الحريات الفردية: صيغ للتوافق
ليس مستحيلاً أن يتوصل الإسلاميون والعلمانيون المغاربة، معاً، إلى تفاهم بخصوص الإطار القانوني العام لمعالجة قضية الحريات الفردية كجزء من التفاهمات الكبرى التي يتطلبها الانتقال الديمقراطي، إذا خلُصت النيات وتغلب هاجس إنجاح الانتقال على غيره من الهواجس السياسية، وأبدى كل من الطرفين استعداده لبذل قدر ضروري من التنازل. وبناء عليه، سيكون على الإسلاميين قبول قراءة منفتحة ومتجددة للنص الديني وتطوير الاجتهاد، وسيكون على العلمانيين تجنب المواقف الصادمة للشعور الديني لأغلبية مسلمة تعتبر أن متطلبات التقدم والتنمية والنهوض لا يجب أن تؤدي إلى إزاحة كل العناصر المميزة للشخصية الإسلامية. كما يجب على العلمانيين، كذلك، أن يفهموا أن المناداة بالحريات الفردية لا تعني الاستهانة بنتائج الاقتراع واتجاهات التصويت المعبر عنها خلال الانتخابات، فالحرية والديمقراطية متلازمتان وحماية الحريات الفردية تمر، بالضرورة، عبر الديمقراطية وصناديق الاقتراع. والإسلاميون يجب عليهم أن يفهموا أن حكم صناديق الاقتراع لا يمكن أن يُستعمل كمسوغ للنزول عن الحد الأدنى للحريات المتوافق عليه عالمياً، فهذا النزول هو بمثابة تجاوز لخط أحمر، وإلا فقدت الديمقراطية، نفسها، أحد أركانها. مدونة الأسرة، في المغرب، تقدم إلينا نموذجا عملياً يثبت الإمكانات المتاحة لصياغة توافق مقبول من طرف الجميع، تقريبًا، ومتناسب مع شروط المرحلة التاريخية التي تعيشها مجتمعاتنا ومع متطلبات الانتقال الديمقراطي. يمكن تعديل بعض مواد المدونة لفك الارتباط بين الصداق والعملية الجنسية، وتأكيد الاعتراف العملي بآثار الزواج المدني الموثق لدى سلطة أجنبية، بين مغربية مسلمة ورجل غير مسلم، دون حاجة إلى تغيير المقتضى، الوارد في المدونة، والذي يمنع هذا الزواج. وبالمقابل، يمكن اعتماد المقاربة المقاصدية لتغيير قواعد الإرث في اتجاه المساواة بين الذكور والإناث، وإفساح مجال إعمال اجتهادات جديدة والإفادة من القانون المقارن. ويمكن الاستناد إلى قاعدة (لا إكراه في الدين) لترسيم حرية المعتقد وحق تغيير الديانة وحق المجاهرة بالانتماء إلى ديانة من الديانات والدعاية لها أو بعدم الانتماء إلى أية ديانة، وتعديل الفصل 220 من القانون الجنائي، والالتزام بمبدأ المعاقبة على تحقير الديانات إذا تَمَّ باستعمال وسائل محددة حصريًا. ويستطيع الإسلاميون والعلمانيون الاتحاد في موقف التعهد بعدم فرض الحجاب من طرف الإسلاميين، وبعدم منع الحجاب من طرف العلمانيين واعتباره داخلاً في حرية ارتداء الزي الذي تختاره المرأة بكامل حريتها، أيا كانت الأسباب الذاتية التي دفعتها إلى ذلك. ويدخل في باب حرية اللباس الفردي ارتداء النقاب، أيضاً، مع كشف الوجه في الحالات والمواقف التي يصبح فيها ذلك ضرورياً بحكم الاعتبارات الأمنية.
وبصدد قضية الخمر، يمكن الاتفاق على تكثيف البرامج المحفزة على الابتعاد عنه والموفرة لمزيد من الحماية الخاصة بالمراهقين، ووضع بنيات استشفائية كافية لمعالجة المدمنين، مجانًا، ومنع بيع الخمور في أماكن بيع المواد الأخرى وإفراد أجنحة خاصة ومعزولة لبيع المواد الكحولية، ومنع استهلاكها على أرصفة المقاهي والحانات بطريقة تجعلها واقعة تحت أنظار الأطفال والعموم، ومنع الإشهار المتعلق بالخمر والقمار. وبخصوص حرية الفن والإبداع والموسيقى، يمكن للطرفين الإسلامي والعلماني الالتزام بتشجيعها واحترام التعدد والتنوع وإتاحة فرص الرواج المتكافئ لمختلف الألوان والمدارس والاتجاهات، وعدم اللجوء إلى التقييد المسبق لتلك الحرية إلا إذا توافق ذلك مع القواعد المنظمة لكل جنس من أجناس الفن ومع ما تقرره الهياكل الذاتية للفنانين والمبدعين.
وبصدد العلاقة الجنسية بين ذكر وأنثى بالغين، لا تربط بينهما علاقة الزوجية (الفصل 490 من القانون الجنائي) والعلاقة الجنسية بين شخصين من نفس الجنس (الفصل 489) والخيانة الزوجية( الفصل 491)، يمكن الانطلاق من المغزى الذي توخته الشريعة الإسلامية من التقييد الشديد للإثبات في هذه الحالات -حيث لا يمكن أن تجتمع شروط الإثبات إلا إذا قرر الفاعلان استفزاز الشعور العام، عمداً، باختيار المجاهرة ورفض التخفي والاستتار– ومن فكرة التمييز بين الفضاء العام والفضاء الخاص التي نادى بها إسلاميون مغاربة، ومن التطور التكنولوجي المذهل الذي حصل في عالم الصورة والتواصل، لتقرير الأحكام التالية :
- إلغاء الفصل 490، إسوة بالتشريعات العربية التي تجنبت إيراد مثل هذا الفصل خوفاً من الآثار الوخيمة المترتبة عن خرق الحرمات، تحت ستار البحث عن فاعلين محتملين للجرم، فيصبح الضرر الناجم عن مسلسل البحث أكبر بكثير من النفع الناجم عن معاقبة الفاعلين. ومع ذلك، إذا عمد الذكر والأنثى إلى توثيق فعلتهما، بالصور أو الأشرطة أو المراسلات البريدية أو الإلكترونية الجارية بينهما، وعرضاها على العموم أو عمدا إلى اطلاع الغير عليها، فإنهما يُعاقبان، حتى ولو لم تتوفر شروط متابعتهما اعتماداً على الفصل 483 الذي يعاقب على الإخلال العلني بالحياء، أي حتى ولو ارتكبا فعلتهما، أصلاً، في "الفضاء الخاص" وبين الجدران المغلقة، إذ يُفترض أنه بواسطة الصورة أو الشريط أو المراسلة البريدية أو الالكترونية الجارية بينهما، حين تُعرض على العموم أو يتم اطلاع الغير عليها، ننتقل من الفضاء الخاص إلى الفضاء العام؛ ويُعاقبان، أيضاً، ولو لم تتوفر شروط متابعتهما بناءاً على الفصل 2-503 من القانون الجنائي والفصل 59 من قانون الصحافة، المتعلقين بالمواد الإباحية..؛
- الإبقاء على تجريم العلاقة الجنسية المثلية وتغيير نظام الإثبات المتعلق بها، وذلك باعتماد الصور أو الأشرطة أو المراسلات البريدية أو الالكترونية كوسيلة إثبات وحيدة، متى قام أحد الفاعلين بعرضها على العموم أو إطلاع الغير عليها، حتى ولو اقتصر على تبادلها مع شخص واحد فقط؛
- الإبقاء على تجريم الخيانة الزوجية وتغيير نظام الإثبات المتعلق بها، وذلك باعتماد الصور أو الأشرطة أو المراسلات البريدية أو الإلكترونية، متى كان الطرف الضحية هو الذي أنجز الصور أو الأشرطة، بدون أن يعمد في ذلك إلى انتهاك حرمة بيت آخر غير بيته، أو لم ينجزها، شخصياً، ولكنه استطاع الحصول عليها أو الحصول على مراسلات بريدية أو إلكترونية، مستغلاً علاقته بزوجه.
وبالنسبة إلى قضية الإفطار جهارًا في نهار رمضان من طرف شخص عُرف باعتناقه الإسلام ولا يتوفر على عذر شرعي (الفصل 222 ق ج)، يمكن، هنا، تخفيف العقاب بتحويل الفعلة من جنحة إلى مخالفة، وتوسيع فكرة الفضاء الخاص، استثناءً، لما في مثل هذا الفصل من تعارض مع مبادئ حقوق الإنسان. وهكذا يمكن تخصيص أماكن للمفطرين في وسائل النقل والمطاعم والفنادق والإدارات العمومية والشركات الخاصة، على ألا يُسأل المفطرون فيها أوفي سياراتهم الخاصة (وهي في حالة سير أو مركونة في مكان معزول) عن مدى وجود عذر شرعي من عدمه، ويصبح الحيز المخصص للإفطار داخل الفضاء العام بمثابة "فضاء خاص" في هذه الحالة.
وفي ما يتعلق بقضية الإجهاض، يمكن الاحتفاظ بالتجريم مع تعديل صياغة الفصل 453 من القانون الجنائي الذي يقضي بأنه "لا عقاب على الإجهاض إذا استوجبته ضرورة المحافظة على صحة الأم متى قام به علانية طبيب أو جراح بإذن من الزوج.
ولا يُطالب بهذا الإذن إذا ارتأى الطبيب أن حياة الأم في خطر، غير أنه يجب عليه أن يشعر بذلك الطبيب الرئيسي للعمالة أو الإقليم.
وعند عدم وجود الزوج أو إذا امتنع الزوج من إعطاء موافقته أو عاقه عن ذلك عائق فإنه لا يسوغ للطبيب أو الجراح أن يقوم بالعملية الجراحية أو يستعمل علاجاً يمكن أن يترتب عنه الإجهاض إلا بعد شهادة مكتوبة من الطبيب الرئيس للعمالة أو الإقليم يصرح فيها بأن صحة الأم لا تمكن المحافظة عليها إلا باستعمال هذا العلاج".
ومن المعلوم أن الفقرة الأولى من هذا الفصل سبق أن عُدلت بمقتضى المرسوم الملكي لفاتح يوليوز 1967، فقد كانت الصيغة القديمة للفصل لا تبيح الإجهاض إلا "إذا استوجبته ضرورة إنقاذ حياة الأم من الخطر"، فأصبح الإجهاض مباحاً، اليوم، بمجرد أن تستوجبه "ضرورة المحافظة على صحة الأم".
وبمقتضى تعديل جديد قد يلحق الفصل 453، يمكن التنصيص على :
- إباحة الإجهاض إذا استوجبته ضرورة المحافظة على صحة الأم، مع الإشارة في النص إلى أن صحة الأم تشمل الصحة البدنية والصحة النفسية معاً، طبقاً لتعريف الصحة المعتمد من طرف منظمة الصحة العالمية؛
- عدم اشتراط إذن الزوج إذا ارتأى الطبيب أن حياة الأم في خطر، مع إشعار الطبيب الرئيسي للعمالة أو الإقليم. لكن في حالة عدم وجود الزوج أو إذا امتنع عن إعطاء موافقته أو إذا عاقه عائق، وعوض الشهادة المكتوبة من الطبيب الرئيسي للعمالة أو الإقليم، الذي قد لا يكون مختصاً في أمراض النساء والتوليد أو الطب النفسي، فيمكن الاقتصار، هنا، على شهادة طبيب نساء، بشرط ألا يكون هو من سيجري العملية أو يقدم الدواء المفضي إلى الإجهاض، أو شهادة طبيب نفساني يصرح فيها بأن ضرورة المحافظة على صحة الأم تقتضي حصول الإجهاض.
يظهر مما سبق أن قضية الحريات الفردية ليس من شأنها، بالضرورة، أن تشكل عقبة أمام التأسيس لميثاق انتقال ديمقراطي بين الإسلاميين والعلمانيين في بلادنا، فليس هناك خصاص في الصيغ الوسطى التي يمكن تبنيها بصورة مشتركة لمعالجة القضية المشار إليها؛ فما أكثر الحلول التي لن يكون فيها تعارض مع مقاصد الإسلام، واجتهاد أهل التنوير من علمائه وأبنائه المخلصين، ولن ينجم عنها أي إرباك لمسلسل بناء الانتقال المغربي الذي يحترم الحد الأدنى من الأسس المتعارف عليها كونياً.