الصحافي والإرهابي
لم يستطع المغرب الرسمي، بعد، أن يقلع عن عادة تقديم الإشارات في اتجاهات متعارضة. نحن، مثلاً، نعيش، حاليًا، حدثين مهمين : الأول هو انتهاء أشغال اللجنة المكلفة بإعداد خطة إصلاح العدالة في جو احتفالي وفي ظل خطاب يحاول الإيحاء أن هذا الإصلاح سيوفر ضمانة أساسية لقيام دولة القانون التي يتم فيها احترام استقلال القضاء وعدم استخدامه في تصفية الحسابات السياسية. والحدث الثاني هو تقدم مسار التحضير لقانون صحافة جديد خال من العقوبات السالبة للحرية، وتصريح وزير الاتصال، في الحكومة الحالية، بأن عهد سجن الصحفيين قد ولَّى. لكن الحدثان يتزامنان مع اعتقال الصحافي علي أنوزلا مدير موقع (لكم) على أساس تُهَم تُحَوِّلُه، نظريا، إلى إرهابي مدمن على سفك الدماء وتفجير المباني والمركبات ونسف المنشآت ووضع العبوات الناسفة وقتل الأطفال والنساء وجز الأعناق وخطف الطائرات. إثارة هذه التهم تعني أن النية عندما تنصرف إلى تأديب واعتقال صاحب قلم مشاكس، فيمكن التوسل، هكذا، إلى أي نص حتى ولو كان تطبيقه على "النازلة" يشبه عملية إدخال جسم فيل في قارورة شراب ضد السعال !
من الصعب على أية دولة أن تقنع الناس بأنها ديمقراطية وأنها تحمي حرية الصحافة إذا كانت تودع صحافيًا في السجن وتعلن أن نوع العمل الذي قام به، في إطار ممارسته لمهنته، يُعَرِّضُه إلى عقوبة قد تصل إلى عشرين سنة سجنًا، وخاصة إذا كان هذا العمل قد اشترك في إتيانه صحافيون آخرون، من دول ديمقراطية، دون أن يسوقهم قضاة بلدانهم إلى السجن.
النيابة العامة اعتبرت أن علي أنوزلا اقترف الجرائم التالية : الإشادة بأفعال تكون جريمة إرهابية، تقديم أدوات لتنفيذ جرائم إرهابية، تقديم المساعدة عمدًا لمن يرتكب أعمالاً إرهابية.
لا أحد كان يتصور أن الأمر يمكن أن يصل إلى هذا الحد من الاستهانة بقواعد التطبيق السليم للقانون.
فعل الإشادة ينص عليه الفصل 2-218 من القانون الجنائي (المضاف بمقتضى قانون محاربة الإرهاب) الذي يقضي بمعاقبة كل من أشاد بأفعال تكون جريمة إرهابية، اعتمادًا على وسائل محددة من بينها وسائل الإعلام الإلكترونية، والعقوبة هي الحبس من سنتين إلى ست سنوات وغرامة تتراوح بين 10.000 و200.000 درهم.
والإشادة هي استحسان الفعل وتمجيده ومناصرته وتزكيته والانتصار له وتأييده، ويتعين أن تتم بالكتابة أو النطق حتى تكون دلالتها قطعية على إرادة الاستحسان، أما استخدام وسيلة أخرى فلا يسمح باستنتاج دلالة قطعية على وجود هذه الإرادة؛ فقيام موقع (لكم) بوضع رابط يحيل على شريط فيديو منسوب إلى تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي موجود بموقع صحيفة إسبانية مع مقال للصحفي سامبريرو، لا يُعتبر، في حد ذاته، إشادة، وإلا وقعنا في توسع مرفوض أصلاً ولا تستسيغه المبادئ العامة للقانون الجنائي.
قد يضع الصحافي الرابط ويرفقه بتعليق مُمَجِّدٍ لمضمون الشريط، فنكون أمام إشادة، وقد يضع صحفي آخر الرابط ويرفقه بتعليق مناهض لمضمون الشريط فيصبح، هنا، من العبث اتهام واضع الرابط بالإشادة. وضع الرابط، في حد ذاته، بالنسبة إلى صحافي تقتضي مهمته إخبار الناس واطلاعهم على ما يجري، لا يمكن أن يعني الإشادة بشكل تلقائي، ففعل الإشادة جريمة إيجابية وليست سلبية ويجب أن يرد في كلمات وتعابير لا يلابسها أي قدر من الغموض في دلالتها على موقف الصحافي، وحين نريد استخلاص هذا الموقف من خارج هذه الكلمات والتعابير المتفوه بها أو المكتوبة، فإننا ندخل مباشرة دائرة التعسف والشطط، وإحالة الرابط على موقع أجنبي، لا يمكن، عقلاً، أن تُنسب إليه الإشادة بالإرهاب وليس على موقع جهادي، مثلاً، يزيد في تأكيد ضرورة استبعاد فرضية الإشادة بشكل كلي.
إن منطق النيابة العامة يفضي إلى اعتبار كل المواقع ووسائل الإعلام الغربية التي تبث أشرطة منسوبة لمنظمات إرهابية، مشيدة هي الأخرى بالإرهاب، وهي المعروفة بمواقفها المناهضة للإرهاب. وهل كان كل هذا الحشد من التنظيمات العالمية سيتضامن مع علي أنوزلا، بالشكل الذي تضامن به معه، ويطالب بإطلاق سراحه فورًا، لو كانت له قناعة بأن ما قام به أنوزلا يمثل إشادة بالإرهاب.
فعل تقديم الأدوات، ورد في الفصل 6-218 من القانون الجنائي (المُضاف بمقتضى قانون محاربة الإرهاب) الذي ينص على أن من يقدم أدوات تنفيذ الجريمة عمدًا لمن يرتكب فعلاً إرهابيًا أو يساهم أو يشارك فيه، يعاقب بالسجن من عشر إلى عشرين سنة.
وفعل تقديم المساعدة، ورد، أيضًا، في نفس الفصل 6-218 (المُضاف بمقتضى قانون محاربة الإرهاب) الذي يفرد العقوبة ذاتها (10 إلى 20 سنة سجنًا) لكل شخص يقدم عمدًا لمن يرتكب فعلاً إرهابيًا (أو يساهم أو يشارك فيه) أي نوع من أنواع المساعدة مع علمه بذلك.
الفصل 6-218 يتحدث، في عمومه، عن المساعدات المقدمة إلى مرتكب الفعل الإرهابي أو المساهم أو الشريك فيه. وهذه المساعدات تتفرع إلى نوعين :
مساعدات تسهم في تنفيذ الجريمة، وحددها المشرع في الأسلحة أو الذخائر أو الأدوات، فالمقصود هنا، طبعًا، هو تقديم أدوات مادية. قد يقول قائل إن وضع الرابط يوفر للإرهابي إمكان إقناع أفراد بارتكاب أعمال إرهابية أو استقطاب أعضاء جدد في التنظيم الإرهابي لم يكن بالإمكان إقناعهم أو استقطابهم لولا اطلاعهم على مضمون الشريط، وأن توفير هؤلاء الأعضاء الجدد هو تقديم لأدوات، لكن توفير الأعضاء أمر احتمالي فقط بينما المشرع يتحدث عن أدوات قُدِّمَت فعلاً، والبشر ليسوا أدوات بل كائنات ناطقة، والمشرع أشار إلى الأدوات معطوفة على الأسلحة والذخائر أي أن الأدوات هي أشياء أو ماديات من طينة الأسلحة والذخائر.
مساعدات توفر للفاعل (أو المساهم أو الشريك) ظروفًا للحياة العادية رغم نشاطه الإرهابي وتمكنه من مواصلة هذا النشاط، ولهذا يُعَاقَب كل من يقدم عمدًا لمن يرتكب فعلاً إرهابيًا أو يساهم أو يشارك فيه "مساعدات نقدية أو وسائل تعيش أو تراسل أو نقل أو مكانا للاجتماع أو السكن أو الاختباء، وكل من يعينه على التصرف فيما حصل عليه من عمله الإجرامي، وكل من يقدم له أي نوع من أنواع المساعدة مع علمه بذلك"؛ فهذا النوع الثاني من المساعدات يستفيد منه الإرهابي شخصيًا، وقد يكون لذلك أثر على فعل إرهابي مستقبلي. وصياغة الفقرة الواردة، هنا، بين مزدوجتين، هي امتداد لنظرية (إيواء الأشرار) التي تفترض حصول الجناة كأشخاص على مساعدة لاحقة، تهم ظروف حياتهم واستمرار أنشطتهم الإجرامية، مبذولة إليهم عبر علاقة بأشخاص معينين بشرط ألا تصل هذه العلاقة إلى قرابة أو مصاهرة من درجة معينة، ذلك أن الفصل 6-218 يجيز للمحكمة أن تعفي من العقوبة "أقارب وأصهار من ارتكب جريمة إرهابية أو ساهم أو شارك فيها، إلى غاية الدرجة الرابعة، إذا قدموا له مسكنًا أو وسائل تعيش شخصية فقط".
وفي جميع الأحوال، يجب أن يمر تقديم المساعدات، بنوعيها الأول الثاني، عبر شخص الفاعل (أو الشريك أو المساهم) لكي يؤثر، بهذه الطريقة، على الفعل، فهي ليست مساعدة تُقَدَّمُ، هكذا، للفعل متجاوزة شخص الفاعل (أو المساهم أو الشريك)، ففضلاً عن كون المشرع استعمل تعبير (تُقَدَّمُ عمدًا لمن)، فلا يُتصور، مثلاً، أن تُبذل مساعدة بأسلحة أو أموال أو ذخائر إلى جهة مجهولة.
إن "المساعدة" التي يقصدها المشرع في الفصل 6-218، لا تكون "مساعدة من بعيد"، بل يتعين أن تكون مساعدة فعلية وليست افتراضية، تعرف وجهتها وتتم بصورة شخصية، وإلا فإننا سنعتبر كل من ساهم في ترويج الشريط، ولو بإرساله، عبر الانترنيت، إلى صديق أو زميل له في العمل أو قريب، قابلا للحكم عليه بعشرين سنة سجنا، بدعوى أنه بذل "مساعدة" إذ أتاح فرصة إضافية لاطلاع شخص آخر على الشريط وربما التأثر بما جاء فيه. والدليل على أن المشرع اشترط الطابع الشخصي لتقديم المساعدة هو أن الفصل 6-218 جاء خاليا من الإشارة إلى الوسائل العمومية الواردة في الفصل 2-218 إذ لم يتصور أن تتم أي من أوجه المساعدة المشار إليها في الفصل 6-218 عبر وسائل الإعلام، وبالتالي لا يمكن أن يتحول الصحافي، وهو يمارس أعمال مهنته فقط، بين عشية وضحاها، إلى مساعد لتنظيم إرهابي، وكيف يعقل التسوية في الحكم بين من مَدَّ الإرهابيين بمتفجرات وذخائر ومن اكتفى بإخبار الزائر بوجود شريط منسوب لتنظيم القاعدة في المغرب الإسلامي، يهم المغرب، في موقع آخر، ومَدَّهُ برابط هذا الموقع لتأكيد صحة الخبر، فوضع الرابط أشبه بالبيانات التي يقدمها الباحثون، عن المراجع المعتمدة في البحث، والتي يضعونها في هوامش خارج المتن أوفي ختام البحث.
إن احترام منطوق الفصل 6-218 يفرض على القاضي، في أية حالة عُرضت عليه، أن يثبت تقديم المساعدة إلى شخص محدد، وأن يثبت أن الشخص الذي تلقى المساعدة هو مرتكب لفعل إرهابي أو مساهم أو مشارك فيه. والقاضي، أمام حالة علي أنوزلا، سيصطدم، من جهة، بكون الاكتفاء بوضع الرابط، لا يرقى، في حد ذاته، إلى تقديم المساعدة على الوجه المحدد في الفصل المذكور، كما سيصطدم، فضلاً عن ذلك، بما ذهب إليه بعض الباحثين المغاربة من أن الشريط ليس من إنتاج تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي بل من إنتاج مخابرات دولة من الدول، فكيف سيتوصل القاضي، يا ترى، إلى إثبات صدور الشريط عن مرتكب فعل إرهابي أو مساهم أو مشارك فيه –وليس عن محرض على فعل إرهابي لم يُرتكب-، فبالأحرى إلى إثبات قيام رابطة فعلية وليست افتراضية جرى من خلالها تقديم المساعدة إلى مرتكب الفعل الإرهابي أو المساهم أو المشارك فيه.
نخلص مما سبق إلى أن واقعة وضع رابط لشريط منسوب للقاعدة وموجود بموقع أجنبي معروف بمناهضته للإرهاب، لا تنطبق عليها مقتضيات الفصلين 2-218 و6-218، وأية محاولة للاستناد إليهما في متابعة على أنوزلا والحكم عليه، تمثل، بكل تأكيد، نوعًا من التكييف الغريب الذي لا تستسيغه المبادئ القانونية، وخاصة بالنسبة إلى القانون الجنائي الذي يُعتمد فيه على التفسير الضيق بشرط أن يكون منطقيًا. واستعمال هذا النوع من التكييف معناه أننا نسمح للقاضي بسد أي "نقص" تشريعي بدا له وتعويض دور المشرع، ومعناه أننا نخول القاضي حق إيقاع الجزاء الذي يريد على أية واقعة يريد، حتى ولو كان النص القانوني المُسْتَخْدَم متعلقًا بواقعة أخرى بحكم منطوقه وسياقه.
إن التحريض على الإرهاب عمل مرفوض طبعًا، ولكن قيام الصحافي بمنح الأفراد إمكان العلم والاستعلام به، في سياق ممارسة المهنة، رغم اختلاف تقديرات المهنيين بهذا الخصوص، لا يستدعي، بالضرورة، تدخل القضاء لمعاملة الصحافي كإرهابي.
ولكي يحقق خطاب التحريض على الإرهاب أثره فيمن يُوَجَّهُ إليهم، فإنه يحرص على الاستناد إلى قراءة ماضوية وحرفية للنص الديني، وعلى استهداف الفئات الهشة واليائسة أساسًا، وعلى تقديم نفسه كجواب على المظالم والمفاسد القائمة. ولذلك، فإن الحد من تأثير هذا الخطاب، يستوجب نشر منهج القراءة الدينية المتنورة، ومحاربة الهشاشة والإقصاء والتهميش، والقضاء على مظاهر الظلم والتفاوت والفساد. هذا الجانب هو الغائب، اليوم، في النقاش الدائر بخصوص "قضية أنوزلا".