محمد الساسي

avatar

انتهاكات جسيمة

التطورات الدموية الحالية في مصر، جعلت البعض يحاول أن يجعلنا ننسى أصل تكون المشكل كله، ونتعامل مع نتائج مسلسل سياسي دون استحضار أسبابه والعوامل التي صنعته. نقطة البدء تمثلت في ظهور وليد جديد هو حركة "تمرد" التي تطالب بتنحي الرئيس محمد مرسي، ورعايتها لعمليات توقيع على ملايين العرائض بهذا الشأن. ثم جاء خروج ملايين المصريين إلى الشارع يوم 30 يونيو 2013 مطالبين، أيضا، بتنحي الرئيس مرسي وبتنظيم انتخابات سابقة لأوانها. وتجلى، من خلال ذلك، أن نشاط حركة "تمرد" يعكس شعورًا عاما وعارمًا يخالج عمق الشعب المصري بأطيافه المختلفة، وأن تنظيم هذه الانتفاضة الجديدة أكبر من أن يكون مجرد ترتيب مخابراتي.
رد فعل مرسي والإخوان لم يحمل ذرة واحدة من التبصر أو من القدرة على فهم ما يجري، إذ تمَّ الاكتفاء بالقول، بكل بساطة، بأن ما يجري هو انقلاب على الشرعية، ومن ثمة خلص الإسلاميون إلى صياغة نظرية مفادها أن الثورة لا تجوز ضد رئيس منتخب بصورة ديمقراطية، وأن مثل هذا الرئيس يجب أن يكمل حتما ولايته الانتخابية، واعتبروا أن كل من يقول خلاف ذلك عدو للديمقراطية وأن حكم الإخوان يتعرض إلى مؤامرة. هذه النظرة التبسيطية للأشياء تحاول أن تعفي الحكام من واجب الاحتياط والاستعداد لما يمكن أن يلاقونه من مصاعب، فالطريق، بالنسبة إلى الإسلاميين، لن يكون مفروشًا بالورود، طبعاً، وهناك دائمًا أعداء وخصوم جاهزون لافتعال المشاكل وزرع الأشواك وحفر المطبات ومحاولة تعويق عمل الحكم الإسلامي، وهناك أكثر من طرف له مصلحة في إفشال تجارب الإسلاميين، كما أن هناك، أيضاً، أكثر من طرف له مصلحة في إفشال تجارب محتملة لليساريين أو الليبراليين التقدميين الإصلاحيين..إلخ
من حق الناس أن يثوروا ضد ما يعتبرونه استبدادًا، والمستبد قد يكون شخصًا أو جهة قاما بغصب السلطة ابتداءً، وقد يكون المستبد شخصًا أو جهة توليا السلطة بشكل مشروع وبناء على صناديق الاقتراع ثم انتهجا سبيل التسلط والتحكم والاستبداد؛ فمرسي، مثلاً، صعد إلى سدة الحكم بناء على نتائج الانتخابات، ولكنه أصدر في نونبر 2011 إعلانًا دستوريًا استبداديًا حصَّن به قراراته ضد أي طعن، خارقًا بذلك قواعد دولة القانون.
متظاهرو 30 يونيو لم يتخذوا قرار عزل الرئيس مرسي ولم يضعوا شخصًا آخر مكانه ولم يكلفوا أحدًا بذلك، لقد طالبوا مرسي، شخصيًا بالاستقالة. وكان على الرجل، وقد رأى أن حركة المطالبة برحيله هي بهذا القدر من الاتساع والامتداد، أن يسارع إلى الاستجابة. ونحن، مع ذلك، لا نقول إن شرعية الشارع أو "الشرعية الثورية" يجب أن تكون بديلاً عن شرعية الصناديق، بل إن "شرعية الشارع" هي مجرد مبتدأ، الخبر فيها هو صناديق الاقتراع، فهي ليست قائمة بذاتها ولا تشتغل باستقلال عن المؤسسة الانتخابية، وإلا انهدم أساس الديمقراطية. 
وقد انتبهت الديمقراطية، منذ نشأتها في المهد الأثيني، إلى ضرورة معالجة الحالة التي يحيد فيها الحاكم المنتخب عن مقتضى العقد المفترض بينه وبين الناخبين ويمارس الحكم بطريقة لا يستصوبها هؤلاء، وتمَّ التوصل إلى جواز تحريك مساطر لتنحيته قبل إكمال ولايته الانتخابية. ويُعمل في عدد من الديمقراطيات الحديثة بالمسطرة التي تقع تحت اصطلاح (ريكال إليكشن Recall election)، والتي تجعل توقيع عدد معين من الناخبين على عريضة في الموضوع كافيًا لانطلاق مسلسل التنحية. وقد طُبقت هذه المسطرة مرات عديدة واعتُمدت في الولايات المتحدة الأمريكية وكندا وسويسرا، وجعلها الدستور الفنزويلي ممكنة إزاء رئيس البلاد نفسه. والدساتير المعاصرة عندما تنظم مؤسسات الإسقاط النيابي للحكومات، والانتخابات السابقة لأوانها، وحرية التظاهر، وحق المسؤول المنتخب في الاستقالة، فهي، ضمنياً، تجيز رحيل الحاكم المنتخب قبل انتهاء مدة ولايته، إما باستقالته الذاتية أو استقالته تحت ضغط الشارع أو إقالته بمبادرة مؤسسية.
ما الذي كان يضير مرسي في تنظيم انتخابات سابقة لأوانها وتجنب المشاكل التي ترتبت عن ركوبه سبيل التنطع والتشنج والانغلاق؟ ألا يمكن القول إنه يُعتبر، بسبب ذلك، المسؤول الأول عما آلت إليه الأوضاع في مصر من تردٍ؟
فبعد مظاهرات 30 يونيو التي شكلت، حسب مراقبين، أكبر احتشاد في التاريخ البشري، أعطى الجيش المصري مهلة لتسوية "المشكل" تحت طائلة تطبيق خارطة طريق أعدها هذا الجيش، ثم دعا إلى اجتماع 3 يوليوز الذي ضم ممثلي أغلب التيارات السياسية، وصدر بعد ذلك البيان الشهير الذي تمَّ، بمقتضاه، عزل مرسي وتعيين رئيس المحكمة الدستورية العليا كرئيس مؤقت للبلاد وتعطيل الدستور والإعلان عن تنظيم مصالحة وطنية وانتخابات مبكرة. لم يُفسح، أمام حركة 30 يونيو المجال لكي تؤتي أُكلها بطريقة "طبيعية"، وبدأت تظهر في الأفق ملامح انقلاب عسكري يريد، باسم الاستجابة للمطامح الشعبية المعبر عنها في لحظة 30 يونيو، أن يمنح الجيش سلطة التحكم في كل شيء وتحديد مسار التطور السياسي بما يخدم مصالحه أولاً. إن لحظة 30 يونيو كانت تعبيرا عن قيام مشروع ثورة شعبية ثانية وعن وجود مسلسل ثوري جديد يمكن أن تتواصل حلقاته أو أن تتعرض للانقطاع، وكان تدخل الجيش يحمل خطر تفكيك حلقات المسلسل وإدماج حلقات أخرى فيه لا تنتمي إلى جوهر المسلسل وليست جزءاً منه. وهكذا عمد الجيش تلقائياً إلى اتخاذ مجموعة من التدابير الماسة بالديمقراطية، فجرى احتجاز مرسي، وإغلاق عدد من القنوات الفضائية، وإجراء اعتقالات في صفوف قيادات الإخوان، ومتابعة الرئيس المعزول بتهم منها "التخابر مع حماس" مما يجعل المتابعة تظهر كما لو كانت جزءاً من مخطط انقلابي صهيوني. وظهر أن هناك تخبطاً في القرارات والمبادرات المتخذة باسم الجيش؛ وهذا يعني، ربما، أنه وجد نفسه أمام واقع لم يُعِدَّ له كامل عدته وأمام معادلة شائكة ومعقدة لا يمكن حلها بسهولة، ثم نجح خصومه في جره إلى السقوط في مستنقع ردود الفعل غير المحسوبة العواقب، رغم أن تسليط بعض أشكال القمع القاسي على الإسلاميين يرمي، ربما، إلى إضعاف موقفهم في أية محطة قادمة للتفاوض –السري أو العلني- معهم.
صحيح أن مرسي وجماعته أضاعا، بسبب قصر نظرهما، فرصة تاريخية ثمينة لإثبات قدرة الإسلاميين "المعتدلين" على حسن تدبير مرحلة تأسيسية وإنجاح الانتقال، حتى لا تبقى مراجع الحكم الإسلامي هي التجارب السيئة السمعة لإيران وأفغانستان والسودان. وبعد أن قرر "الإخوان"، مخالفين بذلك وعداً قطعوه على أنفسهم، تقديم مرشح للرئاسة، كان يُستحسن اختيار شخصية مقربة منهم، ولكنها على صلة وثيقة ببقية الأطياف وعلى قدر من الانفتاح ورحابة الصدر؛
وصحيح أن نقطة ضعف مرسي الأساسية هي فشله في قيادة المصريين نحو صياغة وثيقة تعكس نوعاً من التراضي التاريخي ولا تترجم إرادة غالب على مغلوب؛
وصحيح أن وجه الاقتدار الوحيد الذي أبداه مرسي كان في مجال صناعة الخصوم والأعداء، وأن عهده اتسم بسوء التدبير الاقتصادي وباعتقالات ومحاكمات عسكرية لمدنيين وفتح ملفات متابعة بتهمة إهانة الرئيس، وإهمال مساءلة المتورطين في عمليات إرهابية واختطاف لمجندين في سيناء، واحتقار مظاهرات المعارضين والإساءة إليهم وعدم الانتباه إلى أن الأمر جدي إلا بعد فوات الأوان، وممارسة المحسوبية في إسناد المناصب، والتغاضي عن محاصرة الإخوان للمحكمة الدستورية - رغم إشاداته المتكررة بقضاة مصر - وعن محاولتهم إجلاء المشاركين في تجمع الاتحادية بالقوة؛
وصحيح أن خطاب الإخوان، بعد 3 يوليوز، حمل نفحة "دموية" و"استشهادية"، وعوض إدانة قادتهم للأعمال الإرهابية التي وقعت في سيناء، عمدوا إلى القول إن تلك الأعمال لن تنتهي إلا بعد عودة مرسي إلى منصبه، وهو الأمر الذي من شأنه أن يخلف لدى الرأي العام انطباعاً بأن أولئك القادة يزكون، في النهاية، تلك الأعمال؛
وصحيح أن قيام أنصار الرئيس المخلوع بمحاولة اقتحام دار الحرس الجمهوري واحتلال مقار المحافظات والتحرش بمعتصمي (التحرير) وقطع الطرقات بهدف شل الاقتصاد وانهيار الدولة، سيدفع الجيش والشرطة إلى التدخل؛
رغم ذلك كله، فإن تصرفات الجيش، في أغلبها، تستحق الإدانة الحازمة وتهدد المستقبل الديمقراطي في مصر، وتسيء إلى لحظة 30 يونيو، وتقود التطور السياسي في اتجاه استكمال مقومات الانقلاب العسكري؛ فلا معنى لطلب تفويض من الشارع للتصدي للعنف والإرهاب، لأن الجيش هيأة محايدة يُفترض فيها ألا تشارك في الصراع السياسي وألا تدعو إلى مظاهرات، فهذا شأن التيارات السياسية والقوى المدنية. والتفويض، أي تفويض، تطلبه الحكومات من البرلمان أو من الناخبين مباشرة عبر آلية الاستفتاء، وليس من الشارع. والتصدي للإرهاب وحماية الأمن مهمة قارة للجيش والشرطة في كل البلدان ولا يحتاج إلى تفويض، إلا أن يكون المطلوب تفويضه هو سلطات استثنائية، والأصل أنها نقيض للديمقراطية، ولهذا فلا تُمنح تلك السلطات إلا وفق قيود خاصة ومساطر دقيقة وتحت إشراف ورقابة المنتخبين وتسويغ دستوري ومراقبة قضائية.
إن سقوط عشرات القتلى ومئات الجرحى، الذين أُطلق عليهم الرصاص، لا يمكن أن يُبَرَّرَ في الظروف الحالية للمشهد المصري؛ فإذا كانت القوات العمومية لم تطلق النار كما ادعت، فإنها مطالبة بحماية المتظاهرين والمعتصمين من بطش بلطجية أو قناصة مفترضين؛ والقول بأن تحقيقاً في ما حدث قد استبعد مسؤولية تلك القوات، لا يمكن أن يُقبل منطقياً نظراً إلى الاستعجال في إصدار الاستنتاجات، مما يرخي ظلالاً من الشك حول حيادية ومهنية "المحققين"؛ والتصدي للمتظاهرين القادمين من رابعة العدوية والمتوجهين إلى جسر 6 أكتوبر لقطع المواصلات به، لا يمكنه وحده أن يفسر الحصيلة الثقيلة للقتلى والمصابين؛ وإعطاء "مهلة" للإسلاميين للالتحاق بالحوار الوطني سلوك غريب ومتناف مع متطلبات الانتقال، إذ لا يمكن تصور هذا الأخير بدون مشاركة الإسلاميين.
والضغط المباشر أو غير المباشر على الإعلام، والذي أدى، عمليًا، إلى ركوب كثير من وسائله خطاب الحزب الوحيد، لا ينسجم مع شرط الانفتاح المطلوب في دينامية الانتقال الديمقراطي.
لقد بدأت تتعالى بعض الأصوات المعتدلة في صفي مؤيدي ومعارضي مرسي على السواء، مطالبة بالبحث عن تسوية بين الطرفين. إن اعتراف الإسلاميين بأخطائهم، من جهة، وتصدي معارضيهم لتجاوزات الجيش، من جهة ثانية، يمكن أن يفتح السبيل لإنقاذ مسار الثورة وإسقاط المخطط الانقلابي.









0 تعليق ل انتهاكات جسيمة

أضف تعليق

البحث في الأرشيف

البحث بالتاريخ
البحث بالصنيفات
البحث في الموقع

البوم : صور