشباب وُلِدوا بعد المسيرة الخضراء، لا يهتمون بتقليب صفحات التاريخ ولا بالتنقيب عن شهادات وروايات الأجداد، بل يجدون في شعار تقرير المصير الملاذ والملجأ، ويعتبرون أن تقرير المصير ليس له من صيغة سوى إقامة الجمهورية الصحراوية.
لا يكفي، إذن، أن تكون فكرة الحكم الذاتي جيدة، بل يجب أن نتوصل إلى إقناع هؤلاء الشباب بأنها كذلك، ولا يمكن أن نقنعهم إذا كانت علاقاتنا بهم لا تحكمها الثقة. ومعنى ذلك أن علينا أن نبني معهم علاقة جديدة تجعلهم ينصتون إلينا بإمعان ويحاولون فهم مغزى البدائل التي نقترحها عليهم، ولا يعتبرون ما ندلي به إليهم مجرد خدعة ومناورة وامتدادًا لخطابات الماضي. وعلينا، أيضاً، أن نحاول فهم الأسباب التي جعلت خطاب جبهة البوليساريو ينجح في استمالتهم، وخطابنا يفشل في ذلك.
لا يمكن أن نعرف حجم هؤلاء الشباب –وإن كنا لا نقول أنهم يمثلون الأغلبية-، ولكننا في جميع الأحوال، مطالبون بالتعامل مع أسئلتهم وهمومهم وانشغالاتهم بعقلية متفتحة وبالقدر المطلوب من الجدية والصدق، وبلا تشنج أو عُقَدٍ أو أحكام مسبقة. كما أننا مطالبون بتجاوز تلك الفكرة القائلة بأن جميع هؤلاء الشاب هم عملاء ومرتزقة وباحثون عن الشهرة ومرضى نفسيون وأدوات مسخرة في يد مخابرات جزائرية أو إسبانية..
هؤلاء الذين نلقبهم ب(بوليساريو الداخل) هم أبناؤنا الذين نراهم في الشارع، يدرسون بكلياتنا ومعاهدنا، ويتحاورون ويتجادلون ويتصارعون فكريًا مع أقرانهم، ينظمون أنفسهم، ويتظاهرون، ويشاركون بالتدخل في ندوات عمومية، ويعلنون انتماءهم، ويدافعون عما يعتبرونه قضيتهم المقدسة، ويرفعون أعلام "الجمهورية الصحراوية" ويكتبون الشعارات المؤيدة لها على الجدران، ويدبجون البيانات ويراسلون المنظمات الحقوقية عبر العالم، ويوجهون وفودًا للمشاركة في منتديات دولية. هؤلاء الشباب، أو جزء منهم، هم الذين نظموا مخيم "اكديم إيزيك".
وقد نشأ، مؤخرًا، لدى بعض الأوساط الحقوقية، وعي بضرورة محاورة (بوليساريو الداخل)، بمشاركة شباب صحراوي وحدوي، وتبين أن عددًا كبيرًا من حملة الطرح الانفصالي يجاهرون بنقد قادة الجبهة بتندوف ويتشبثون باستقلالهم عن الاستراتيجيات والحسابات الخاصة بهؤلاء القادة أو بدول المنطقة.
عدد من هؤلاء الشباب كان مستعدًا، في عدة مناسبات، لتقديم تضحية قد تصل إلى الموت، ولم يكن الإعلان عن ذلك مجرد لعبة إعلامية، بل يفيض عن قناعة حقيقية. ومهمتنا هي أن نعرف كيف توَلَّدت هذه القناعة لدى هؤلاء الشباب وما الذي جعلهم يندفعون نحو تبني الطرح الانفصالي؟ ويمكن بهذا الصدد، أن نجازف بعرض ما نعتبره دوافع محتملة ساقت بعض شبابنا نحو هذا الطرح :
هناك تأثير الإيديولوجيا الماركسية، التي جعلت البعض –في مرحلة ما- يحلم بتحويل الصحراء إلى بؤرة ثورية وقواعد حمراء لتصدير الثورة إلى المغرب وبناء دولة العمال والفلاحين. ومن المعلوم أن الحزب الوحيد في المغرب الذي يتبنى شعار (تقرير المصير) في الصحراء، هو الحزب المُصَنَّفُ عادة في خانة الأورثدكسية الماركسية. اليوم، نحن في زمن الموجة الرابعة للانتقالات، والثورة الإيديولوجية الخالصة أصبحت، ربما، جزءًا من الماضي، واليسار يتطور ويطور أفكاره ويختار له مكانا في سيرورة الانتقال، والثورة، التي من المفروض أن تقود إلى الانتقال في المنطقة المغاربية والعربية، لم تعد محتاجة إلى بؤرة ثورية.
وهناك عشق الجمهورية، ذلك أن بعض الشباب يعتبرون الملكية مرادفة للرجعية والتسلط والتخلف والاستبداد والريع والقيم الإقطاعية، وملازمة لطقوس ومراسيم يعتبرون أنها تمس بالكرامة وترمز إلى العبودية ويرفضون الخضوع لها. لهذا يكفي في نظرهم أن يكون نظام الدولة، التي ستقوم بالصحراء، جمهورياً لكي يحظى اختيار بناء تلك الدولة بالمشروعية ولو على حساب الوحدة الترابية للمغرب. ويرون، ربما، أن من شبه المستحيل أن يؤدي التطور التلقائي لملكيات البلدان العربية إلى ملكيات برلمانية. لكن، من قال يومًا إن تطور ملكيات المنطقة متروك إلى أريحيتها وإرادتها الذاتية فقط. النضال الجماهيري الملموس يمكن أن يضمن دفع الملكية إلى استيعاب منطق المواطنة والديمقراطية وإضفاء طابع عصري عليها. ففي بلدان الملكيات البرلمانية الأوروبية –التي لم تكن في الماضي أقل استبدادًا من الملكيات الحالية بالشرق- يظل بعض أفراد المجتمع، اليوم، متشبتون بالخيار الجمهوري من الناحية الفلسفية، ولكن ما تقدمه الملكية القائمة من حقوق وضمانات يجعل أغلب أفراد المجتمع يعتبرون أن شكل النظام لا يخلق لهم أي مشكلة.
وهناك الشعور بوجود هوية أو قومية صحراوية قائمة الذات، خاصة أن هجوم العولمة الكاسح وما فرضه من تنميط ثقافي، أيقظ، في العديد من البلدان، الهويات الذاتية المتعددة داخل البلد الواحد، وأدى إلى رفض هيمنة هوية واحدة. إلا أن هناك أمثلة على نجاح التطور المؤسساتي داخل الدولة الواحدة في توفير أسباب احترم الاختلاف والتعدد وتأمين حقوق المجموعات الإثنية والترابية ووسائل تقرير مصيرها، في حضن الوطن، وتمثل الجماعات المستقلة بإسبانيا مرجعًا نموذجياً.
وهناك الحكم على "الديمقراطية" المغربية بالفشل واعتبار أن الاعتراف -من طرف الشباب الصحراوي- بالصحراء كجزء من المغرب هو تزكية للزيف واندماج فيه ومنح المشروعية لتقاليد التسلط المخزني ونخبه التابعة. هذا التصور، ربما، يُلغي من حسابه وجود قوى مستقلة عن المخزن وتناضل من أجل التغيير الجذري الشامل. وبالتالي، يمكن خوض نضال مشترك معها من أجل نوع من التقرير الشامل للمصير، في الصحراء وفي الشمال، عبر نقلة ديمقراطية جوهرية، تقر بالسيادة الشعبية وبأقصى الحقوق الممكنة للجهات والوحدات الجغرافية المختلفة وفي طليعتها الصحراء.
وهناك الإحساس بجسامة الانتهاكات التي مُورست ضد أبناء الصحراء وبصور القمع والتنكيل والنهب التي عاينوها في منطقتهم، والخوف من أن يؤدي "حل المشكل" غدًا إلى سلوك انتقامي، خاصة أن "مسلسل الإنصاف والمصالحة" لم يحقق الهدف المتوخى من العدالة الانتقالية، عمومًا، وهو حماية المستقبل. ولهذا فنحن في حاجة إلى مسلسل جديد وحقيقي للإنصاف والمصالحة..
هناك حاجة إلى حوار مع شباب (بوليساريو الداخل) الذين يرفضون العنف، ولن ينجح هذا الحوار إلا إذا كنا قادرين، من خلال الخطاب والسلوك والممارسة، على تقديم ردود مقنعة، في مخاطبة الهواجس التي تخالج هؤلاء الشباب.
أن أتساءل ماخطب مشروع الجهوية الموسعة التي يمكنها أن تحل أكثر من مشكل في المغرب. و لمذا لا يتم تفعيل هذا مشروع؟ أم سنبق في هذا البلد الحبيب دومل نفس الكلام و الموسيقى التي لا تطرب أحد. يجب أن يعيد مسؤولون النظر في أنفسهم لأن امراض المشارع الواهية والورقية في مختبرات قد ولى زمنها، وهذا اليوم الصحراء ذدا سننرى شيئ أخر وفي نظري يجب أن توزع على مسؤولين اربعة مقالات فلسفية للمناظل ومفكر ماو كي يفهموا معنى ممارسة العملية والنظرية.
قبل الحوار مع انفصالي الداخل يجب وضع خطة لاقلاع اقتصادي حقيقي في الاقاليم الجنوبية لتكون حجر الاساس في تفاهم من شانه كسب ثقة الساكنة الصحراوية ،فالقضاء على البطالة ،وايجاد فرص للعمل ، واحترام حقوق الانسان تماشيا مع ما جاء في توصيات المجلس الاقتصادي والبيئي ،وايجاد مقاربة تشاركية في تدبير الملف مع الفعاليات الاساسية في المجتمع كالجمعيات والمفكرين والاطر ،كل هذه العوامل هي الضامن لاي تقارب فكري نحو افاق مستقبلية لحلحلة نمط التفكير لدي بعض الشباب الصحراوي . ان اي تجاوب من قبل السلطة مع هؤلاء سيحظى بمصداقية حقيقة لو توافرت الشروط الانفة الذكر ،وفي غياب اي منها سيظل الحال كما يقول المثل (لا زالت حليمة عند عادتها القديمة ).