الديمقراطية والكرامة
لا أدري إلى أي حد فكر الحاكمون ومدبرو شؤون هذا البلد في قراءة وتفكيك مجموعة من المؤشرات الاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية والنفسية والثقافية، بغية استخلاص الدروس والنتائج والعناصر التي يمكن الاستئناس بها عند الإقدام على أي مبادرة من شأنها أن تشعر شرائح عريضة من المغاربة بكرامتهم، وتقنعهم بجدوى ما يرفع من شعارات، وما ينحت من مصطلحات لتلبية الحاجيات السياسية والإعلامية والإيديولوجية.
من بين المؤشرات التي تصيبنا بالخجل، وتشعرنا بالعار يوميا، هذه الطوابير البشرية التائهة في كل اتجاه، والجاثمة في كل مكان، وهي تمد اليد استدرارا للعطف وأملا في الحصول على ما يسد الرمق ويستر العورة. وإذا كانت ظاهرة التسول قد أصبحت منظمة ولها شبكاتها وسماسرتها وجيشها، فما ذنبنا نحن حتى نخضع كل يوم لحصص من التعذيب النفسي والجلد الأخلاقي؟ إضافة إلى ما تشكله سلوكات المتسولين من إزعاج وإرباك ومضايقة لضيوف المغرب متعددي الأهداف، وما يلحقونه من ضرر بصورة مجتمع لا يتردد في التباهي بأنه نموذج يحتذى به في الممارسة الديمقراطية والعدالة والتسامح والتكافل والتضامن والانسجام والوئام.أين هي الدولة؟ والحكومة ماذا أعدت لمسح هذه الوصمة من جغرافية الوطن؟ المؤشر الآخر الذي بفضله صرنا نحتل رتبا عالمية نحسد عليها، يكمن في ازدهار ملفت للدعارة بكل أنواعها.
وحتى لا أجانب الصواب، أستطيع القول بأن المغرب أصبح لدى كثير من الأجانب رديفا لماخور شاسع، وسوقا لتجارة الجنس.
فشوارعنا تغلي ليلا ونهارا بآلاف الضحايا، وفنادقنا المصنفة وغير المصنفة لا تنفخ فيها الروح، ويضخ في فضاءاتها ماء الحياة، إلا حين تحتشد بناتنا في ردهاتها وحاناتها. ولا غرابة في ذلك، فالجسد الأنثوي المغربي بات مقبولا، وهدفا مفضلا لتجار الصناعة الجنسية، وكذلك بالنسبة للمصابين بـأمراض نفسية، والذين يحترفون بيع الأوهام والأحلام. هناك مؤشرات أخرى تنطوي على قدر كبير من الخطورة، مثل انخراط عدد لا يستهان به من المغاربة في الداخل والخارج في عمليات إرهابية، واعتناقهم لفكر وقيم مدمرة. إلى درجة أن الاستخبارات الأجنبية بدأت تتوجس من كل حامل للجنسية المغربية، لأنها ترى فيه "مشروع إرهابي"، قد يفجر نفسه في أية لحظة.
ولكي لا نثقل عقل القارئ بسرد المؤشرات وتعداد الثغرات. نكتفي بما سبق، لننتقل إلى طرح التساؤل التالي. لماذا يرزح المغرب تحت نير هذه الإكراهات؟ ومن ساهم في إنتاج واستفحال ظواهر كان بالإمكان احتواؤها حتى لا نقول استئصالها؟ ولنتساءل أيضا، ألا يعد وجود هذه المؤشرات علامة على إفلاس الدولة وخياراتها وسياساتها؟ جرت العادة في المغرب، أنه عندما يوضع الأصبع على الجرح، وتسلط الأضواء على الاختلالات الهيكلية، تنطلق أصوات مأجورة ومبحوحة لتتهم الفاعل بالتحامل والمبالغة والشماتة وتزييف الحقائق، ولتصنف من يسعى إلى بناء مجتمع عادل ومتوازن في قائمة المشاغبين والسلبيين.
لكن ، يجب أن يدرك من يعشق سماع خطاب المدح والتجميل ،أن انعدام الشفافية والسكوت على الفساد وعدم قول الحقيقة، يفضي مباشرة إلى أن يسحب الشعب ثقته من الدولة والحكومة، و أن يتجاهل مؤسساتها، و أن لا يتعاطى بجدية وحماس مع الشعارات المرفوعة والأجندة السياسية المطروحة، بما في ذلك الانتخابات، التي إذا لم تتوفر شروط اقتصادية واجتماعية لدعمها وإظهار أهميتها، ستبدو مجرد مسرحية تفتقد إلى المصداقية والنزاهة. أليست ظواهر التسول والدعارة والهجرة السرية مرتبطة بغياب العدالة في توزيع الثروة؟ إن مجتمعا يعاني من هذه الآفات ، ودولة تنخرها الفوارق الاجتماعية، يعني وجود أرض خصبة لعدم الاستقرار، وانتشار الفساد، واستحكام الاستبداد الاقتصادي القائم على منطق الريع والمحسوبية والإثراء غير المشروع. وبديهي أن ينظر المحرومون والمستاؤو ن إلى المؤسسات التي تسهر على تسيير شؤونهم بأنها مؤسسات فاسدة.
وحتى لو انبرت الأحزاب التي غالبا ما تلعب دور الكومبارس السياسي، والنقابات التي تتقن الانشقاق، والمجتمع المدني الذي يحيط به التباس كبير إلى إسداء النصح وتقديم وحشد الأدلة لإضفاء المصداقية على الدولة والحكومة، فإنها لن تنجح .وخير لها أن تقول كلمة حق، عوض الانتماء إلى معسكر النفاق الذي يراهن على نخب بلا جذور وأحزاب بلا جمهور.
لقد سبق لمؤسسة السلام الأمريكية أن عددت في تقرير لها صدر حديثا أسباب إفلاس الدولة.ومن بينها العجز عن توفير الخدمات الرئيسية للمواطنين.كالصحة والتعليم المناسب، وغياب فرص الشغل، وانتشار الفقر بين المواطنين إلى الحد الذي يدفعهم إلى العنف والجريمة. وأضاف تقرير المؤسسة الأمريكية، أن الدولة عندما تفشل في إشباع حاجيات شعبها، تجد نفسها أمام طوفان السخط العام. إن المغرب مازال يتمتع بمناعة نسبية لتجنيبه أي انزلاق إلى الأسوأ. لكن، لابد من إجراءات استباقية، ولابد من تنازلات من طرف من يتحكمون في ثروات وخيرات البلاد.ولابد من مراجعة تطاول آليات وطرائق صناعة القرار، واعتماد معايير الكفاءة والاستقامة والوطنية والنزاهة في إسناد المسؤوليات. وأخيرا لا ديمقراطية بدون كرامة اجتماعية واقتصادية، ولا تنمية في ظل وجود تحالفات ولوبيات تهين الشعب وتحتقره، وتتعامل معه على أساس أنه كتلة للاستهلاك وكفى.