محمد الساسي

avatar

دسـتـور تـونـس .. و نهضة تونس

بقلم : محمد الساسي

بدأت ثورات الربيع، بوصفها انتفاضة جماهيرية عارمة ضد الاستبداد والفساد، من تونس. واليوم، يبدأ الانتقال، بوصفه عبوراً إلى ضفة الديمقراطية راسخة الأركان وصلبة البنيان، من تونس، أيضًا.

لقد تَمَّ إنجاز خطوة حاسمة على طريق استكمال مقومات الانتقال التونسي، من خلال التوافق على الدستور في جو مفعم بالتعبئة والحماس والتفاؤل. ونتمنى أن يصل الانتقال إلى مداه وأن يتحقق التحول التاريخي الذي طالما حلم به المواطن التونسي وأشقاؤه في المنطقة المغاربية والعربية.

عوامل متعددة ساهمت في تذليل الصعوبات وفي إنجاز التوافق على وثيقة نالت رضى الإسلاميين والعلمانيين معًا. ونعتبر أن من بين هذه العوامل، هناك القبول، منذ البداية، بوجود رجلين في أعلى هرم السلطة يشتركان في تدبير شؤون الدولة، أحدهما يرأس الدولة وله "مرجعية علمانية"، والآخر يرأس الحكومة وله "مرجعية إسلامية"؛ ووجود طبقة وسطى ساهمت في الحراك الثوري وضخت فيه روح الاعتدال؛ ووجود قاعدة واسعة من المتعلمين وحملة القيم العقلانية والعصرية ودعاة الثقافة المواطنتية والمدنية، والمساهمة الراقية لهياكل المجتمع المدني ورجال الأعمال التواقين إلى تأسيس فضاء ليبرالي وبناء دولة القانون والذين عززوا جهود الاتحاد العام التونسي للشغل والهيئات الحقوقية في سبيل تتويج الحوار الوطني بتوافق دستوري، والانفراج العام الذي أفضى إليه قبول النهضة بمغادرة السلطة وإفساح المجال أمام حكومة محايدة للإشراف على ما تبقى من حلقات الانتقال، والتزام الجيش جانب الحياد، والتراكم الناتج عن حصول سابقة للحوار الإسلامي العلماني عبر هيئة 18 أكتوبر للحقوق والحريات (2005-2007)، والنشاط الفعال للنساء التونسيات وقوة تشبتهن بمكتسبات المرحلة البورقيبية.

إن الدستور التونسي الجديد يمكن أن يشكل قاعدة للحوار بين الإسلاميين والعلمانيين في البلدان العربية ومرجعًا يستلهمون منه الكثير من الصيغ التي تنتصر لاختيار بناء دولة مدنية لا هي بالعلمانية الكاملة ولا هي بالدولة شبه الدينية. وسلوك النهضة، اليوم في تونس، يدل على عدم صواب الرأي القائل بأن جميع الإسلاميين قُدُّوا من معدن واحد وأنهم فصيل عصي، دائمًا، على التطور في اتجاه القبول بالآخر والتسليم بسيادة القانون وتمثل مبادئ التسامح والحرية والمواطنة.

طبعًا، هناك صيغ واردة، في الدستور التونسي الجديد، يمكن أن تطرح بعض المشاكل في التطبيق مثل "التزام الدولة بحماية المقدسات" و"الدولة راعية للدين". ومع ذلك، فلقد تَمَّ استبعاد صيغة تجريم الاعتداء على المقدسات، ولاشك، مثلاً، أن السب والشتم، بالمعنى المتعارف عليه عالمياً، إذا مس رموزاً دينية أو أشخاص عاديين فمن الطبيعي أن يُعتبر، كمبدإ عام، غير مقبول. ورعاية الدولة للدين تُفهم، هنا، على أنها حماية لحق الممارسة الدينية. وجدير بالذكر، أنه تَمَّ تجنب دسترة المجلس الإسلامي الأعلى ومؤسسة الإفتاء حتى لا يُعتبرا جزءاً من بنية القرار الرسمي في الدولة.

الدستور التونسي لا يؤسس لنظام برلماني خالص أو نظام رئاسي خالص، بل يؤسس لنظام مختلط، شبه برلماني أو برلماني معدل حسب البعض، وشبه رئاسي أو رئاسي معدل حسب البعض الآخر.

في مجال الحقوق، وقع الالتزام بحماية الحقوق المكتسبة للمرأة، وعليه فكل ما ورد منها في مجلة الأحوال الشخصية أصبح مُحَصَّنًا، دستوريًا، ولا يمكن لأغلبية نيابية محافظة أن تعمد إلى الإجهاز عليه أو تهجينه، بل أكثر من ذلك أصبح تعزيز وتطوير حقوق المرأة واجبًا. لقد جرى الانفتاح على الأجيال الثلاثة لحقوق الإنسان والاعتراف بالحق النقابي، مع تضييق مجال الأفراد المحرومين من هذا الحق (العسكريون فقط) وتضييق مجال الأفراد المحرومين من حق الإضراب (رجال الأمن والديوانة فقط). وعمومًا، نص الدستور على أن الضوابط التي يضعها القانون للحقوق والحريات يجب ألا تنال من جوهرها، وألا تُوضع إلا لضرورة تقتضيها دولة مدنية ديمقراطية. وبما أن القضاء يتكفل بحماية الحقوق والحريات من أي انتهاك، فإنه يكون مدعوًا، بناء على منطوق الدستور نفسه، إلى تفسير "الضوابط" في ضوء المقارنة مع ما هو معمول به في عموم البلدان "المدنية الديمقراطية". ويمنع الدستور إحداث محاكم استثنائية أو سن إجراءات استثنائية من شأنها المساس بمبادئ المحاكمة العادلة؛ أما المحاكم العسكرية فهي محاكم مختصة، فقط، في الجرائم العسكرية. ولا يمكن إجراء أي تتبع قضائي مدني أو جزائي ضد عضو بمجلس نواب الشعب، أو إيقافه أو محاكمته، لأجل آراء أو اقتراحات يبديها، أو أعمال يقوم بها في ارتباط بمهامه النيابية، ولا يورد الدستور، هنا بصدد هذه القاعدة، أي استثناء متعلق بنوع خاص من الآراء. ويكفل الدستور للمتقاضين حق الدفع بعدم الدستورية أمام المحاكم العادية التي تحيله، وفق الإجراءات التي ينص عليها القانون، على المحكمة الدستورية.

وبالإضافة إلى التنصيص على أن حق المِلْكِية مضمون، يحرص الدستور التونسي على تأكيد سعي الدولة إلى تحقيق العدالة الاجتماعية والتنمية المستدامة فـ"الثروات الطبيعية ملك للشعب التونسي، تمارس الدولة السيادة عليها باسمه". ولا يعني هذا أن استثمار هذه الثروات سيُباشر في إطار القطاع العام، بالضرورة، بل يعني أن "عقود الاستثمار المتعلقة بها تُعرض على اللجنة المختصة بمجلس نواب الشعب، وتُعرض الاتفاقيات التي تُبرم في شأنها على المجلس للموافقة". وتضمن الدولة العلاج المجاني لفاقدي السند ولذوي الدخل المحدود وتضمن الحق في التغطية الاجتماعية. والتعليم إلزامي إلى سن ال 16، وتضمن الدولة الحق في التعليم العمومي المجاني بكل مراحله، كما تضمن الدولة الحق في الماء، وحق الانتخاب والتمثيلية للمواطنين التونسيين بالخارج في انتخابات مجلس نواب الشعب.

ينص الدستور التونسي الجديد على ضرورة اعتماد الجماعات المحلية لآليات الديمقراطية التشاركية، وعلى مباشرة الديمقراطية التمثيلية بواسطة مجلس تشريعي واحد، وعلى ممارسة السلطة التنفيذية من طرف رئيس الجمهورية، من جهة، وحكومة يرأسها رئيس الحكومة، من جهة ثانية. يكلف رئيس الجمهورية مرشح الحزب أو الائتلاف الانتخابي المتحصل على أكبر عدد من المقاعد بمجلس نواب الشعب بتكوين الحكومة. ويضبط رئيس الحكومة السياسة العامة للدولة ويسهر على تنفيذها، مع مراعاة السلطات العائدة إلى رئيس الجمهورية. وتتمثل هذه السلطات، أساسًا، في تمثيل الدولة، وضبط السياسات العامة في مجال الدفاع والعلاقات الخارجية والأمن القومي المتعلق بحماية الدولة والتراب الوطني من التهديدات الداخلية والخارجية، وذلك بعد استشارة رئيس الحكومة، كما تتمثل في حق حل مجلس نواب الشعب..

رئيس الجمهورية يغل يده الكثير من التقييدات، ففضلاً عن حصر سلطاته في مجالات محدودة وضيقة، لا يمكنه إعلان الحرب وإبرام السلام إلا بعد موافقة مجلس نواب الشعب، ولا يمكنه إرسال قوات إلى الخارج إلا بموافقة رئيس مجلس نواب الشعب والحكومة، على أن ينعقد المجلس للبت في الأمر خلال أجل لا يتجاوز 60 يومًا. ولا يجوز تولي رئاسة الجمهورية لأكثر من دورتين متصلتين أو منفصلتين (مدة الدورة الواحدة خمس سنوات)، ولا يجوز الجمع بين رئاسة الجمهورية وأية مسؤولية حزبية، وإعلان الرئيس لحالة الاستثناء يظل ملاحقًا بإمكان تدخل المحكمة الدستورية، بعد شهر، لإنهائها. ويمكن لأغلب نواب مجلس الشعب المبادرة بلائحة معللة لإعفاء رئيس الجمهورية من أجل الخرق الجسيم للدستور. ولا يعين رئيس الجمهورية إلا ثلث أعضاء المحكمة الدستورية البالغين 12 عضوًا (يعين مجلس نواب الشعب أربعة والمجلس الأعلى للقضاء أربعة).

القيود التي أُلقيت على حركة رئيس الجمهورية، إنما جاءت كرد فعل على المعاناة السابقة للشعب التونسي وشعوب المنطقة المغاربية والعربية من النزعة الرئاسية المفرطة التي سادت في الماضي وتجاوزت كل الحدود وأضفت طابعًا شخصيًا على النظام؛ واليوم، إذا ما حصلت انتقالات ديمقراطية، فإنها قد تتجه ، ربما، إلى تبني أنظمة مختلطة، بطابع رئاسي معتدل أو ميل برلماني مع فرض سلطة تنفيذية برأسين وذلك لطي مرحلة أليمة ودرء خطر احتكار رئيس الدولة للسلطة.

ويظهر أن الدستور التونسي يفسح المجال لتخفيف شروط الترشيح لرئاسة الجمهورية، من طرف المشرع العادي، إذ يفرض عليه ضمان حق الترشيح لكل من يتوفر على صيغة واحدة للتزكية من أصل ثلاث صيغ، وهي إما تزكية عدد محدد من أعضاء مجلس نواب الشعب، أو عدد محدد من رؤساء مجالس الجماعات المحلية المنتخبة، أو عدد محدد من الناخبين المرسمين.

ويكفل الدستور للسلطة القضائية أدوات حيازتها للاستقلالية المطلوبة، ولاسيما من خلال اشتراط أن يكون أغلب أعضاء المجلس الأعلى للقضاء منتخبًا، وأن يكون رئيسه، أيضًا، منتخبًا، بشرط أن يكون مصنفًا في أعلى رتبة.

ويعدد الدستور التونسي الهيئات الدستورية المستقلة، وهي هيئة الانتخابات، وهيئة الاتصال السمعي البصري، وهيئة حقوق الإنسان، وهيئة التنمية المستدامة وحقوق الأجيال القادمة، وهيئة الحوكمة الرشيدة ومحاكمة الفساد. وتتولى الهيئة العليا المستقلة للانتخابات إدارة الانتخابات والاستفتاءات وتنظيمها والإشراف عليها في جميع مراحلها وتضمن سلامة المسار الانتخابي ونزاهته وشفافيته، وتصرح بالنتائج. وتتركب الهيئة من تسعة أعضاء مستقلين محايدين من ذوي الكفاءة والنزاهة.

بقلم : محمد الساسي

نهضة تونس

تمكن التونسيون من قطع شوط هام من أشواط مسلسل الانتقال الديمقراطي، فقد حصل توافق واسع على نص الدستور، وكان ذلك إيذاناً بدخول البلاد إلى مرحلة دستورية ثالثة بعد مرحلة دستور البايات (1861)، ومرحلة دستور بورقيبة (1959).

التوافق جرى، في الواقع، بين ممثلي طرفين أساسيين : الإسلاميون، من جهة، والعلمانيون، من جهة ثانية. وظهر، مرة أخرى، أن هذين الطرفين، هما المعنيان، أساساً، بإيجاد قاعدة تفاهم على أصول اللعبة السياسية وإجراءاتها وأن عليهما التوصل إلى حل مشترك لمعادلة تهم، بالدرجة الأولى، مكانة الدين والخصوصية في بناء الديمقراطية داخل البلاد. والصيغة التي تَمَّ تبنيها، في تونس، لم تتمثل في اعتماد أسس دولة علمانية خالصة أو في اعتماد أسس دولة شبه دينية، بل تمثلت في اعتماد أسس "دولة مدنية" تنبني على قدر من "العلمنة" مع الاحتفاظ للدين الإسلامي بعد من "الامتيازات".

وهكذا، جرى، في الدستور التونسي الجديد، إعلان التمسك بتعاليم الإسلام ومقاصده السمحة المتسمة بالتفتح والاعتدال، وبالإسلام كدين للدولة، والالتزام بتأصيل الناشئة في هويتها العربية الإسلامية، ورعاية الدين وحماية المقدسات ومنع النيل منها، واشتراط انتماء رئيس الجمهورية إلى الدين الإسلامي. ولكن، جرى، في نفس الوقت، ترسيم الطابع المدني للدولة ودورها في حماية حرية المعتقد والضمير وتأمين ممارسة الشعائر الدينية وفي ضمان حياد المساجد ودور العبادة عن التوظيف الحزبي، والتزام الدولة بنشر قيم الاعتدال والتسامح ومنع دعوات التكفير والتحريض على الكراهية والعنف وبالتصدي لهما، والسعي إلى تحقيق التناصف بين المرأة والرجل في المجالس المنتخبة، وتَمَّ التأكيد على التزام الدولة بحماية الحقوق المكتسبة للمرأة والعمل على دعمها وتطويرها وضمان تكافؤ الفرص بين الرجل والمرأة في تحمل مختلف المسؤوليات وفي جميع المجالات؛ وجرى الإعراض عن إيراد التنصيص على الشريعة الإسلامية كمصدر للتشريع.

لا يمكن القول بأن مصير الانتقال التونسي قد حُسِمَ، وأن الطريق إلى استكمال بقية خطوات المسلسل الانتقالي غدت معبدة وخالية من المطبات والحواجز، وأن جسم الانتقال قد اكتسب مناعة ضد احتمال الإصابة بالتعثر أو التعطل أو الانهيار. لكن، مما لاشك فيه أن خطوة المصادقة على الدستور تُعتبر أساسية وتستحق التنويه والتحية والتثمين. والاحتفاء العالمي الذي أُفْرِدَ لهذه الخطوة يمثل حدثاً نوعياً في تاريخ تونس الحديث؛ وأهم دلالة يحملها التوافق، الذي جرى في تونس، هو التأشير على أن مصير "الربيع الديمقراطي" والثورات التي عرفتها المنطقة المغاربية والعربية لن يكون، في المرحلة الراهنة، واحداً بالضرورة؛ فبجانب مظاهر التعثر أو التذبذب أو الارتباك أو الانتكاس التي قد تمهر المرحلة الانتقالية المفترضة، في عدد من البلدان المعنية، يمكن، في بعضها الآخر، أن تظهر معالم التقدم وأن يتحقق اجتياز ناجح لجزء هام من اختبارات الانتقال. التوافق التاريخي، إذن، بين أطراف الصراع السياسي، في مجتمعاتنا، على وثيقة تأسيس الديمقراطية ليس مستحيلاً. وهذه المجتمعات لا تحمل جينات معادية للديمقراطية، وهاهي التجربة التونسية تؤكد، اليوم، أن إنجاح التوافق المطلوب، كجزء من مستلزمات الانتقال، ممكن.

في مصر، فشل التوافق، حيث عرفت البلاد التصويت على دستورين، كل منهما كان عبارة عن وثيقة مفروضة من غالب على مغلوب. وفي ليبيا واليمن، تعترض طريق التوافق بعض المصاعب ولا يُعْرَفُ المدى الزمني الذي سيتطلبه أمر التغلب عليها. وفي تونس نجح التوافق حول وثيقة دستورية رضيت بها الأطراف الأساسية. وكان من المشروع أن يطرح العديد من الباحثين والمتتبعين التساؤل عن طبيعة العوامل التي أسهمت في التوصل إلى هذا النجاح :

1-  لعب المجتمع المدني، من خلال الرباعية الراعية للحوار، وعلى الأخص من خلال الاتحاد العام التونسي للشغل، دورًا حيويًا في حمل الطرفين الإسلامي والعلماني على تبني خريطة طريق مشتركة وتحقيق تراض حول الوثيقة الدستورية. وهذا يعني، ربما، أن وجود هيئات مدنية ذات مصداقية يمكنه توفير شروط إنجاح التوافق وتهذيب الصراع بين الأطراف ودفعها إلى التزام جانب الحكمة وتجذير ثقافة الانتقال؛

2-  أبدى إسلاميو النهضة قدرًا عاليًا من المرونة. يرجع البعض ذلك إلى شدة الضغط الذي تعرضوا إليه، داخلياً، وإلى تأثير التطورات التي عرفتها الساحة المصرية. وللتاريخ، تجب الإشارة هنا إلى أن السيد راشد الغنوشي زار الديار المصرية، ضمن وفد المؤتمر القومي العربي، وحاول دفع الرئيس مرسي إلى البحث عن تسوية وبذل تنازل لخصومه الذين كانوا يخوضون حملة عارمة للمطالبة برحيله. وهذا يعني أن قائد حركة النهضة كان يدرك، منذ البداية، الآثار الوخيمة التي ستنجم عن تصلب الإخوان في مصر واستعلائهم، قبل حصول ما حصل وقبل تدخل الجيش، وبالتالي كان يدرك أن الانتصارات الانتخابية للإسلاميين، في "بلدان الربيع"، لا تعفيهم من واجب تقديم التنازلات الضرورية لتحقيق توافق مع العلمانيين.  

وإذا كان سلوك النهضة قد اتسم بالتعقل والواقعية، فإن سلوك بعض الفصائل اليسارية التونسية قد شابه الكثير من المزايدة والرغبة في استخلاص المنافع التي لم يتمكن، ذلك البعض، من تحصيلها بواسطة صناديق الاقتراع. عدد من خصوم النهضة، أنفسهم، فوجئ، على ما يظهر، بحجم التنازلات التي قبلتها ورضاها بتسليم السلطة إلى حكومة مستقلة، وخاصة بعد اغتيال كل من شكري بلعيد ومحمد البراهمي، وتزايد الأعمال الإرهابية، وقيام صعوبات في الحصول على قروض، وانتشار الاحتجاجات في كل مكان، وتعليق أشغال الجمعية التأسيسية، واتهام المعارضة للحكومة بعدم التزام القدر المطلوب من الحزم في ضبط الأمن وحماية النشطاء السياسيين وردع الجهاديين؛

3-  ظهر، أيضاً، أن موقف الجيش يكون له أثر بارز في رسم المنحى الذي تتخذه الأحداث بعد اندلاع الانتفاضات. فكلما كانت المؤسسة العسكرية قوية ولها ترسانة ضخمة من العدة والعتاد وتأثير في الاقتصاد، وكلما كانت البلاد تواجه تحديات عسكرية، وفشلت الأطراف السياسية في التوصل إلى توافق على قواعد اللعبة وخريطة طريق الانتقال، وكلما غرقت البلاد في أزمة سياسية، إلا وأدى ذلك إلى فتح شهية الجيش والقوى المرتبطة بالنظام السابق إلى التدخل ومحاولة تحريف مسار الانتقال وإعادة إحياء مظاهر السلطوية. في الحالة المصرية، أدت خطة الجيش الهادفة إلى التحالف مع طرف سياسي إلى سحق الطرف الثالث. وفي الحالة التونسية، أدى تنظيم الحوار، خارج وصاية الجيش، إلى إبعاد احتمال تدخله. وعلى العموم، فإن الدور الذي لعبه، أو يمكن أن يلعبه، الجيش يتحدد على ضوء تاريخه ونفوذه وارتباطاته وطبيعة مصالحه وسوابقه وقوة أذرعه الاقتصادية والسياسية؛ ولكنه يتحدد، أيضاً، في المراحل الانتقالية المفترضة، المعروفة بتعقيدها ودقتها، على ضوء سلوك أطراف الصراع السياسي ومدى نضجها وقدرتها على سد الثغرات التي يمكن أن تنفذ منها القيادات العسكرية التي قد ترى في انتصار الديمقراطية تهديداً لمصالحها؛

4-  يعتبر الكثيرون أن وجود طبقة متوسطة متعلمة ووازنة، في تونس، ساعد على تغليب منطق الاعتدال على منطق التطرف، في سلوك الفاعلين، وأدى إلى عزل المتطرفين، وجعل المجتمع، حتى قبل الانتفاضة، متوفرًا على مؤهلات لتقبل الديمقراطية ومستعداً لتحمل ما تفرضه، ثقافياً، على الأفراد والجماعات من واجبات؛

5-  ساهم مسلسل الحوار الذي انطلق بين عدد من أطياف المعارضة الإسلامية والعلمانية، قبل عدة سنوات، في تسهيل التوصل، اليوم، إلى صيغ دستورية توافقية. ومن المعلوم أنه تَمَّ إنشاء هيئة 18 أكتوبر للحقوق والحريات (2005-2007) بين هيئات وشخصيات تونسية، وورد في مشروع الأرضية المؤرخة ب 25 يناير 2006 أن تكوين إطار مشترك، جاء من أجل "- تنظيم حوار علني وشفاف في الداخل وفي المهجر حول القضايا التي شقّت صفوف الحركة السياسية والمدنية، والمتصلة بضمان الحريات وحقوق الإنسان، وفي مقدمتها حرية المعتقد والضمير وحرية التعبير والمساواة بين الجنسين والسلامة البدنية، وتلك المتصلة بهوية الشعب التونسي وعلاقة الدين بالدولة وبالسياسة عامة، وكذلك تلك المتصلة بالتفريق بين السلطات والتداول الديمقراطي على الحكم عبر الانتخاب العام الحر والمباشر والسري، ومسألة الربط بين الديمقراطية والتنمية؛

-       البحث من خلال هذا الحوار عن نقاط التقاطع والالتقاء بين مكونات المعارضة التونسية التي تستجيب للحد الأدنى من متطلبات الانتقال إلى الديمقراطية، وتفتح طريقا لاستقرارها وتطورها في بلادنا، والتحضير من خلال هذا الحوار لصياغة عهد ديمقراطي يتضمن مبادئ وأسس النظام الجمهوري التي يتقيد بها جميع الفرقاء،  وتشكل مدونة سلوك للمواطنة في ظل نظام يقوم على الحرية والمساواة والتعددية والتداول الديمقراطي على الحكم".

6-  تدخلت النساء التونسيات بقوة، عبر منظماتهن المدنية، لكي تحافظ الوثيقة الدستورية الجديدة على مكتسباتهن. وظهر أن ممارسة واستعمال الحقوق، على مدى عدة عقود، أشعر النساء، أكثر، بقيمة تلك الحقوق. إن محاولة تجريد النساء من مكتسبات، ألفنها وتعلق حقهن بها، هي، في العادة، أصعب من محاولة الوقوف ضد حصول النساء على مكتسبات جديدة. لم يتيسر للمحافظين، في تونس، أن يعودوا بالمجتمع إلى الوراء، فالتراث البورقيبي، في مجال تحرر المرأة، عزز نفوذ وقوة النساء في المجتمع، وأكسب حركة نضالهن من أجل المحافظة على المكتسبات، طابعاً جماهيرياً.

وفي الإجمال، يمكن القول بأن أجواء المصادقة على الدستور أظهرت أن المجتمع التونسي كان، ربما، قبل اندلاع شرارة الثورة، "جاهزاً" للثورة...









0 تعليق ل دسـتـور تـونـس .. و نهضة تونس

أضف تعليق

البحث في الأرشيف

البحث بالتاريخ
البحث بالصنيفات
البحث في الموقع

البوم : صور