الـخـطـوط الـحـمـراء
علي أنوزلا، مدير موقع (لكم) الإخباري، يوجد رهن الاعتقال، والسبب المُدلى به، رسميا، هو إقدام الموقع على وضع رابط فيديو منسوب إلى تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي. الفيديو يدعو إلى الجهاد ضد نظام الحكم المغربي ويتوعده بالويل والثبور ويُعَدِّدُ ما يعتبره خطايا النظام التي توجب الثورة عليه.
مبدئيًا، وقبل الخوض في أية تفاصيل، لابد من التأكيد على أن قيام الصحفي بالدعوة إلى العنف والإرهاب –وهو ما لم يقم به علي أنوزلا- أمر غير مقبول ومتعارض مع الالتزامات المهنية الملقاة على عاتقه؛ ولكن، في نفس الوقت، هناك أربعة دواع تجعل نوعا من القلق المسبق يساور أي حقوقي متشبع بقيم المجتمع الديمقراطي:
1- أن يُتَابَع صحفي بسبب وقائع تدخل في صميم عمله الصحفي، أمر يدعو إلى القلق، إذ لا ديمقراطية بدون حرية، ولا حرية بدون حرية التعبير التي تمثل عماد الحريات والحقوق الأخرى ومن خلالها تُمارس أغلب تلك الحريات والحقوق، ولا حرية للتعبير بدون صحافة تمارس عملها في جو من الأمان والاطمئنان على مصير وسلامة العاملين فيها وفي ظل ظروف لا تلابسها ولا تغشاها أية إكراهات مصطنعة أو ضغط أو توجيه أو مساومة أو ابتزاز. هناك تخوف دائم من أن تكون المتابعات ضد الصحفيين وسيلة لتعويق الصحافة ومنعها من أداء دورها كسلطة مضادة أو سلطة رابعة؛
2- أن يُتَابَع الصحفي في حالة اعتقال أمر يدعو إلى القلق، فهناك تقدير مسبق بأن اقتراف جرائم الصحافة والنشر لا يستوجب بالضرورة وضع الصحفي رهن الاعتقال، فحرية الصحفي مكتسب ثمين لا يمكن التفريط فيه بسهولة؛ والحقوقيون، عموما، يخشون أن يتحول اعتقال الصحفي إلى اعتقال أو مصادرة للحق في التعبير وينادون، باستمرار، بحذف العقوبات السالبة للحرية من قائمة الجزاءات المترتبة عن مخالفة قوانين الصحافة والنشر؛
3- أن تكون المتابعة قد تمت في حق صحفي معروف ب"معارضته" للنظام أمر يدعو إلى القلق، إذ يُخشى، في هذه الحالة، أن تتحول المتابعة إلى نوع من العقاب على مواقف الصحفي والانتقام منه بسبب أفكاره واستعمال سلاح القضاء لتصفية حساب سياسي ودفع بقية الصحفيين إلى اللوذ بالصمت والقبول بإخصاء النقد وتمتيع السلطة الحاكمة بحصانة عملية. علي أنوزلا، مثلا، صحفي يتوسل إلى لغة نقدية حادة تتخطى الحدود المرسومة، تقليديا، وتتجاوز الخطوط الحمراء، كما يتصورها النظام؛ وفي الآونة الأخيرة، كان في صدارة منتقدي قرار العفو الملكي عن "مغتصب الأطفال" دانييل كالفان ومنتقدي خرق حقوق الإنسان في الصحراء المغربية..إلخ. ولهذا من الطبيعي أن يذهب تفكير الرأي العام إلى الربط بين مواقف أنوزلا وبين اعتقاله اليوم، وهناك صحافة عملت على تعزيز هذا الربط من خلال الحديث المستمر عن ارتباط الرجل بأجندات أطراف معادية للمغرب وارتباطه، أيضا، بمشروع رجل آخر تعتبره هذه الصحافة "مجرما" ومصدرا رئيسيا لكل ما يصيب بلادنا من ملمات؛
4- أن يكون الصحفي قد تُوبع بالاستناد إلى مقتضيات قانون مكافحة الإرهاب أمر يدعو إلى القلق، فقوانين محاربة الإرهاب هي قوانين استثنائية تهدر الكثير من الضمانات الفردية وتنتقص من الحرية وتمس بالحقوق الشخصية، وهي قوانين منتَقَدة حقوقيا، ولذلك يتعين أن تُطَبَّقَ في أضيق الحدود وأن يتقيد تطبيقها بالكثير من الاحترازات، إذ يُخشى أن يستعمل بعض الحكام هذه القوانين لاسترجاع السلط وأنواع الممارسات المتعارضة مع قواعد دولة القانون، أي أن محاربة الإرهاب قد تُتَخذ ذريعة لكي يتصرف الحكام على هواهم بدون رادع. تكفي الإشارة هنا، مثلا، إلى أن المتابعة بجرائم الإرهاب تسمح بتمديد آجال الحراسة النظرية، فتعمد السلطة إلى إدعاء وجود علاقة بين أية وقائع وبين الإرهاب من أجل العصف بالضمانات المسطرية.
وفي حالة الصحفي علي أنوزلا، تظهر جلية ملامح توجه إلى اعتماد تأويل واسع للنص الجنائي إلى الدرجة التي تجعله يصبح قابلا، تقريبا، للانطباق على أية حالة مادام الهدف المحدد مسبقا هو معاقبة الصحفي، وبذلك نتوصل، عمليا، إلى إعادة إحياء ظهير "كل ما من شأنه" سيء الذكر، في لبوس جديد.
إن التأويل السليم للنصوص، في نظرنا، لا يسمح بمتابعة علي أنوزلا بمقتضى الفصل 2-218 من القانون الجنائي (في الباب المكرر المضاف بناء على قانون مكافحة الإرهاب) الخاص بجريمة الإشادة بالإرهاب، لأن الصحفي لم يصدر عنه قط فعل الإشادة. ولا يمكن الاستناد في المتابعة إلى الفصل 5-218 الخاص بجريمة التحريض على الجرائم الإرهابية، لأن الصحفي يَسَّرَ لزوار الموقع أمر الاطلاع على وثيقة معينة في إطار ممارسته لوظيفة الإخبار ولم يَدْعُ أحدا إلى ارتكاب أية جريمة. ولا شيء يثبت أن الصحفي يتبنى ما جاء في الوثيقة المصورة؛ فهو، مثلا، لم يقم بإعداد موقع متخصص فقط في نشر مثل تلك الوثيقة ولم يضع عنوانا إضافيا للرابط يترجم موافقته على مضمونه، مثل عبارة (هذا موقفنا – هذه الحقيقة - هذا ما أمرنا به الله - كلنا على العهد..إلخ). الإعلاميون الذين ينشرون اليوم خطب أدولف هتلر، في مواد وثائقية، لا نحملهم جريرة ما يتفوه به الزعيم النازي من كلام يتضمن حثا على الكراهية والتمييز، مادام عرض تلك الخطب قد جاء في سياق إخباري خالص، وهو نفس السياق الذي جاء فيه وضع رابط الفيديو المعني، فالسياق هنا حاسم في تحديد موقف ناشر المادة. ولا يمكن أيضا، في نظرنا، متابعة علي أنوزلا، بمقتضى الفصل 5-218 والفصل 129 من القانون الجنائي، عن فعل المشاركة في التحريض على الجريمة الإرهابية، وذلك لعامل بسيط هو أن الفصل 5-218 الذي ورد فيه أن "كل من قام بأي وسيلة من الوسائل بإقناع الغير بارتكاب جريمة من الجرائم المنصوص عليها في هذا القانون (ق. مكافحة الإرهاب) أو دفعه إلى القيام بها أو حرضه على ذلك يعاقب بالعقوبات المقررة لتلك الجريمة" يقصد نوع التحريض الذي يُؤتي أُكله وتتحقق فيه الجريمة التي تَمَّ التحريض على ارتكابها، وليس التحريض كجريمة مستقلة والذي يُعاقَب عليه حتى ولو لم تُرتكب الجريمة موضوع التحريض، بدليل أن المشرع أفرد للمحرض، هنا في الفصل 5-218، نفس عقوبة الجريمة المُحَرَّضِ على ارتكابها؛ وبما أن الشريك يُعَاقَب، قانونا، بنفس العقوبة المقررة للجريمة الأصلية (والتي يتعين أن تُرتكب فعلاً)، فمعنى هذا أن متابعة أنوزلا على المشاركة في التحريض على جرائم إرهابية يجعله خاضعا لعقوبة الإعدام، وهذا ما لا يمكن أن يقبله العقل؛ فلو اتجه المشرع، كمبدأ عام، في الجرائم الإرهابية التي تكاد تشمل لائحتها كل الجرائم، إلى معاقبة الفاعل في التحريض (كجريمة مستقلة) بنفس عقوبة الجريمة المُحَرَّضِ عليها ولو لم تقع، فمعنى ذلك أن المشرع اخترع نوعا من "الفعل الافتراضي"للجريمة وهدم أسس القانون الجنائي الحديث.
والحال أن القانون الجنائي المغربي، في إحدى أخطر حالات التحريض (كجريمة مستقلة)، قد نص في الفصل 176 على أن من دعا إلى التآمر ضد حياة أو شخص الملك أو ولي العهد، إذا لم تُقبل دعوته ولم يُرتكب الفعل موضوع التحريض، لا يُعاقب سوى بالسجن من خمس إلى عشر سنوات، بينما عقوبة الجريمة موضوع التحريض هي الإعدام.
نَخْلُصُ مما سبق إلى أن التحريض (بوصفه جريمة مستقلة) على إتيان الأفعال الإرهابية لا وجود له في قانون مكافحة الإرهاب، وبالتالي لا وجود للمشاركة في هذا التحريض، وحتى الذي قد يتصور وجود هذه الجريمة الأصلية سيصطدم بكون وسيلة المشاركة المفترض أن أنوزلا قام بها لا تعدو أن تكون مساعدة لاحقة على مباشرة الفعل الأصلي، ولذلك فلا يُعتد بها، خصوصًا أننا لسنا بصدد جريمة مستمرة (رغم استمرار آثار الفعل)، ولم يكن هناك اتفاق سابق على المساعدة اللاحقة، فهذه "المساعدة" لم يكن لها أي دور في حصول "الجريمة".
ومن الناحية المهنية، ليس من السهل الجزم بأن المعني بالأمر ارتكب خطأ حاد به عن أخلاقيات المهنة الصحفية، فالمسألة دقيقة للغاية :
هناك من يعتبر أن نشر تسجيل منسوب إلى القاعدة مجانب للصواب، لأنه قد يبث الهلع في النفوس، وقد لا نعرف مصدر الشريط بالضبط فنتعرض إلى الخداع ونعرض الناس إلى نفس الشيء، ونقدم دعاية للإرهابيين ونمنحهم فرصة مخاطبة شرائح من الناس لم يكن بإمكانهم ربما مخاطبتها، ونسمح بوصول رسائل مشفرة قد تحملها المشاهد المبثوثة إلى المريدين، ونتيح للمنظمات الإرهابية إمكان التأثير في بعض الفئات الهشة..إلخ.
وهناك من يعتبر بث تسجيل منسوب إلى القاعدة أمرًا عاديًا، وهو ما تقدم عليه أحيانًا كبريات وسائل الإعلام العالمية مثل ال"سي إن إن CNN" وال"بي بي سي BBC" و"الجزيرة"، وذلك انطلاقًا من ضرورة النهوض بواجب الإخبار على الوجه الكامل ومن أن الناس ليسوا في حاجة إلى ممارسة الوصاية عليهم وأنهم رشداء ويميزون بين النفع والضرر والصالح والطالح، فأغلب الأفراد لا يؤثر مضمون التسجيل فيهم أما ضعاف النفوس الذين قد يتأثرون فهم لا ينتظرون ربما بث التسجيل من أجل تكوين موقفهم ويمكنهم، بوسائط أخرى، تلقي كل ما قد يؤثر فيهم، فضلاً عن أن البث يسمح للمجتمعات بتهيئة وسائل المواجهة ويقدم إلى الباحثين والعلماء أدوات إضافية لفهم الظاهرة الإرهابية ورصد الواقع كما هو والاطلاع على الحقيقة. لكن البث قد يرفق باتخاذ بعض الاحتياطات التي تفيد بأن المؤسسة الإعلامية تأخذ مسافة من التنظيمات الإرهابية وتتعامل معها كظواهر سلبية، فتفتح مجالاً لعرض آراء متباينة وإثارة جدل بناء وإيراد تعليقات على الفيديوهات المذاعة، وربما حذف بعض المشاهد..إلخ.
وإذا كانت الحكومة المغربية قد قررت مقاضاة جريدة "إيل باييس" لأنها وضعت في موقعها الفيديو الخاص بالمغرب، في إشارة، ربما، إلى وجود علاقة بين مضمون الفيديو وجهات أجنبية تضمر شرًا للمغرب ووجود علاقة ما للصحفي المغربي بتلك الجهات، أو في إشارة إلى أن السلطة المغربية لا تستهدف الصحفي بل تستهدف الفيديو وأن هذه السلطة لا تصفي حسابًا خاصًا مع الصحفي، فإن الحكومة وقعت في تناقض، وذلك لأنها لم تقرر مقاضاة المواقع الفرنسية والأمريكية التي نشرت نفس الفيديو، ولأن الصحفيين الذين يشرفون على تلك المواقع لم يتعرضوا لأية ملاحقة في بلدانهم.
هناك صحفيون مغاربة اعتُبِرَت حدة نقدهم للمؤسسة الحاكمة تجاوزًا للخطوط الحمراء فاضطروا إلى مغادرة المغرب بعد تعرضهم إلى سيل من المشاكل والمضايقات (علي المرابط - أبو بكر الجامعي – علي عمار – أحمد رضا بنشمسي)، وقوة حركة التضامن مع علي أنوزلا، اليوم، تعني أن لعبة التخلص من الأقلام المزعجة لم يعد من الممكن أن تجري بالسهولة ذاتها التي كانت تجري بها في الماضي، وأن الخطوط الحمراء التي يُراد فرضها على الجيل الجديد من الصحفيين لا يتماشى وجودها مع قيم المجتمع الديمقراطي.