محمد الساسي

avatar

لا تخرج المرأة للعمل وهي حائض!

كانت حلقة برنامج (مباشرة معكم)، المذاعة عبر القناة الثانية بتاريخ 8 يناير 2014، فرصة لكي نتعرف على ملامح المشروع السلفي من خلال ما ورد على لسان أحد أبرز رموزه، وهو السيد محمد الفيزازي، الذي شارك في البرنامج وقدم تفاصيل عن المشروع المشار إليه؛ هذه التفاصيل تسمح بإدراك التباعد الحاصل والبون الشاسع القائم بين تفكير السلفيين وتفكير التيارات الأخرى، في المجتمع المغربي، وصعوبة توصل السلفيين إلى القبول باشتراطات ومتطلبات الانتقال الديمقراطي والتوافق، مع غيرهم، على أرضية تأسيس هذا الانتقال. 

رَفَضَ الفيزازي (تكفير العين)، لكنه قال بتخويل القضاء الشرعي سلطة العقاب على (الكفر) عند الاقتضاء. هذا فيه إخلال بَيِّنٌ بقاعدة (لا إكراه في الدين) التي يتعين أن يستهدي بها كل مسلم يقتنع بالديمقراطية وحقوق الإنسان. 

وأشار الفيزازي إلى أن التطرف الديني هو نتاج "التطرف العلماني". وعندما نسعى إلى التعرف على مضمون هذا "التطرف الأخير"، نجد أنه يتمثل، فقط، في ممارسة حق طرح عدد من المشاكل والمظالم، القائمة في المجتمع، للنقاش، وفي البحث عن طرق حلها ومعالجتها، مع الاقتناع بأن الإسلام، في حد ذاته ومثل أية ديانة أخرى، لا يمكن أن يشكل عائقًا في وجه تدبير الحلول الضرورية التي يفرضها تطور الواقع؛ ومن يريد، باسم الدين، مصادرة الحق في النقاش، يخل بالحد الأدنى من الالتزامات التي يفرضها الاقتناع بالخيار الديمقراطي. 

وأكد الفيزازي أن الانتماء إلى الإسلام، كما يحدده الدستور المغربي، لا يمكن أن يسمح بحرية التفكير في موضوع "النصوص الشرعية القطعية"، وقال الفيزازي لمجالسيه: أأنتم أعلم أم الله؟ بينما ينبئنا التاريخ الإسلامي أن حالات مخالفة تلك النصوص، من طرف الصحابة، أنفسهم، قد حصلت وتواترت وأملتها مصالح عامة مؤكدة تتوافق، في النهاية، مع مقاصد الإسلام ومثله النبيلة؛ فعمر بن الخطاب، رضي الله عنه، بعد فتح العراق، لم يلتزم بالقاعدة الواردة في القرآن الكريم بخصوص توزيع الغنائم على الجند، وعطَّل تطبيق حد السرقة في عام الرمادة ..إلخ. لابد، إذن، من الاجتهاد لتجاوز القراءات الحرفية ولإعادة تحديد القطعي وغير القطعي، في ضوء فكر إصلاحي مقاصدي مستنير وُضعت أسسه قبل أكثر من قرن، وتماشياً مع واقع جرى التخلي، فيه، عن إعلان الجهاد ضد الكفار، وعن تطبيق الحدود، وعن ملك اليمين، وعن المنع المطلق للربا. 

وطالب الفيزازي بأن يبقى تناول القضايا، المثارة في برنامج القناة الثانية، حكراً على "أهل الاختصاص"، ويقصد بهم علماء الدين، بينما لا يستطيع هؤلاء ممارسة دورهم على الوجه الأكمل دون الرجوع إلى رجال ونساء العلوم الأخرى من أجل التزود بالمعلومات والمعطيات التي تسمح بمواكبة ما يجري وتتبع المستجدات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية والعلمية والتكنولوجية والإدارية والقانونية والدولية. 
إن الذين يدعون إلى قراءة مقاصدية وتاريخية للنصوص الشرعية لا ينطلقون، بالضرورة، من نفي حقيقة الوحي أو اعتباره أسطورة أو الطعن في القيمة الدينية للقرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، كما يتهمهم بذلك خصومهم، ولكنهم يعتبرون أن هناك حكمة ربانية تستدعي هذه القراءة، ذلك أن القواعد الواردة في الكتاب والسنة، تحمل معنيين في الوقت نفسه :

-    معنى موجه إلى الذين وُجِدُوا، في الزمن الذي صدرت فيه، إذ هي راعت ظروفهم الخاصة وتجنبت أن تصدم تفكيرهم، وهم في ما هم فيه من وعي محدود بحركة التاريخ والإنسان ومن بساطة في النظم القائمة وتمثل ضعيف للحقوق؛ 

-    ومعنى آخر موجه إلى الذين سيأتون في ما بعد، والذين عليهم أن يسيروا بعيدًا في الاتجاه الذي رسمته النصوص ودعت إلى نهجه تدريجيًا، وأن يتجاوزوا النص وصولاً إلى الأهداف الكبرى التي توخاها والتي لا يمكن أن تبقى حبيسة المعنى الحرفي. 

إن النصوص الشرعية قد قَدَّمت، في مرحلة صدورها، أقصى ما كان يمكن أن تقدمه آنذاك، حتى تحقق إمكان النفاذ المتدرج إلى وعي الناس وممارساتهم وتضمن التطور، بالقدر المتاح، على أمل تحقيق المزيد في المستقبل. 

ومن أطرف ما فاه به الفيزازي قوله إن أحكام الإرث يجب أن تُفهم في ظل المنظومة الإسلامية ككل والتي كرَّمت المرأة وأعفتها من النفقة، فالمرأة ينفق عليها أبوها ثم زوجها، والذين يريدون تغيير قواعد الإرث، يريدون، حسب الفيزازي، أن تخرج المرأة للعمل وهي حائض أو نفساء أو ضعيفة الجسد، إذ لا يمكن أن نسوي بين المرأة والرجل في التكوين الفيزيولوجي والعضلي، إنهم يريدون أن تخرج المرأة للعمل "كيفما اتفق"؟ لكي يطالبوها، بعد ذلك، بأداء نصف واجبات الكراء ونصف واجبات الماء والكهرباء ونصف ثمن الطعام، هذا ظلم للمرأة، حسب الفيزازي، فالأفيد لها أن يتم الإبقاء على قاعدة (للذكر مثل حظ الأنثيين)، وتمكينها من نصف حصة الرجل من الميراث، في الحالات التي تطبق فيها هذه القاعدة، ولكن مع الابقاء على كل أوجه الإعفاء من الإنفاق التي تتمتع بها. 

الغريب أن الفيزازي يستعمل صيغة (يريدون إخراجها للعمل)، والحال أنها خرجت، فعلاً، للعمل منذ مدة طويلة ولم تنتظر الإذن من الفقهاء المحافظين. وهو يعترف بأن القاعدة، المشار إليها، جاءت مطابقة لوضع مجتمع لا تخرج فيه المرأة للعمل ولا تتحمل، فيه، أي وجه من أوجه الإنفاق على نفسها أو على الغير. هل غاب عليه أن الأوضاع تغيرت، جوهريًا، وأن المرأة خرجت للعمل وأنها تساهم في تحمل كافة نفقات الأسرة، فكيف يُعقل أن نقول إننا أعفيناها من التزامات مالية ظهر في الواقع أنها لم تُعف منها. يعيب الفيزازي على البعض رغبته في إخراج المرأة للعمل (كيفما اتفق)، فما هو الاحتراز الذي كان ينبغي، في نظره، التقيد به قبل إخراجها للعمل. من المعلوم أنه في فترة الوضع والنفاس تستفيد المرأة العاملة من عطلة مؤداة الأجر. لكن ما دخل الحيض "والضعف العضلي"، هنا، ولماذا الجمع بين النفاس والحيض و"الضعف العضلي"؟ هل يكون الدافع إلى هذا الجمع هو الشعور بالامتعاض من عمل المرأة في جميع الحالات؟ المرأة الحائض تمارس عملها بشكل عادي، والحيض لم يمنع النساء من إجراء العمليات الجراحية الدقيقة وقيادة الطائرات والقطارات، ولا ندري ما إذا كان الفيزازي يشترط، قبل ركوبه الطائرة، ألا يكون الربان امرأة توجد في فترة الحيض. وفي الحالات الاستثنائية التي يمكن، فيها، أن تترتب عن الحيض اضطرابات نفسية أو فيزيولوجية جدية، فإن المرأة، طبعاً، ستتمتع بعطلة مَرَضِية. وحالة الضعف العضلي يقدمها كحالة تشمل جميع النساء، فهل معنى ذلك أن عليهن، جميعًا، التزام البيت أو الاقتصار على مجالات مهنية محدودة؟ 

النساء، اليوم، ينفقن على أسرهن، ومنهن من تعيل أبويها وإخوانها الذكور، فهل يجوز القول، في هذه الحالة، إن استمرار العمل بقاعدة للذكر مثل حظ الأنثيين أفيد للمرأة؟ 

مثل هذا الخطاب، الذي يردده الفيزازي، متناقض مع المكتسبات التي حصلت عليها المرأة المغربية، فهو يتحدث كما لو أن هذه المكتسبات غير موجودة. المرأة، في المغرب، لم تعد في حاجة إلى إذن زوجها لممارسة التجارة، ولم تعد تحتاج إلى ولي من أجل الزواج، ويمكنها طلب الطلاق للشقاق، ولها نصاب في التمثيل النيابي وفي أجهزة الأحزاب، وهي قاضية تحكم بين الناس وضابطة عسكرية وشرطية ووزيرة ووالية ومستشارة للملك ورئيسة حزب ومهندسة تضع تصاميم القناطر والعمارات والطرق. وقد أُدخلت العديد من التعديلات التشريعية التي منحتها حقوقاً جديدة. ولا يمكن أن نعود إلى الوراء، فترجع المرأة إلى البيت وتتوقف عن الإنفاق، مثلاً. 

اعتبر الفيزازي، أيضاً، أن التعدد يمثل الحل الأمثل للعنوسة التي تعاني منها، في نظره، 6 ملايين امرأة مغربية، يبحثن عن الزوج ولا يجدنه. هذا النوع من التفكير يحط  من قيمة المرأة، فهو ينطلق من أن العنوسة ظاهرة نسوية فقط، وأن المرأة تسعى إلى الظفر بالزوج بأي ثمن، وتقبل به تحت أية شروط ولو كانت مذلة لها وماسة بكرامتها، وأنها لا تَختار بل تُختار، وأن عقد الزواج ليس عقد تراض، كما ينص على ذلك القانون، بل عقد إذعان تستسلم فيه المرأة صاغرة لإرادة الرجل، وأن المرأة بدون زوج لا قيمة لها، وأن الرجل، عندما يقبل الاقتران بها، فإنما ذلك من فضله وكرمه عليها، وأن الزواج مؤسسة خيرية لإسعاف النساء، وأن الرجل هو الأقوى والمرأة هي الأضعف (وهنا نعود إلى حكاية الحيض والنفاس والقدرة العضلية..إلخ). لكن إخواننا الإسلاميين عندما يمارسون التعدد، فهم، كما نرى ذلك أمامنا، يسعون إلى صغيرة السن، كزوجة ثانية أو ثالثة أو رابعة، ممن لم تُطرح عليهن، بعد، مشكلة "العنوسة"، فالغاية هي اللذة وليس الإحسان. 

لقد ظهر الفيزازي، في برنامج القناة الثانية، كما لو كان قد نزل، لتوه، من  كوكب آخر أو جاء من عصر غابر وقارة سحيقة، وكأنه لا يفهم ما يجري في العالم وما يدور من حوله، وكأن لا علاقة له بالناس وبالواقع.. فهو يرى إمكان المعاقبة على الكفر؛ وهو يرى منع أية محاولة لإعادة تأويل نصوص الشرع، بما يطابق المصلحة وتطور الأوضاع، كما فعل الصحابة من قبل وكما هو جار اليوم في الواقع على أكثر من صعيد؛ وهو يرى منح علماء الدين تفوقًا غير مبرر وتحويلهم إلى أصحاب الحل والعقد في كل الأمور وتجاهل حاجتهم إلى تدخل علماء الحقول الأخرى؛ وهو يرفض الأخذ برأي مسلم من مذهب آخر، ويعتبر صاحبه منحرفًا. فكيف له أن يأخذ برأي غير المسلم؟ وهو لا زال يناقش خروج المرأة للعمل كإمكان أو كاحتمال بينما الواقع حسم الأمر؛ وهو لا زال يتعامل مع المرأة كما لو كانت، فعلياً، معفية من الإنفاق؛ وهو لازال يطرح قضية التعدد كما لو أن الرجال مخيرون، فقط، بين تعدد الزوجات أو تعدد الخليلات، وهو ما يعكس وجود نزعة ذكورية متأصلة؛ وهو يتوصل، ضمنيًا، إلى استنتاج مؤداه أن فقهنا لن يتقدم أبدًا وأن الواقع لا يتغير أبدًا. 
فكيف لفكر، على هذه الدرجة من التحجر، أن يبني، مع المخالفين له، أسس التعايش الضرورية في نظام ديمقراطي؟ 

ومع ذلك، فإن مجرد التناظر، في قناة تلفزية عمومية، بين أصحاب هذا الفكر وبين من يحملون فكرًا مخالفاً، يمثل خطوة، فهل ينجح معتدلو الصف السلفي، إذا وُجدوا، في بذل خطوات أخرى؟ 









0 تعليق ل لا تخرج المرأة للعمل وهي حائض!

أضف تعليق

البحث في الأرشيف

البحث بالتاريخ
البحث بالصنيفات
البحث في الموقع

البوم : صور