يُنشر باتفاق مع الكاتب "عبد الصمد بنشريف"

عندما انخرط الرجل في متاهة السياسة، تفتحت مسامات جلده لاستنشاق أريجها الخلاب، وانتفضت خلايا دماغه للتماهي بسحرها الجذاب حتى صار من الصعب إقامة فاصل بينه وبينها. كان هو هي، وكانت هي هو، علاقة تنطوي على محمول صوفي، تطفو على مساحته المرمرية جسيميات اليوتوبيا، وكائنات الافتتان بالطرائق المقدسة في البوح بالانتماء إلى وهج الفعل النضالي الوطني، يوم كانت الأرض تدكها سنابك الاستعمار، وكان الناس مجرد أرقام باهتة في قائمة الضحايا اللامنتهين..
اندلعت في أوصاله، وأحشائه المتوثبة نيران مبايعة الصد، والوقوف برباطة جأش في معترك إحباط الأحابيل، وتعرية أقنعة الحثالات المتربصة بمن كانت تسطع في عيونهم شموس بديل مشرق، وغبطة عمومية.
استثمر الرجل ما تلقاه من تعليم في الكُتَّاب والجوامع.. فنشأت بينه وبين الصحف رابطة عنيفة وجذرية، جعلته أحيانا يقطع مئات الكيلومترات، للإتيان بآخر الأخبار، ومعرفة ما استجد في القاهرة التي كانت يومئذ خلية تغلي بحيوية حركات التحرر الوطني الشمال-إفريقية
هو الآن يسيج نفسه ببقايا مواقف نحتها في عز زخمه السياسي، يلوكها بنشوة فائقة. بوعي أو بدون وعي يزج بكيانه في يم الحكي الطافح بمرارة ترفض الكلمات وفسيفساء تراكيبها الإفصاح عنها. مرارة تقضم عضلات قلبه، تغرز مخالبها الجارحة في كينونة ذاكرته المترعة بالصدأ والأورام المتقيحة.
سحبوا من تحته البساط.. ذروا في عيونه الصاحية رماد الإجهاض، فتطاير مزقا عبثت بها زوابع الإحباط الناضج، وتبناها الفشل الراديكالي الذي وشح جسده بأبجدية مثقلة بالكدمات والأجواء المأتمية. فقد دحرج الصخرة بإيمان عال، لكن فعله النضالي، ذهب في اتجاه عاكس طموحاته ، فانتصب سيزيفا انبثق من رحم ورشة وطنية، ساهم هو في تشكيل نطفتها وزرع بذرتها. بيد أن بهاء الإسم، وطنين النسب لم يكونا بحوزته، فسقط علمه ولم يخفق في الأفق الأزرق، ولا سارت به الركبان، ولا انبرت الألسن للاعتراف بصولاته القاتلة في غالب الأحيان عندما كان يمنح جسده بسخاء سيال ليستقر بين فكي الدواهي، غير خائف ولا متردد. لأن حرية الشعب والوطن فوق كل اعتبار. وكل التضحيات مندورة لتحصين وصون الهوية والمقدسات، مهما بهض الثمن وارتفعت التكاليف.
سيرته الشفوية غير المكتوبة بالحبر، تعب من معين التاريخ بكل طراوته وتلقائيته، التاريخ، كقطعة حية تسمع وترى وتسجل. يتحدث الرجل عن أسماء عاصرها، وأحداث كبرى عاشها، وأخرى تفاعل معها، فأضفت خاصية استثنائية على حاسة احتفائه بطقوسية ذلك الفرح الجماعي الذي يوم انبلج فجره من بين شقوق الدم، لم يذق هو طعم فاكهته، ولم يلمس لسانه حلاوة عسله، فكان نصيبه ألم الفجيعة التي استساغها وهو بكل شيء ملم.
تبخرت كل الأحلام، فأصيب بنزلة غيبوبة أردته كائنا يقطنه الوهم ويحتله حب الخسارة. رفض التفكير فيما سيأتي، وفيما يخفيه المستقبل. "خدمة الحزب أمر مسلم به، والتعبئة لتوسيع قاعدته التنظيمية مسألة لا جدال فيها، والانضباط للقرارات يعد من أولى الأولويات. قيمة هذه الأشياء أعز من الأبناء والزوجة".
هكذا كان يهتف منطق الرجل ، لذلك لقب بالمخلص، كناية عن إخلاصه لعقيدته السياسية، ودفاعه الأرعن عن منطلقاته ومبادئه. 
الوقائع المثبتة في روايات أبنائه تؤكد "إنه كان عنيفا، وميالا إلى الضرب، وعاشقا للزجر، وهكذا غدا العنف إحدى سماته البارزة، انسحبت على صوته ونظراته. في المقابل، كان من أشد الناس دفاعا عن مفهوم المصلحة العامة، ومحاربة الفساد، وقد خاض في هذا الشأن معارك ضارية وساخنة ضد أولئك الذين كانوا يستغلون نفوذهم السلطوي لاستعباد البشر، ولجم أفواههم إن فاهوا بكلمة تطالب بحق مشروع وطبيعي".
وبعد هذه الرحلة الطاعنة في السخرية والعبث، وجد جسد الرجل نفسه في قبضة الانهيار، حيث شيدت حوله عوالم مظلمة، مدججة برهابات الموت، وعويل الهيستريا. انتشرت في أصقاعه المتداعية أسراب الأوهام الغفيرة. كل ليلة يطرق الموت بابه، فتمتد اليد المرتعدة إلى الكراس الأبيض الموضوع بجوار الوسادة لكتابة وصية ما.
تناسل الموت وصار ميتات، وتناسلت معها الوصايا المختلفة، منها ما يتعلق بالإرث، والحض على التعامل الحسن والخلق اللائق، ومنها ما يطالب الأولاد بتسديد الديون التي في ذمته، والتي يزيد عمرها عن عقود ، رغم أنها خضعت لمجمل أشكال الجدولة.
الليل خصمه الأكبر.. تحت عباءته الفضفاضة ترقد عناكب العلل، وفي زمنه المعتم ينشطر الجسد ويتوزع، فيزيغ العقل عن سكته، وإذا بنوافذ الهذيان المسترسل تنشرع، فيعمد الرجل إلى مخاطبة أشخاص ماتوا وآخرين فصلته عنهم المسافات، وقربته منهم الذكريات المشتركة، والأرض المشتركة والدم المشترك، وقس على ذلك..
على كل من يوجد في المنزل أن يبدي اهتمامه به. أي الإنصات لصرخاته وهلوساته ، وإلا ستلاحقه سيول اللعنة .وعندما يطلع الصباح يستعيد الرجل عافيته ويتصفح جريدته، ويضحك، ويأكل رغم أنه كل ليلة يتوهم موته.

نص نشر ضمن كتابي "أناشيد الذاكرة "عن منشورات اتحاد كتاب المغرب .2013