محمد الساسي

avatar

فيدرالية اليسار الديمقراطي

بقلم : محمد الساسي

عاشت العاصمة، يوم 23 مارس 2014، حدثاً سياسياً جديراً بالتأمل والتحليل والوقوف عنده. يتعلق الأمر بالحشد الجماهيري الذي التأم، بقاعة ابن ياسين، بمناسبة الإعلان الرسمي عن ميلاد فيدرالية اليسار الديمقراطي المشكلة من أحزاب ثلاثة هي : الحزب الاشتراكي الموحد وحزب الطليعة الديمقراطي الاشتراكي وحزب المؤتمر الوطني الاتحادي.

لقد تمكنت الأحزاب المذكورة، بواسطة تعبئة وسائل بسيطة، من ضمان حضور جماهيري لم يتوقعه المنظمون، أنفسهم، ومن سيادة جو من الحماس غير المصطنع والفرحة الصادقة والعارمة. لاشك أن عاملاً ما قد حمل الناس على الحضور، بهذه الكثافة، وعلى الشعور بالسعادة والانشراح. وربما تَمَثَّلَ هذا العامل في وجود حالة توق إلى إطلاق مبادرة في الساحة، وإلى تقديم عرض سياسي جديد للمغاربة قادر على إحداث رجة في البلاد، وإلى إعادة بناء أدوات الفعل السياسي النظيف.

إن الإعلان عن تأسيس الفيدرالية هو بمثابة بوح بالعزم على خوض رحلة البحث عن تزويد النضال السياسي بهياكل أكثر تأثيراً وفاعلية وأقدر على مواجهة التحديات والتجاوب مع شروط المرحلة ومتطلباتها. وكانت رسالة حركة 20 فبراير ماثلة أمام الحاضرين في مهرجان قاعة ابن ياسين تسائلهم وتدعوهم إلى استثمار الإمكانات الموجودة في المجتمع. هناك شباب لم يعزف عن العمل السياسي، ولكنه عزف عن ممارسة السياسة من خلال بنيات غير منتجة وغير مبدعة ولا تتقن نهج التصدي للمشاكل السياسية الحقيقية والحيوية بوضوح وإقدام وثقة في النفس وروح عملية بناءة متجهة نحو المستقبل.

تكوين الفيدرالية هو خطوة للارتقاء بصيغة العمل المشترك المعتمدة من طرف الأحزاب الثلاثة، فهي، وإن لم تصل إلى حد الاندماج، فإنها تجاوزت مستوى التحالف. وبالرغم من استمرار العمل، في إطار صيغة اتحاد الأحزاب المنصوص عليها في القانون التنظيمي للأحزاب و"احتفاظ كل حزب من الأحزاب العضوة بشخصيته القانونية القائمة الذات وأنظمته الأساسية والداخلية وأجهزته المسيرة وبرامجه وأنشطته الخاصة"، فإن اعتماد صيغة الفيدرالية، كما وافقت عليها الأجهزة التقريرية للأحزاب الثلاثة، يجعل الفيدرالية، وحدها، ودون أي مكون من مكوناتها، مسؤولة عن التقرير في ثلاث قضايا واختيار طرق ووسائل تنفيذ ما يتقرر بشأنها، وهذه القضايا هي :

1)   المسألة الدستورية، بحيث لا يمكن، مثلاً، الحسم في الموقف من مراجعة دستورية ما، بإرادة منفردة لحزب من الأحزاب الثلاثة؛

2)   المسألة الانتخابية، بحيث لا يمكن أن يستقل حزب عضو بقرار الدخول أو عدم الدخول إلى غمار الانتخابات وتقديم المرشحين وصياغة التحالفات الانتخابية؛

3)   مسألة استكمال الوحدة الترابية، بحيث لا يمكن عرض مبادرة وطنية أو تقديم مذكرة أو إجراء مشاورة رسمية، في الموضوع، إلا من خلال ما تقرره الأجهزة الفيدرالية.

الأحزاب الثلاثة يجمعها عدد من السمات المشتركة، فهي ظلت توجد، دائماً، في المعارضة ولم يسبق لها المشاركة في تجربة حكومية. صحيح أن نتائجها الانتخابية لا تؤهلها، موضوعياً، لمثل هذه المشاركة، ولكن جهات عدة كان سيسعدها ضمان نوع من الإشراك "الرمزي" لحزب أو أكثر، من الأحزاب المنضوية اليوم في إطار الفيدرالية، في تشكيلات حكومية سابقة. والأحزاب الثلاثة تنتمي إلى العائلة اليسارية وتتبنى الخيار الاشتراكي ودعمت حركة 20 فبراير، وإن بشكل متفاوت، وقاطعت الاستفتاء على دستور 2011 وشاركت بلوائح موحدة في محطتي 2007 و2009 الانتخابيتين؛ علمًا بأنه لم يسبق، في الماضي، أن خاضت ثلاثة أحزاب في المغرب، دفعة واحدة وعلى الصعيد الوطني، تجربة تقديم مرشحين مشتركين.

والأحزاب الثلاثة كانت لها، جميعا، علاقة مابالاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، فمنظمة العمل الديمقراطي الشعبي (كمكون من المكونات المؤسسة لليسار الاشتراكي الموحد) كانت عضواً في الكتلة الديمقراطية إلى جانب الاتحاد والاستقلال والتقدم والاشتراكية؛ والتيار الذي يحمل اسم الوفاء للديمقراطية انسحب من الاتحاد، وبسط عناصر رؤيته المخالفة في وثيقة تحمل اسم التيار نفسه، وعقد مؤتمرا اندماجياً مع اليسار الاشتراكي الموحد، وحزب الطليعة وحزب المؤتمر ينحدران، أيضاً، من الاتحاد.

والأحزاب الثلاثة، مع ذلك، تمثل تجارب ومدارس ومسارات مختلفة على أكثر من صعيد. وسيتطلب إنجاح مشروع الفيدرالية الانتباه إلى هذا الاختلاف وعدم تجاهله والتعامل معه بشجاعة وجدية وبما يلائم منطق إعادة البناء.

الحزب الاشتراكي الموحد هو نتاج اندماج اليسار الاشتراكي الموحد وتيار الوفاء للديمقراطية. واليسار الاشتراكي الموحد هو، أيضاً، كان ثمرة اندماج أربعة مكونات هي: منظمة العمل الديمقراطي الشعبي، والحركة من أجل الديمقراطية، والديمقراطيين المستقلين، و"الفعاليات اليسارية". الحزب الاشتراكي الموحد هو أول حزب مغربي تنتقل فيه مسؤولية الأمانة العامة للحزب، في سياق التداول العادي على المهام، إلى امرأة، وأول حزب مغربي يتبنى نمط التنظيم متعدد التيارات، وأول حزب مغربي يتقدم باقتراحات دستورية مفصلة مترجمة لخيار الملكية البرلمانية قبل 20 فبراير 2011. ولكن الحزب لم ينجح في تحويل الإشعاع الذي يتوفر عليه إلى قوة تنظيمية ولم يفلح في تحويل التقدم، الحاصل في مشروعه السياسي، إلى تقدم انتخابي وتنظيمي.

وحزب الطليعة الديمقراطي الاشتراكي تشكل من المناضلين الذين غادروا سفينة الاتحاد الاشتراكي في غمرة صراع حاد دفعت ملابساته بالعديد منهم إلى الانخراط في دورة راديكالية مفرطة، وطُرحت عليهم، بعد عشر سنوات من النقد والاعتراض ومساءلة الآخر، ضرورة البحث عن سبل "تأطير" و"ضبط" الراديكالية وتقديم أجوبة دقيقة لمواجهة واقع سياسي متحول وتجنب السقوط ضحية ثقافة سلبية. عنصر القوة الأساسي في تجربة الطليعة تجلى في قوة تأثير مناضليه في سير جمعيات تربوية والجمعية المغربية لحقوق الإنسان وقطاع المحامين. الآن ضعف هذا التأثير، وغدا عنصر القوة الأساسي متمثلاً، ربما، في حيوية شبيبة الحزب العاملة ضمن حركة 20 فبراير.

المؤتمر الوطني الاتحادي تشكل من المناضلين الذين انسحبوا من المؤتمر السادس للاتحاد الاشتراكي في 2001 ، بعد أن كان الذين يوجدون منهم في اللجنة المركزية، في أغلبيتهم الساحقة، قد تجنبوا التصويت ضد القرارات المؤسسة للخط الجديد للحزب، وذلك، ربما، بتوجيه من المناضل محمد نوبير الأموي الذي كان يفضل ألا يترك للآخرين فرصة اتهامه بعرقلة المسار الذي دخل فيه الاتحاد الاشتراكي أو الإضرار بصورة البلاد وصورة الحزب أو التشويش على المصالحات الجارية، متوقعًا أن تسقط "تجربة التناوب" من تلقاء نفسها كأوراق الخريف. نقطة القوة الأساسية، لدى المؤتمر الوطني، هي الكنفدرالية الديمقراطية للشغل ونقطة ضعفه الأساسية هي الكنفدرالية، أيضًا. أغلب أطر المركزية، من ذوي الانتماء الحزبي، منتم إلى المؤتمر وراكم قدرًا مهمًا من الخبرة. ومن المعلوم أن النقابات العمالية شكلت مصدر قوة أساسيًا في تجارب العديد من الأحزاب اليسارية. لكن حزب المؤتمر مطالب ببذل مجهود جبار حتى لا يظل هناك اعتقاد لدى الكثيرين بأن الكنفدرالية هي الأصل والحزب هو الفرع. لقد اختارت هذه المركزية استراتيجيتها، في خضم الحراك، باستقلال عن مشروع حركة 20 فبراير المفترض، فاعتبرت أن استثمار الحراك لتلبية مطالب "ملموسة" للشغيلة أهم من الانشغال بِهَمِّ التغيير السياسي، بمعنى أنه يمكن حل المشاكل النقابية بدون حاجة إلى حلِّ مشكلة السلطة السياسية أو أن أوان طرح هذه المشكلة لم يحن بعد؛ ثم إن مكانة المناضل الأموي، الذي مهر التاريخ النضالي للمغرب المستقل بمبادراته الجريئة، جعلت، ربما، بعض أطر المركزية يختار، أحيانًا، موقفًا انتظاريًا مادام الأموي كان، دائماً، مصدر المبادرات، ومكانته الاعتبارية الرفيعة جعلت فكرة قيام أحد غيره بتقديم ترشيحه للكتابة العامة للمركزية تبدو غير مستساغة في أذهان الكثيرين.

هناك أسئلة تطرحها الأحداث الجارية حاليًا، وعلى رأسها السؤال المتعلق بأفق التقارب بين الكنفدرالية الديمقراطية للشغل والفيدرالية الديمقراطية للشغل، هل سيصل مداه إلى حد التأسيس لتقارب مع الاتحاد الاشتراكي؟ وفي هذه الحالة، ماذا سيكون مآل فكرة إعادة البناء التي يظهر أن مشروع فيدرالية اليسار الديمقراطي بُني عليها، والتي يُفترض أنها ستُفَعَّلُ خارج العلاقة بالهياكل الوطنية الرسمية للاتحاد الاشتراكي؟ وكيف يمكن الفصل بين تقارب وتعاون المركزيات النقابية، كمتطلب موضوعي للنضال النقابي، وبين التقارب الذي يُراد منه أن يكون جزءا من خطة بناء جبهة ضد بنكيران لـ"إغلاق القوس"؟

وفي جميع الأحوال، يجب الاعتراف بأن هذه الأحزاب الثلاثة (الحزب الاشتراكي الموحد - حزب الطليعة الديمقراطي الاشتراكي – حزب المؤتمر الوطني الاتحادي) تتميز، اليوم، بخاصية أساسية، وهي أنها لم تعرف "الانتقال الديمغرافي" الذي عرفته الأحزاب اليسارية الأخرى والتي أشرف فيها الأعيان الوافدون على تبطيق معاونيهم المرتبطين بهم كأشخاص وليس بالحزب، فتقلص، شيئًافشيئا، حجم وجود وتأثير الأعضاء المناضلين المرتبطين بالحزب وبرسالته.

المقتنعون بمشروع إعادة البناء سَيُثَمِّنُونَ، بلا شك، خطوة تأسيس الفيدرالية على أمل الشروع في التنسيق والتواصل مع فعاليات وكيانات مدنية وفكرية وسياسية من أجل وضع هندسة مشتركة للخطوات المقبلة.









0 تعليق ل فيدرالية اليسار الديمقراطي

أضف تعليق

البحث في الأرشيف

البحث بالتاريخ
البحث بالصنيفات
البحث في الموقع

البوم : صور