مشكلة قديمة جديدة
زنقة 20
خلال 36 حلقة من الحلقات ال 42 للاستجواب الذي أجرته يومية (المساء) مع السيد عبد الله القادري، تحدث الرجل عن مساره الإنساني والسياسي في مغرب ينتقل من مرحلة الاستعمار إلى مرحلة محمد الخامس ثم إلى مرحلة الحسن الثاني؛ ورسم الرجل، أيضا، صورة تقريبية للحزب الإداري النمطي في ظل حكم الملك الحسن الثاني.
يتعلق الأمر بصنف من الأحزاب التي ترى النور بقرار من القصر، وتتصرف على أساس أن البرنامج الحزبي لا قيمة له مادام الملك هو المصدر الأصلي والطبيعي للبرنامج الذي يتعين أن يُطَبَّقَ على المغاربة، وأن العلاقة مع العضو الحزبي مبنية على الخدمة الخاصة أكثر من القناعة، وأن وظيفة الحزب الإداري هي الإبقاء على نفس البنيات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية القائمة، وتزكية البرامج والاختيارات المتبناة رسميًا، وتشكيل أغلبية برلمانية مريحة تساير المبادرات والقرارات الصادرة من فوق وتضع نفسها في خدمة القصر وتفترض أنه محتاج إلى حماية خاصة ضد معارضين معادين للملكية.الحزب الإداري، إذن، لا يتمتع بأي استقلال، ويعتبر نفسه مجرد ذراع دعائي إضافي لجهاز الدولة، ويخوض الصراع السياسي مع خصومه في شروط مخلة بقواعد التنافس الشريف وتكافؤ الفرص، فهو ينزل إلى الملعب مزودا بوسائل لا حَقَّ له فيها ومتمتعا بامتيازات غير مشروعة، وهو يخوض المعارك الانتخابية متوسلا بكل الطرق، ويقبل بتزوير النتائج لصالحه.
حين سُئل المرحوم المعطى بوعبيد (الاتحاد الدستوري) عن السبب في عدم تقديم مذكرة للإصلاحات الدستورية إلى القصر بعد تقديم الكتلة لمذكرتها، أجاب، بكل بساطة : "لأننا لم نتلق طلبا بذلك"؛ وحين قرر عدد من الأحزاب الإدارية تشكيل التكتل الذي حمل اسم "الوفاق الوطني" كان ذلك بناء على إشارة من القصر، فعبد الله القادري يقول، في هذا الصدد : "صاحب فكرة (الوفاق الوطني) هو الحسن الثاني، وقد أسسنا (الوفاق) مقابل (الكتلة). وكان المعطي بوعبيد هو الذي أبلغنا برغبة الملك في تأسيس تحالف يكون ضد "كتلة" المعارضة". وهذا معناه، أن الأحزاب الإدارية هي، أولا وقبل كل شيء، أحزاب "مضادة"، مشروعها الأصلي يقوم على هدم وتسفيه مشروع أحزاب معارضة وتقديم هذه الأحزاب الأخيرة في صورة كائنات متآمرة ذات أهداف تخريبية غير معلنة ومنعها من جني ثمار كدها واجتهادها وتعويق سيرها.
طوال فترة حكم الملك الحسن الثاني، كان الأساس الأول والجوهري لتصنيف الأحزاب السياسية المغربية هو التمييز بين الأحزاب المستقلة والأحزاب غير المستقلة عن الدولة(*). وكان الأمل هو أن تتحول الأحزاب الإدارية إلى أحزاب مستقلة تتصرف بمعزل عن إرادة المخزن، وأن تتوفر على برامج حقيقية، وأن تقطع الحبل السري الذي يربطها بجهاز الدولة، وأن تستقطب مناضلين تحركهم القناعة أولاً، وأن تعتمد عملا ملموسا على الأرض قوامه الإقناع والاقتناع، وأن تشخص قيم المجتمع الديمقراطي في سلوكها وصراعها مع منافسيها، وأن تستند في تديد معايير الترشيح ووسائل العمل إلى ضوابط النزاهة والشرعية والأخلاق الفاضلة. ولكن النتيجة كانت أن الأحزاب التي ظهرت أول الأمر متمتعة بكامل الاستقلالية عن القصر، أصبحت، شيئا فشيئا، تقبل التفريط في هذه الاستقلالية، وجرى ذلك عبر مسلسل تخللته عدة أحداث ومواقف دالة، مثل قبول الاستفادة من التزوير الانتخابي، واستقبال وترشيح الأعيان الوافدين من الأحزاب الإدارية، والتسامح حيال طرق تسيير الأعضاء للجماعات المحلية، والتصريح بأن برنامجها هو برنامج الملك، وتزكية كل المبادرات والقرارات التي تصدر عن القصر قبل أي تمحيص أو نظر، وتجنب نقد أي من تلك المبادرات والقرارات، وعدم إجراء أي بحث داخلي نزيه في الاتهامات الموجهة إلى بعض أعوان الإدارة الترابية بالتدخل في انتخاب قادة الحزب، والانطلاق من أن تواصل اتساع الصلاحيات الملكية ضروري للحد من نفوذ القوى الأصولية، واعتبار أن السياسة المفيدة والحاذقة هي تلك التي تحرص على جلب رضى مراكز القرار والنفوذ أكثر من حرصها على جلب رضى الناخبين والمواطنين، والاستعداد لبذل أية خدمة لتلك المراكز من أجل الحصول على المكاسب والمكافآت التي تعتبر أنها سر وجود أي حزب مغربي ومصدر قوته الأساسي.
قد يعتبر البعض أن ظاهرة الأحزاب الإدارية مرتبطة بحكم الملك الحسن الثاني، وأنها اختفت بحلول عهد محمد السادس الذي وجد أمامه حقلا حزبيا منصاعا وطيعا، في أغلبيته الساحقة، وبالتالي فلم يكن هناك من داع إلى خلق أحزاب إدارية(**)، إذا كانت معظم الأحزاب إما إدارية المنشأ أو إدارية المآل.
لكن هناك عددًا من المؤشرات المتظافرة التي تحمل الباحث الموضوعي على الجزم بحصول تكرار لتجربة الحزب الإداري أو حزب الدولة، في 2008، وتتجلى هذه المؤشرات، مثلاً، في الانتقال المفاجئ للسيد فؤاد عالي الهمة من وزير للداخلية إلى مرشح في انتخابات 2007، قبل بضعة أسابيع من تاريخ هذه الانتخابات التي حَضَّرَهَا من ألفها إلى يائها، والهجرة الجماعية الكبرى لعشرات البرلمانيين، دفعة واحدة وبدون سابق إنذار، إلى الفريق الجديد، وتعطيل المادة 5 من قانون الأحزاب التي تمنع الترحال، والتساهل الذي أبدته السلطات مع مرشحي الحزب الجديد، في انتخابات 2009، الذين أُحِلَّ لهم ما لم يُحَلَّ لغيرهم والذين اتسمت الكثير من سلوكاتهم بالتعالي والإحساس بتوفرهم على نوع من الحصانة، وحصول حزب الأصالة والمعاصرة على المرتبة الأولى في تلك الانتخابات بعد شهور فقط على تأسيسه، والطريقة التي جرت بها انتخابات مكاتب الجماعات والجهات حيث باشر عدد من مسؤولي الإدارة الترابية تأجيل جلسات التصويت، بدون مبرر، في انتظار تدبير الحزب لأغلبيته، والتدخل لدى منتخبي أحزاب أخرى لحثهم على تسهيل حصول الحزب الجديد على رئاسة وتسيير عدد من الجماعات والجهات.
خلال الحلقات الأخيرة من الاستجواب المُجرى مع عبد الله القادري، قدم الرجل معطيات إضافية متطابقة تشي ببعض مما دار في كواليس تأسيس حزب الأصالة والمعاصرة، وقال في هذا الشأن : "أول ما التقينا، تحدث إلي (الهمة) عن إرادة الملك ورغبته في تأسيس حزب، وأذكر أنه قال : (سيدنا طلب مني نشوفك باش نديرو حزب فالمستوى ويلعب دور مهم)، فأجبته : مرحبًا، مستعدون لفعل ما يريده (سيدنا) وتأسيس حزب يثق فيه المغاربة"، ثم أضاف القادري : "البام جاء للانتصاب ضد الإسلاميين، لكنه، وإلى الآن، لم يقدم أي رسالة إلى المواطن المغربي". وهذه الشهادة تنضاف إلى شهادة أخرى، لم يُرصد لها ما تستحقه من اهتمام، للأستاذ نبيل بنعبد الله، الأمين العام لحزب التقدم والاشتراكية، أمام أعضاء اللجنة المركزية للحزب، والتي أشار فيها، ضمنيًا، إلى أن حزب الأصالة والمعاصرة "حَوَّلَ انتخابات 2009 إلى سوق للبيع والشراء وذلك بتوظيف عمال وولاة وأصحاب القرار المالي والاقتصادي، كما مورست التهديدات، حيث حصلوا على الرتبة الأولى".
قد يعتبر البعض أن مشكلة الأحزاب الإدارية انتهت بولوج المغرب عهد الانتخابات "النزيهة" عام 2002 وتراجع مظاهر التزوير البدائي، لكن شهادة القادري نفسها تثبت أن "الضبط الانتخابي" استمر بأساليب مختلفة حتى بعد ذلك التاريخ.
وقد يعتبر البعض أن المشكلة حُلَّت بانتهاء أعمال هيئة الإنصاف والمصالحة وتحرر الدولة من مخلفات خصومتها التقليدية مع الحركة الوطنية واليسار، لكن الفترة اللاحقة ستشهد خصومة أخرى مع الإسلاميين لم يزدها صعودهم إلى الحكومة إلا تأججًا واتقادًا.
صحيح أن بعض الذين انخرطوا في الأحزاب الإدارية كانت لهم دوافع يمكن تفهمها، مثل تجنب القمع الشرس الذي كان مسلطًا على أحزاب اليسار أو المشاكل التنظيمية لهذه الأحزاب وبنيتها المغرقة في الستالينية أحيانًا أو الاقتناع بصواب النهج الليبرالي في الاقتصاد وإرادة العمل في إطار أحزاب تدافع عن هذا النهج أو الشعور فعلاً بأن الملكية في حاجة إلى حماية أو التعرض لضغوطات وتعسفات أو الرغبة في الحفاظ على حقوق مشروعة.. إلخ.
وصحيح أن بعض قادة هذه الأحزاب، حاليًا، ينتمي إلى الأجيال الجديدة التي لم تعش مرحلة الولادة غير الطبيعية للحزب، حيث خرج من رحم جهاز الدولة عوض أن يخرج من رحم المجتمع، ولا تعتبر نفسها مسؤولة عن ذلك وترى أن الحزب اليوم يشبه، في النهاية، الأحزاب "الأخرى".
وصحيح أن مرشحي الأحزاب الإدارية أصبحوا يتوفرون على شبكة زبناء قارين تتيح لهم فرص الفوز الذاتي في الانتخابات، بدون تزوير مفضوح، مادامت نسبة المشاركة في التصويت واطئة.
وصحيح أن الملك صرح، مؤخرًا، بأنه لا ينتمي إلى أي حزب.
لكن هذا كله لا ينفي استمرار وجود مشكلة الأحزاب الإدارية في المغرب وضرورة معالجتها بشكل جدي وتقدير أهمية الحيثيات التي دعت شبيبة 20 فبراير إلى المطالبة بحل هذه المشكلة باعتبارها واحدة من مشكلات الانتقال الديمقراطي في المغرب، ذلك أو وجود أحزاب إدارية في الماضي خلف آثارًا سلبية على الواقع السياسي الحالي لم يتم تجاوزها بعد، ومَكَّنَ البعض من الاستمرار في جني مكاسب غير مشروعة، وترك خلفه ضحايا وخسائر لم تُعَوَّض، وألحق بجسم البرلمان والانتخابات تشوهات وأورامًا لم تُستأصل. وظهور حزب الأصالة والمعاصرة، مؤخرًا، فاقم الوضع وأكد أن منطق التدخل في الحياة الحزبية والتحكم فيها من أعلى، الذي يؤدي إلى صناعة أحزاب إدارية، لازال راسخًا وحاضرًا بقوة ولا تتوفر أية ضمانات على أن القطيعة الحقيقية معه قد أُنجزت.
إن حل مشكلة الأحزاب الإدارية يتطلب، على الأقل، الاعتراف بالحقيقة، وجبر الأضرار، والاعتذار إلى الضحايا (المرشحين والأحزاب الذين انتُزعت منهم مقاعد فازوا بها ومُنحت للأحزاب الإدارية) وإلى الشعب، واتخاذ التدابير الكفيلة بحماية المستقبل والمشخصة لإرادة التحرر من عقلية الوصاية على الحقل الحزبي وصنع الخرائط والأحزاب.
(*)- كان هذا التمييز يأتي في المقام الأول، من حيث الأهمية، متفوقًا بذلك حتى على التمييز، مثلاً، بين أحزاب اليمين وأحزاب اليسار.
(**)- أو لنقل، بالأحرى، أن التساؤل عن طبيعة هذا الداعي، كانت له مشروعيته، إذ يتعلق الأمر، ربما، بتحد جديد يتمثل في المعادلة التالية : كيف يكن تجنب احتلال الإسلاميين للمرتبة الأولى في الانتخابات، دون أن يضطر النظام إلى القيام بعمليات تزوير مدوية؟.