محمد الساسي

avatar

الروح الوطنية

بقلم : محمد الساسي

احتلت سحابة دكناء سماء العلاقات المغربية الفرنسية، وذلك بسبب حدثين :

الأول هو قيام عناصر من الشرطة الفرنسية بالتوجه إلى مقر السفير المغربي في باريس لمحاولة تبليغ استدعاء قضائي إلى السيد عبد اللطيف حموشي، مدير مديرية مراقبة التراب الوطني، للاستماع إليه بخصوص شكاية تقدمت بها منظمة فرنسية غير حكومية (عمل المسيحيين لإلغاء التعذيب) بناء على شهادتين من شخصين صرحا بتعرضهما للتعذيب في المغرب واعتبرا أن الجهاز المخابراتي المغربي ومديره مسؤولان عن ذلك؛

والحدث الثاني هو نشر جريدة فرنسية لاستجواب مع الممثل الإسباني خافيير بارديم، ذكر فيه أن سفير فرنسا في واشنطن (سفير فرنسا لدى الأمم المتحدة في رواية لاحقة) شَبَّهَ المغرب، في علاقته بفرنسا، بـ"عشيقة نضاجعها كل ليلة، رغم أننا لسنا مغرمين بها، لكننا ملزمون بالدفاع عنها".

الرد المغربي كان سريعاً وغاضباً، فقد طلبت بلادنا، رسمياً، توضيحات بخصوص الحدثين، وقامت بتعليق زيارة نيكولا هيلو، المبعوث الخاص للرئيس الفرنسي من أجل حماية كوكب الأرض، واعتبرت التصريح المنسوب إلى السفير الفرنسي جارحاً ويمس بالصداقة المغربية الفرنسية، واستدعت السفير الفرنسي  في الرباط لإبلاغه استياء المغرب واحتجاجه الشديد. وعلقت وزارة العدل المغربية تنفيذ جميع اتفاقيات التعاون القضائي مع فرنسا. واعتبرت السفارة المغربية، في باريس، أن القضايا موضوع الشكايات المقدمة لا علاقة لجهاز السيد حموشي بها، بحكم طبيعة اختصاصاته. ونظم مئات المغاربة تظاهرات احتجاجية في بلدهم و في فرنسا، معتبرين أن السلطات الفرنسية أساءت إلى المغرب وأبنائه وأتت سلوكاً مجافياً لأصول الصداقة القائمة بين البلدين وللأعراف الدبلوماسية ولواجب الاحترام المتبادل.

أما فرنسا، فإن وزارة خارجيتها نفت أن يكون سفيرها، في واشنطن، قد صرح بما نُسب إليه، وأعربت عن أسفها على ما حدث، وأكدت تواصل الحوار مع السلطات المغربية من أجل تطويق الأزمة وإعادة المياه إلى مجاريها. وأجرى الرئيس الفرنسي مكالمة هاتفية مع العاهل المغربي، واتفق رئيسا الدولتين على مواصلة الاتصالات، في القادم من الأيام، على مستوى الحكومتين واستمرار العمل وفق نفس الروح التي تسود العلاقات المغربية الفرنسية، في العادة. واعترف وزير الخارجية الفرنسي بأن خللاً قد وقع بخصوص الطريقة التي تمت بها محاولة تبليغ الاستدعاء الموجه إلى الحموشي وكان يتعين أن تُستعمل، في ذلك، القنوات الدبلوماسية عوض اللجوء، رأساً، إلى الطريقة القضائية والأمنية، ولكنه ذَكَّرَ، في الوقت ذاته، بأن السلطة التنفيذية الفرنسية لا تستطيع التدخل في قرارات القضاء وأنها مطوقة بواجب احترام فصل السلط.

ويظهر أن المغرب لم يقتنع، ربما، بأن ما قامت به فرنسا كان كافياً لإصلاح الخطإ المرتكب في حق المغرب. وإذا كانت أي من القوى السياسية لم تطالب بقطع العلاقات مع فرنسا، فإن الكثير من الأصوات قد ألح على ضرورة تقديم اعتذار رسمي واتخاذ إجراءات أكثر عملية كتوقيف المسؤول الفرنسي الذي نُسب إليه التفوه بعبارات ماسة بكرامة المغرب واعتباره، في انتظار صدور نتائج التحقيق الذي يتعين أن يُفتح حول ما ورد في تصريح الممثل الإسباني إلى الجريدة الفرنسية، وإعطاء ضمانات بأن أي حادث مماثل لحادث استدعاء الحموشي لن يتكرر اتجاه أي مسؤول مغربي. واتجهت أكثر التحليلات، الصادرة في المغرب، إلى اعتبار الحدثين المعنيين مترابطين ويكشفان عن خطة مبيتة لاستهداف المغرب. وقيل، في هذا الصدد، أن فرنسا فقدت توازنها العقلي وأبانت عن استمرار عقليتها الاستعمارية وأنها تباشر رد فعل على "الاختراق" المغربي لإفريقيا والذي يمثل تهديداً لمصالحها الاقتصادية والسياسية والثقافية، وأنها واقعة تحت تأثير ضغط لوبي معاد للوحدة الترابية للمغرب وعامل لصالح البوليساريو ولجناح في الحزب الاشتراكي الفرنسي مقرب من الانفصاليين. وقيل إن الدبلوماسية الفرنسية تتصرف بوحي من ارتباطها المصلحي بجنرالات الجزائر وبالبترول والغاز، وإن هناك علاقة بين ما وقع الآن وبين الكتاب الذي سيصدر في أبريل؛ وقيل إن استهداف حموشي هو رد على حملة جهاز "الدي إيس تي" على التبشير والمبشرين؛ وقيل إن التاريخ يعيد نفسه وإن وجود الاشتراكيين الفرنسيين في السلطة يترافق، دائما، مع قيام أزمات في العلاقة بالمغرب. وتَمَّ التذكير بجرائم فرنسا في مستعمراتها، وبأن إمعان مسؤولينا في محاباة باريس وخطب ودها وإرضائها وخدمة مصالحها، ولو على حساب مصالحنا الوطنية أحيانًا، يُقَابَلَ، من الطرف الفرنسي، بالجفاء والجحود والغطرسة.

وعلى العموم، يتضح اليوم، بما لا يدع مجالاً للشك، أن هناك من يريد أن يجعل من مسايرة مضمون التحليلات والتعليقات المشار إليها آنفاً، واجباً وفرض عين على كل مغربي وتجليا وحيداً للروح الوطنية. وهنا نتساءل : ألا يمكن، مثلاً، أن تملي علينا الروح الوطنية، ذاتها، اعتماد مقاربات أخرى؟

أليس من الممكن أن نميز ونفصل بين حدث استدعاء حموشي وحدث الوشاية الواردة في استجواب خافيير بارديم؟

أليس من الممكن، كذلك أن نميز ونفصل بين قضية "الشكل " وقضية "الجوهر"، بصدد حدث استدعاء الحموشي؟

وهكذا، قد يكون توقيت الحدثين مجرد مصادفة، فمن المعلوم أن القانون الفرنسي أصبح يتيح للقضاء سلطة الاستماع إلى أي شخص، فرنسي أو أجنبي، موجود فوق التراب الفرنسي، وردت، بخصوصه، شكاية في موضوع التعذيب. ومحاولة تقديم الاستدعاء جاءت بناءً على افتراض وجود السيد حموشي في باريس رفقة وزير داخلية بلادنا لحضور اجتماع دولي. ولذلك، فقد لا تكون هناك علاقة بين توقيت الاستدعاء وتوقيت الزيارة الملكية للبلدان الإفريقية. وبما أن مسؤولاً عسكرياً جزائرياً سامياً اضطر، قبل ذلك، إلى الهرب، للإفلات من المسطرة، ذاتها، فمن الصعب التسليم بأن محاولة استدعاء المسؤول المغربي قد تَمَّتْ بتأثير وتواطؤ جزائريين وخدمة لمخطط أعداء وحدتنا الترابية.

ومن المعروف أن القضاء الفرنسي مستقل، ولكن هذا لا يمنع القاضي، باعتباره إنساناً ومواطناً فرنسياً، من استحضار الاعتبارات السياسية ومصالح فرنسا الكبرى، إلا أن ذلك لا يسمح لنا بالقول بأن القضاء الفرنسي هو لعبة في يد السلطة التنفيذية وأصحاب القرار السياسي.

كلام السفير الفرنسي، إذا ثبت أنه صدر عنه فعلاً، يتطلب صدور اعتذار فرنسي رسمي، وربما استقالة هذا المسؤول؛ فمن حقه أن يفكر بالطريقة التي يريد، ولكن المجازفة بنقل ما يفكر فيه إلى فرد أرعن، لم يتردد في الإلقاء بما سمعه في مجرى الأخبار المتداولة بين العموم، تمثل خطأ دبلوماسياً؛ رغم أن هذا لا يعفينا، كمغاربة، من الاعتراف بأننا نتحمل جانباً من المسؤولية في جعل ممثل رسمي للدولة الفرنسية يحمل عنا الصورة التي جاءت في الكلام المنسوب إليه.

ولا بد من الإشارة، هنا، إلى أن جزءًا من هذا الكلام لم تُسلط عليه الأضواء، بالقدر الكافي، وهو قوله : "لكننا ملزمون بالدفاع عنها"، بمعنى أن المسؤولين الفرنسيين، أو بعضهم على الأقل، يعتبرون أننا نخلق لهم متاعب لا تنتهي، ولكنهم، مع ذلك، يشعرون بإلزامية الاستمرار في الدفاع عن المغرب (بما في ذلك، ربما، مساندة مقترح الحكم الذاتي..)، فهو لم يقل إنهم تعبوا من الاستمرار في الدفاع عن بلدنا أو إنهم لم يعودوا يشعرون بأنهم ملزمين بذلك.

بالنسبة إلى (المسطرة البديلة) التي كان يجب اعتمادها في استدعاء حموشي، والتي قد يكون الطرف المغربي لَمَّحَ إليها، فهي إحالة الشكاية على وزارة العدل الفرنسية التي تحيلها، بدورها، على وزارة الخارجية الفرنسية، على أن تتولى هذه الأخيرة إحالتها على وزارة الخارجية المغربية، ومن ثمة تُحال على وزارة العدل المغربية. المخالفة المسطرية المفترضة أقَرَّ بها وزير الخارجية الفرنسي، وبذلك فهو اعتبر أن المسطرة البديلة هي التي كانت واجبة التطبيق. أين المشكل إذن؟

المشكل هو أن إعمال مثل هذه المسطرة "البديلة" يتوقف على مدى استعداد المغرب للتعاون، في هذا النوع من القضايا، والقبول بمساءلة كل من ثبت تورطه، من المسؤولين المغاربة، في التعذيب. وهذا يتطلب وجود قرار سياسي عام ومنهجي بالقطع النهائي مع ممارسة التعذيب. وفي هذه الحالة، يصبح لجوء أي ممثل للسلطات العمومية، من أي مستوى كان، إلى هذه الممارسة خاضعًا للمتابعة والجزاء، وعندها لن يشعر الضحايا بالحاجة إلى الاستنجاد بهيئات أجنبية لإنصافهم.

قبل سنوات، وقع "مشكل" مع إسبانيا (الحزب الشعبي)؛ وقبل شهور، وقع "مشكل" مع أمريكا (صلاحيات المينورسو)؛ واليوم، هناك "مشكل" مع فرنسا. في هذه الحالات الثلاث، كان "المشكل" مرتبطاً، بشكل أو بآخر، بقضية حقوق الإنسان. الروح الوطنية تقتضي منا، أيضا، البحث في ما إذا كان هذا الارتباط قد جاء بمحض الصدفة، وفي ما إذا كنا، دائماً، مظلومين والأطراف الأخرى، كلها، ظالمة !









0 تعليق ل الروح الوطنية

أضف تعليق

البحث في الأرشيف

البحث بالتاريخ
البحث بالصنيفات
البحث في الموقع

البوم : صور