فرنسا التي ...
بقلم : عبد الصمد بنشريف
فرنسا تقيم في عقولنا وقلوبنا وتجري في عروق دمنا، هي أوكسجين اقتصادنا، والشرط الأول لاشتغال ودوران ميكانزمات مؤسساتنا، هي جغرافيتنا اللغوية. هي سلاحنا الثقافي وهي مصدر سلاحنا، هي دواء جراحنا، وطبيب أمراضنا، هي عيادة نخبنا التي يجددون فيها خلايا ودم تفكيرهم، وفيها يتلقون ما يكفي من جرعات الوفاء والولاء لفرنسا الأم.
فرنسا هي شكل لباسنا وهندسة الأذواق التي يسيل لها لعابنا، كلما وطأت أرجل مغربية أو مغربي قطعة من أرض فرنسا. فرنسا هي خزان كفاءاتنا، هي مستودع الطاقات التي نستعين بها بعد الله في تدبير شؤوننا، هي خيال تكنوقراطيينا الذين صاغوا في مدارس ومعاهد النخب الفرنسية من القناطر إلى البولتكنيك شكلا آخر للوطن.
فرنسا هي جلساتنا "العقلانية"، هي دردشاتنا الرسمية وغير الرسمية، حول دولة المؤسسات والمواطنة الفاعلة، والحداثة والحكامة المؤجلة، هي حلمنا الممتد في الزمن، هي أسفارنا المثالية ، هي غنج نسائنا ورشاقتهن، هي مرجعية شباب يجسد معنى الوجود، ومتعة الحياة في ما تغدقه علينا فرنسا من قيم وخيرات ثقافية ولغوية. فرنسا هي ما يتبقى من صور نموذجية ومطلقة في مخيلة وذاكرة كل من يحالفه الحظ لزيارة أرض موليير. فرنسا هي بوصلة كواليس وصالونات نخبنا على اختلاف مواقعها، هي ماضينا الحداثي، هي المغرب ببنيات حديثة، هي ما خلفه ليوطي من إنجازات لن يطعن أحد في طابعها الثوري والتأسيسي الايجابي.
فرنسا هي أفقنا ومستقبلنا، هي مساحتنا الإعلامية التي نعرف كيف نمشي فوقها، وكيف نتفاعل مع رسائلها، هي التلفزات التي تحلم بها شرائح من المغاربة الذين يترددون على باريس، أكثر مما يترددون على مقرات عملهم. فرنسا هي المرجعية الإعلامية غير المستلهمة أو على الأقل المستنسخة من قبل من يتحملون تدبير شؤون إعلامنا العمومي. فرنسا هي محامينا الذي يتقن فن وقواعد الترافع والدفاع عن مصالحنا،هي وسيطنا في تذليل واحتواء الأزمات التي تلم بنا ، هي أمنا التي تطوقنا بدفئها وحنانها وحبها الفياض.
هذه "الفرنسا"، تعيش يوميا محطات سياسية مفصلية وحاسمة، هذه الفرنسا هي ما نشاهده على القنوات التلفزية الفرنسية من نقاش وحوار وتطارح لكل القضايا ومواجهة بين الأفكار والمواقف والتصورات، و تفسير وشرح لمواطن الضعف والأخطاء، هي متعة الثقافة والفن وعمق الفكر ، الذي تتباهى به نخبنا وكثير من مسؤولينا المفرنسين ،والذين لايبادرون إلى فعل نفس الشيء .
من المؤكد، أن ما تعيشه فرنسا من ديناميات مغرية ، له امتدادات إلى مناطق مختلفة من العالم، و له علاقة وطيدة بأوضاعنا وسياستنا واختياراتنا وتحدياتنا كمغاربة، ومن هذا المنطلق، كان من الطبيعي والمنطقي، أن يسير إعلامنا العمومي، وصحافتنا المكتوبة، في نفس مسالك الإعلام الفرنسي ،وكان عليه أن يعمد إلى شرح رهاناتنا الداخلية والخارجية، خاصة و أن فرنسا تسكن فينا ليل نهار،لاسيما إذا استحضرنا حالة تماهي النخب المغربية ـ وبالخصوص المتفرنسة منها ـ مع كل ماهو فرنسي، فهذه النخب معجبة بالديمقراطية والحداثة الفرنسيتين، ومن الإيجابي، أن تتمثل وتستوعب قيم العقلانية والحداثة ، لتحاول غرسها في المغرب، لا أن تتشدق بها في الحوارات الصحافية والجلسات المخملية البعيدة عن هموم البلد وأسئلة المواطنين المستفزة.
ليس بمقدور أحد، أن ينسى شجاعة وتضحية، "جون جوريس"، ووضوح ليون بلوم، وصدق وجدية وجرأة "مانديس فرانس"، فالفترات المتوهجة، في تاريخ فرنسا كثيرة، وما علينا سوى أن نستخلص منها العبر، بدل أن نظل مجرد صدى لسياسة واقتصاد وثقافة ولغة فرنسا.