صحافة ليست كمثيلاتها
أصبحب أعاني بشكل جدي ،من الأخبار التي تنشرها معظم الصحف المغربية ،وبكل صدق بت أجد صعوبة كبيرة في التخلص من المضاعفات والآثار الجانبية لهذه الأخبار .ويزداد الوضع استفحالا كوني أوهم نفسي كل صبيحة أنني سأصادف أخبارا ذات مصداقية وتقارير وتحقيقات مبنية على معطيات وأدلة وتصريحات منسوبة لأصحابها دون تحريف .لكن للأسف الشديد تفتح الخيبة لي ذراعيها وتعانقني وتعتصرني بقوة ماردة ،كي لا أتجرأ على معاكسة التيار بانتصاري لمعسكر الباحثين عن المصداقية والحقيقة .
أتعجب لمدراء ورؤساء تحرير العديد من الصحف كيف يسعدون ويقفزون فرحا وانتشاء وهم يشرفون على تنفيذ مذابح ضد قدسية ونبل مهنة الصحافة ،بل تجدهم يقدمون دروسا توجيهية في كل المجالات ، بيد أنهم يرفضون التسلح ببعض التواضع كي يقبلون بتلقي درس واحد، هو احترام القارئ وعدم دهس ألف باء إنتاج وصياغة وتقديم الخبر .
صحفنا مهتمة إلى حد التطرف والمبالغة بأحداث تبدو أحيانا تافهة ،وتركب كل المراكب لاقتناص ما تعتبره صيدا ثمينا "خبطة "أوسبقا صحفيا ،وهكذا ينشط الخيال بنوعية الأول والثاني على حد تعبير "روني وليك" صاحب نظرية الأدب ،و يصبح الكذب صدقا، والافتراء حقيقة .ولاغرابة أن يكون هذا المسؤول أوذاك خارج البلاد ،فقد يفاجئ كونه استضاف عناصر قيادية من هذا الحزب أو ذاك بمنزله في إطار هندسة سناريو ما ،أو الترتيب لكعكعة سياسية معينة .
كثر هم الذين تعرضوا للتشويه والتحريف والتنكيل بالقلم وليس القدم .وكشف لي العديد من المسؤولين في مختلف المواقع ، والذين تربطني بهم علاقة صداقة ،أن معظم الأخبار التي تنشر عنهم، غالبا ما تكون مفبركة وعارية من الصحة .
شخصيا تنتابني الصدمة عندما أقرا خبرا عن واقعة ما أكون على اطلاع عليها ،و لا أفهم كيف يسمح بعض الصحافيين لأنفسهم باختلاق أشياء غير موجودة أصلا ،وأحيانا بجهل المعطيات والمعلومات .
هناك قضايا مهمة مرتبطة بحياة وعيش المواطنين ،لكنها لا تجد لها صدى كافيا في جرائدنا ،كغياب الكهرباء من شارع لمدة شهر ،علما أنه معبر حيوي للناس " وانتشار الحفر وتغول النباتات والأشجار في عدد من الشوارع التي تخترق مناطق إستراتجية ،كما هو الشأن في العاصمة الرباط ،حيث تسببت النباتات المتوحشة التي ازدهرت بفضل أمطار ا"لخير ّ وتحديدا بالقرب من وزارة الطاقة والمعادن وعدد من الوزارات، في مجموعة من حوادث السير ،وأخطرها- وقد وقفت عليها بأم عيني - تعرض سيارة من نوع مرسيدس فاخرة كانت مهيأة لنقل عروس ،وكم كان المشهد مأساويا وقد تشوهت السيارة وهي مطرزة بكل ألوان الفرح والاحتفال .وسيارة أخرى انفصلت عنها بعض أجزائها ،كانت مركونة في وضع سوريا لي .
وبخصوص معضلة الإنارة العمومية ،راهنت نفسي لمدة أسابيع ،كي أكذب سوء نياتي تجاه مجلس مدينة الرباط ،وكلما أتيحت لي الفرصة للمرور ليلا عبر زنقة الحفياني الشرقاوي المحاذية لعدد من الأحياء الجامعية، والقريبة من مستشفى الاختصاصات ،إلا وأجد هذه الزنقة الحافية فعلا، تغرق في ظلام دامس .وأتساءل في كل مرة، ألا يمر منها أي مسؤول جماعي أو كبير ؟ علما أن وضعا كهذا، يعتبر بيئة مثالية لارتكاب الجرائم النكراء .
وهناك الوضع الكارثي للمستشفيات الجامعية .في الآونة الأخيرة قادتني الظروف إلى مستشفى ابن سيناء لأطمئن على طفل رضيع أجريت له عملية جراحية دقيقة على القلب بعد مجهودات مدنية وعائلية جبارة كي ينتقل من قرية إزلوكا ببني بوفراح في إقليم الحسيمة إلى الرباط ،وهذا الطفل بالمناسبة هو ابن ابن عمي .لكن الرضيع فارق الحياة في الخامسة صباحا ، ليس بسبب فشل العملية الجراحية ،ولكن لأن وضعه كان أصلا بالغ التعقيد ا ،حيث كان يعاني من اختلالات وظيفية وعضوية وهوياتية "من حيث الجنس الذي ينتمي إليه ".
كان الموقف مؤثرا للغاية فالأب اغرورقت عيناه بالدموع وعانقني بحرارة ،ووضعني أمام الأمر الواقع .قال لي أنا غريب هنا ،فهمت أنه يتعين علي القيام ب بالإجراءات الطبية والقانونية والشرعية المتعلقة بنقل الجثة من الرباط إلى الحسيمة .كان يهمني أن لاينهار الأب وأن يصمد ،علما أن الصمود في مثل هذه المواقف مجرد خرافة .و بكل صدق كان تعامل كل الموظفين إنسانيا وفي المستوى ،غير أن الشيء الذي أثار انتباهي وأنا اكتشف العديد من المرافق والممرات ،هو تضعضع البنايات و ارتداؤها ثوبا كئيبا ،وغياب ما يبعث على الحياة .وصدمت أكثر عندما ذهبت وابن عمي إلى مستودع الأموات ،فهو يجسد معنى الموت بكثافة لا توجد حتى في أ فلام ابرع المخرجين وأقدرهم على التحكم في جموح التخيل و وشطحات الخيال .وقفت اتأ مل جدران "المعلمة "ابن سينا ،فألفتها تعسة وحزينة .ولمجرد رؤيتها يمكن أن يتضاعف المصاب ويستفحل المرض.والعديد من النوافذ مكسر زجاجها ،والطيور تدخل وتخرج كما تشاء ،و شروط النظافة لا تبعث على الاطمئنان ،ناهيك عن الاكتظاظ وازدحام كل المسالك والمرافق بمئات المرضى .
التعا طي مع هذه الوقائع والظواهر، فيه خدمة وأجر ومغفرة وارتياح للبال والنفس .أما الجري وراء أخبار لا وجود لها وجزئيات ترتبط بشكل اللباس وطريقة ارتداء ربطة العنق ،وتسريحة هذه الفنانة أو تلك ، فليس أولوية ولا يشفي غليل المواطنين .
تنويه:الرجاء قراءة هذا النص ، لأن الإرسال الأول لم يتضمن التصحيحات الضرورية .فمعذرة للجميع.